يُراد للبشرية جمعاء في كل سنة أن تتذكر الحادث الإرهابي الذي هزّ أمريكا يوم 11 سبتمبر 2001. وهو حادث نَدينه ونستنكره بشدة... لكن ما لا يمكن قبوله هو أن تُفرض على البشرية تواريخ بعينها ويُطلب منها أن تذكرها وتتذكرها وتحتفل بها، وفي المقابل يتم التغاضي المقصود عن تواريخ أخرى لا تقل أهمية عن تلكم "التواريخ المفروضة". من مِنّا يتذكر مثلا 11 سبتمبر 1973؟ في 11 سبتمبر 1973 تورطت الولاياتالمتحدة في قصف قصر الرئاسة في سانتياغو عاصمة الشيلي، وأحدثت انقلابا عسكريا، وقتل الرئيس "سلفادور الليندي"، وتم تدمير الديمقراطية الرائدة، وهي بالمناسبة، كما يشهد بذلك الكثير من المتتبعين، أقدم ديمقراطية في أمريكا اللاتينية. وهذا الحدث يطلق عليه الناس المقيمون في جنوب النهر الكبير ( Rio Grande؛ وهو نهر في جنوبالبرازيل يشار إليه كحد فاصل بين شمال وجنوبأمريكاالجنوبية)، ب 11 سبتمبر الآخر. وقد سقط، حسب العدد الرسمي، في 11 سبتمبر 1973 أكثر من 3000 قتيل، والرقم لا يشمل سوى الجثث التي تمكنوا من إحصائها فعلا! ويدعونا المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في بعض دراساته إلى النظر إلى هذا الرقم من وجهة نظر مبنية على أساس المقارنة النسبية (Comparative Population Terms)، أي مقارنة عدد السكان، حيث سيعادل الرقم مقتل حوالي 50 ألفا إلى 100.000 شخص في الولاياتالمتحدة. ويضيف: لم نكن نعرف حتى لوقت متأخر الأرقام التفصيلية لعدد الأشخاص الذين خضعوا للتعذيب؛ فهي بحدود 30.000، هذا يعني 700.000 في الولاياتالمتحدة، كما أن هناك الآلاف من حالات الاغتصاب وأنواع الإساءات الأخرى، والكثير من الناس اختفوا، هكذا بكل بساطة، لا أحد يعرف ماذا حل بهم. بمعنى، يؤكد تشومسكي، أن أمريكا هنا دمرت ديمقراطية فتية. ويضيف تشومسكي إلى مثال شيلي مثالا آخر، وهو الهجوم الذي شنته الولاياتالمتحدة على نيكاراغوا؛ حيث "أوقعت حرب ريغان (1986) ضد نيكاراجوا نحو 75 ألف ضحية بينهم 29 ألف قتيل ودمرت بلدا بكامله". كانت نتائج هذه الحرب ( بالمقارنة النسبية): قتل ما يعادل 2.5 مليون شخص في الولاياتالمتحدة. وهو رقم -كما يقول تشومسكي- يتجاوز بكثير عدد القتلى الأمريكان في كافة حروبها على مدى التاريخ الأمريكي بما فيها الحرب الأهلية. دمرت أمريكانيكاراغوا، وهي اليوم ثاني أفقر بلد في نصف الكرة الأرضية. وبعد أن استحوذت عليها الولاياتالمتحدة مرة أخرى في 1990، انحدرت البلاد نحو الجحيم أكثر فأكثر. والآن تشير التقديرات إلى أن أكثر من نصف الأطفال (في نيكاراغوا) دون سن الثانية يعانون من سوء تغذية حاد، يعني احتمالات إصابتهم بتلف في الدماغ. والأساس في كل هذا هو أن الولاياتالمتحدة دمرت ما حققته نيكاراغوا من تنمية. ففي بداية الثمانينات، عندما بدأت الولاياتالمتحدةالأمريكية الحرب، تلقت نيكاراغوا تثمينا من المنظمات الدولية، وحتى من البنك الدولي للتقدم الجوهري الذي حققته، وفازت بجوائز نظير التطور الذي حققته؛ من بينها جائزة من صندوق الأممالمتحدة للأمومة والطفولة (يونيسيف) للتحسن والتطور الذي أنجزته في مجال صحة الأطفال والتنمية عموما. والآن هي على النقيض تماما، يقول تشومسكي. والأمثلة على هذه الشاكلة كثيرة (العراق أبرزها). وهناك أمثلة كثيرة تشير إلى أن السياسة الأمريكية في العالم (وخاصة في العالم العربي) لا تهمها قيم الحرية والديمقراطية والعدالة... إنما كل ما يعنيها هو الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية التي تمكنها من السيطرة على العالم. وبالتالي فإن حديثها عن التغيير والإصلاح لن يُقنع ولن يُغريَ أحدا. بل إن الأصل في علاقة أمريكا (أقصد السياسة الأمريكية) ببقية العالم هي أنها "متهمة حتى تثبت براءتها" وليس العكس. وكلما سمعنا أو قرأنا موقفا أمريكيا مدعما ومؤيدا لمسلسل الإصلاحات في العالم العربي فيجب أن نشك في النوايا الأمريكية التي تقف وراءه؛ فالذاكرة الإنسانية (والإسلامية بشكل خاص) تحتفظ بالكثير من الذكريات السيئة عندما تستعرض الموقف الأمريكي من حركات التحرر على مستوى العالمي وكذا موقفها من التجارب التي أرادت أن تخط مسارا مستقلا عن التبعية لقوى الهيمنة في الغرب (خاصة أمريكا). دون أن ننسى موقفها من أم القضايا الذي تجسد الصراع بين الحق والظلم؛ أقصد القضية الفلسطينية. من هنا فإن أمريكا ليست مؤهلة لتلعب دور القيادة ما لم تغير من سياساتها تجاه العالم. ولعل ما تم ذكره هو السبب الرئيسي الذي يجعل شعوب العالم العربي والإسلامي، بل وفي العالم بصفة عامة تكره أمريكا. أي إعاقتها للتنمية والديمقراطية... ونحن نتذكر ما تناقله الإعلام الغربي، مباشرة بعد أحداث 11/ 9 المعلومة، عندما أنجزت صحيفة "وول ستريت جورنال" استقصاء دقيقا للرأي العام في العالم الإسلامي، وركزت على من أسمتهم ب "المسلمين الأثرياء" من مدراء شركات متعددة الجنسية، محامين دوليين... في هذا الاستطلاع لم يكن هناك قلق من العولمة؛ فهؤلاء، كما يقول تشومسكي، جزء من النظام الأمريكي.. وكانت النتيجة أنهم يكرهون سياسات الولاياتالمتحدة لأنها تساند الأنظمة الوحشية والقمعية، وتعيق الديمقراطية والتنمية! ونضيف أنهم يكرهونها لأنها تكيل بمعايير متعددة أثناء تعاملها مع تلك الأنظمة. فلا يمكن الجمع بين دعم الديمقراطية في مكان ودعم الاستبداد في مكان آخر! فكما أن العدل والحق لا يتجزءان فإن قيم حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية لا تتجزأ أيضا! إن نموذج ( 11 سبتمبر الآخر) لا يزال متحكما في العقل السياسي الأمريكي، وإن تغيرت أشكاله؛ إذ لا تزال أمريكا تريد إصلاحا وديمقراطية وتنمية على مقاسها وهواها الخاص. وهذا الأمر لا يخص العالم العربي والإسلامي فقط، كما يظن البعض، بل إن أمريكا في تعاملها مع كل العالم تتصرف وكأن هناك تماهيا بينها وبين المفاهيم والمقولات التي تنادي وتبشر بها. وكل من أراد أن يخط طريقا جديدا لإصلاح بلده وتنمية شعبه دون الرجوع إلى الوصفات الأمريكية فإنه يواجه بنموذج (11 سبتمبر الآخر). إننا كما نتذكر 11 سبتمبر المعلوم ينبغي أن نتذكر أيضا 11 سبتمبر الآخر. وكما يجب أن نواجه النموذج الذي تحكّم ويتحكّم في الأول، علينا أيضا أن نواجه النموذج الثاني الذي لا يزال يتحكّم في السياسة الأمريكية الحالية في علاقتها ببقية العالم.