كان صدى السعال، بذلك الفندق الشبيه بدار للسكن التقليدى بمدينة آسفي، يتردد بشكل قوى فى ساعة متأخرة من تلك الليلة التى انتظرت صباحها بفارغ الصبر لأجرى مقابلة مع ذلك المغامر الذى قطع المحيط الأطلسى على ظهر قارب من ورق البردي، وهو مغامر محترم ينحدر من ذات المدينة المغربية الشاطئية. لكن لم يسعفنى النوم فى تلك الليلة، ولم أكد أنعم براحته، فجارى بالغرفة المجاورة كان يسعل سعالا قويا لدرجة الصياح، فما كان على بعد طول انتظار هدوء روعه سوى الخروج من غرفتى صوب غرفته لعلى أعرض عليه مساعدتي. لقد كان الرجل البدوى مريضا ينتظر انبلاج الصباح لزيارة الطبيب. وبعد تمكينى إياه من قنينة الماء المعدنى التى تخصنى وارتوائه منها وهدوء سعاله هنيهة، نصحنى بعدم استعمالى القنينة "!؟"، فالرجل مريضا يعانى من داء السل. ومثل عبد الرحيم هناك كثيرون من مرضى داء "حمى الليل ونقص الشهية" فى العالم الذى يخلد سكانه، بل يتذكرون، فى الرابع والعشرين من مارس-آذار من كل عام، اليوم العالمى لداء السل، والذى اختار منظموه هذا العام شعار "أنا ملتزم بدحر داء السل"، منطلقهم فى ذلك التزامهم بالتوعية الشعوب ووقايتها، وتجنيبها ويلات السقم العضال، خصوصا منها شعوب الدول المتخلفة، لما للداء المنتقل بالعدوى من آثار سيئة على صحة المصابين ومحيطهم الاجتماعى والبيئي. والمغرب يعد من بين الدول العربية الإفريقية التى سجلت مؤسساتها الطبية حوالى 26 ألف حالة إصابة، ضمنها ما بين خمسمائة وألف حالة وفاة بسبب الإصابة بالداء القاتل، غير أن المصادر الطبية فى بلاد جبال الأطلس، تصرح أن بلدها تعتمد مخططا طبيا يوصف بالاستراتيجى الذى يهدف إلى محاربة الداء فى الفترة الممتدة ما بين أعوام 2006 و2015، وأن المسؤولين الطبيين يعملون على تسريع وتيرة تراجع الداء بالحفاظ على معدل الكشف ونجاح العلاج بأكثر من 90 فى المائة. ويؤكد المعنيون بعلاج الأسقام والأوبئة فى الحكومة المغربية، عملهم المستمر لخفض مستوى انتشار الداء والوفيات الناتجة عنه إصابته، على الأقل بنسبة 50 فى المائة مطلع عام 2015، وذلك تنفيذا لأهداف ألفية التنمية التى تدعو إليها منظمة الصحة العالمية، والمناظرات واللقاءات الطبية العربية، العاملين على تحقيق أهداف التضامن الدولى لحماية الإنسان وبيئته من الأمراض والأوبئة الفتاكة، وضمنها داء السل. فالتقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية يقر بأن علاج المصابين بداء "الوسخ الرئوي" كما وصفه جارى الذى جمعتنى به الأقدار بذلك الفندق فى مدينة آسفى المغربية، وبموجب إستراتيجية "دوتس " DOTS المهتمة بالعلاج القصير الأمد والمراقب للسل، أن الداء انخفض بواقع 8 فى المائة عام 2003، والسبب الرئيسى فى ذلك التقدم راجع إلى ما أحرزته الصين والهند من تقدم فى العلاج، لأنهما بلدان توجد بهما نسبة ثلث الإصابات تقريباً بداء السل فى العالم. لكن الذى يطرح نفسه أمام نسبة الانخفاض المذكورة هو: هل ذلك الانخفاض الذى حققه العالم يشمل الأعوام الأخيرة ما بعد عام 2003 ؟ طبعا لا، والدليل على ذلك أن التقرير الدولي، الذى يعتبر دولنا الإفريقية، وضمنها المغرب، متخلفة فى علاج المرض، وهو تخلف راجع للعبء المزدوج الذى تواجهه البلدان الإفريقية بين السل والإيدز، إضافة إلى محدودية الموارد وتكلفة المصابين ذوى الدخل المتدنى والمحدود، وضمنهم الفقراء والمحرومين الذين لا دخل لهم، وهذا لا يقتصر على الدول الإفريقية وحدها، بل يقر التقرير الدولى صراحة، أن الدول الأوروبية بدورها تعانى من مستويات مرتفعة ومتقدمة من حالات سل يصعب علاجها ومقاومة العقاقير لها، وذلك، يعلق التقرير، ما يحبط التقدم العلاجى فى هذا المضمار. وبدوره تقرير "ضبط السل عالميا لعام 2005" يقر إيجابيا أن انتشار السل عالميا تراجع بنسبة تزيد على 20 فى المائة منذ 1990، وان حالات وقوعه بدأت تنحسر، أو شهدت استقرارا، فى خمس أو ست مناطق من العالم " إلا أن الاستثناء الصارخ يتمثل فى إفريقيا حيث زادت حالات السل ثلاثة أضعاف منذ 1990 فى بلدان تتفشى فيها حالات نقص المناعة المكتسبة ولا تزال حالات السل تسجل زيادة بنسبة 3 إلى 4 فى المائة سنويا". وفى المغرب، وبالضبط فى مدينة خريبكة، ذات الإنتاج الصناعى للفوسفات، سترفع العصبة المغربية لمحاربة داء السل شعار "داء السل أينما ظهر انتشر"، وذلك بغاية توعية سكان الإقليم بمخاطر الداء، وهى مناسبة اعترف خلالها الدكتور المتخصص فى معالجة الداء، وهو فى آن رئيس العصبة المذكورة، أن معدل الإصابة فى المدينة المغربية، خريبكة، بلغ 370 حالة جديدة، وأن بإمكان كل عينة متعرف عليها أن تنقل عدواها بالانتشار إلى حوالى 15 شخص جديد إذا لم يتم التصريح بها، لأن السل، حسب تعريف الخبراء، هو داء جرثومى معدى ينتج عن الإصابة ببكتريا السل التى هى على شكل عصية تدعى عصية كوخ. ولهذا فمواجهة السل فى المغرب، واعترافا بالخطوات النوعية التى قطعها الطب المغربى فى مواجهة الداء الفتاك، اعتبر الدكتور حسين عبد الرزاق الجزائري، المدير الإقليمى لشرق المتوسط بمنظمة الصحة العالمية، خلال ملتقى مديرى البرامج الوطنية لمكافحة السل، بالرباط العاصمة، أن المغرب يعد من أفضل الأمثلة على التقدُّم الكبير فى مواجهة الداء، مشيدا بالبرنامج الوطنى المغربى الذى استطاع أن يكشف أكثر من ثمانية وعشرين ألف حالة سلّ سنويا ً، وبذلك استطاع أن ينجح فى معالجة قرابة تسعين بالمائة من تلك الحالات. وكشف الدكتور الجزائري، أن تكاليف تنفيذ "الخطة العالمية لدحر السل" بلغت ستة وخمسين بليون دولار على مدى السنوات العشر القادمة، ضمنها نصيب إقليم شرق المتوسط، الذى يضم المغرب، ومقداره ثلاثة بليون دولار على أقل تقدير. لكن، ورغم ما يقوم به العالم لمواجهة السل، فالوباء يستمر فى الانتشار بوجود عوامل سلبية كثيرة منها الفقر، ويبقى للبيئة دورها المهم فى الحماية من السل وأمراض التنفس، خصوصا إذا علمنا أن فى أغلب التجمعات السكنية، خصوصا فى المدن المغربية الكبرى كالدار البيضاء، خريبكة، أغادير وآسفى وغيرها من المدن المغربية ذات الكثافة السكانية التى تعرف تعميرا وعمرانا وبناء جماعيا للدور السكنية المزدحمة، غير أنها لا يضم ضمن تصميمها الحضرى حدائق ومساحات خضراء لتلطيف الجو الذى أصبحت الغازات الصناعية السامة تغزوه بقوة. ولهذا يبقى لزراعة الأشجار دورها الهام فى حماية الإنسان من الأوبئة وضمنها السل، كما للتشجير مساهمة كبيرة فى تنمية الحياة وحماية توازنها البيئى من الخلل الذى أصبح العالم المعاصر، للأسف، يشكو من تداعياته السلبية اليوم. فالأشجار والمساحات الخضراء تقوم بتخفيض درجات الحرارة العالية صيفا وترفع درجات الحرارة شتاء، كما أن أكسجينها يحمى العقول والقلوب من الجلطات القاتلة، ويحمى الرئة، العضو الفعال الحيوي، من الإصابة بداء السل الهالك". ""