قبل قرابة سنة من السقوط النهائي للاتحاد السوفييتي، وتفككه إلى 16 دولة مستقلة وذلك في 19 غشت 1991، وبعد إرساله للبوارج الحربية وحاملات الطائرات لغزو العراق الجريح، أشار الرئيس الأمريكي في 11 شتنبر 1990م، إلى ولادة "نظام عالمي جديد" (يكون متحرراً من الإرهاب، فعالاً في البحث عن العدل، وأكثر أمناً في طلب السلام؛ عالم تستطيع فيه كل أمم العالم غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، أن تنعم بالرخاء وتعيش في تناغم). وفي اليوم نفسه؛ لكن بعد 11 سنة بالتمام والكمال (11 شتنبر 2001)، سقط برجي مركز التجارة الدولية، ليخرج بوش الإبن ويعلن للعالم انطلاق الحرب الدولية على الإرهاب؛ والتي دشنها بحرب على أفغانستان قتل فيها مئات الآلاف من الأطفال والنساء والعجائز، ثم حرب ثانية على العراق بعد حرب أولى أعقبها حصار وتجويع لم ينفعا في تركيع الشعب العراقي، الأمر الذي احتاج الأمريكيون معه إلى حرب برية وجوية طاحنة أعدموا بعدها الرئيس صدام، وأبادوا الجيش العراقي، وشتتوا العراقيين بتسليم السلطة إلى الشيعة الصفويين بعد مقايضات مع إيران، ثم أصبح الخليج بعدها بنفطه وشعوبه وحكامه في القبضة الحديدية لأمريكا. بعد ذلك استوعب كل قادة العالم الدرس، واستقر في أذهانهم أن من لم يذعن كان مصيره مثل مصير صدام، وأن الخير لشعوبهم ودولهم أن ينخرطوا في الحرب على الإرهاب، وفجأة اشتعل العالم، وأصبح الناس كل يوم يستيقظون على دوي التفجيرات، على امتداد قارات العالم الخمس، ودائما الفاعل هو الإرهابيون المسلمون. كل متطرفي العالم وكل الإرهابيين الذين كانوا يفجرون في العالم طيلة سِنِي الحرب الباردة، تابوا وأصبحوا صالحين مسالمين، ولم يبق في العالم إرهاب ولا إرهابي سوى في صفوف المسلمين، فأقام الأمريكان معتقل غوانتنامو، وزجوا بكل من ألحقوا به تهمة الإرهاب داخل أقفاصه، في حين تكفلت كل دولة من دول العالم الإسلامي باعتقال من اقتضت مهمة انخراطها في الحرب الأمريكية على الإرهاب أن يكون إرهابيا حسب التعريف الأمريكي للإرهاب. ثم وضعت لهذا الإرهاب قوانين حتى ترفع الدول الحرج عن أجهزتها الأمنية والاستخباراتية في عمليات مطاردة واختطاف المشتبه فيهم، والتي لا يمكن أن تتم دون خرق "حقوق الإنسان" وقواعد "الديمقراطية". واشتغلت الآلة الإعلامية الأمريكية وتوابعها في أوروبا لتصور للعالم أن كل مسلم هو إرهابي، فاحتاج العالم الإسلامي لعقد المؤتمرات للتبرؤ من الإرهاب والإرهابيين، وبالغ الناطقون باسمه في تقديم صورة الإسلام المتنور المحب لليهود والنصارى، وأن كل من يدين بعقيدة الولاء للمؤمنين والعداء للمشركين هو إرهابي متطرف وهابي، وحُلت مؤسسات خيرية إسلامية دولية، كانت تنافس أكبر مؤسسات التنصير في العالم، بدعوى تمويلها للإرهاب، وتم الضغط على الدول الإسلامية لتغيير مقرراتها الدراسية وتحذف منها كل ما يتحدث عن اليهود أو النصارى ولو كان من قبيل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقفلت دور القرآن في باكستان والمغرب والعديد من الدول الإسلامية. وبعد توالي سنوات تبين للعالم أن النظام العالمي الجديد، الذي وضعه بوش الأب لم تكن لترسو دعائمه إلا بترهيب العالم وافتعال الحرب على الإرهاب التي أشعلها بوش الإبن لتستكمل أمريكا مشروعها في الهيمنة على مصادر الطاقة في الخليج وتضمن استمرار قوتها الاقتصادية وأمنها القومي بعيدا عن أي تهديد. انخراط نظم الدول الإسلامية في الحرب الأمريكية على الإرهاب جعلها تقف في مواجهة شعوبها ودفعها إلى ممارسة الظلم ومخالفة القوانين، فانضاف السجن والظلم والقهر إلى الاستبداد السياسي واحتكار الثروة والسلطة، الأمر الذي جعل الشعوب تصل إلى درجة من الاحتقان فرضت على أمريكا والغرب أن تخلي بينها وبين حكامها. ولأن تقارير أمريكا الاستخباراتية، كانت تجمع على قرب انفجار الشعوب، فضلت أمريكا والغرب أن يرفعوا تأييدهم عن عملائهم الذين انتهت صلاحياتهم، ولم يعد لهم نفع في النظام الدولي الجديد، فسقط بن علي وفر إلى السعودية، وقتل القذافي ثم خلع مبارك، وسادت الفوضى بين الناس، وبدأت لعبة الديمقراطية، وأفرزت صناديقها خلاف ما تشتهيه أمريكا وشركاتها العملاقة وعملاؤها المخلصون، وصعدت الحركات الإسلامية في تونس ومصر، فبدأت التدخلات الأجنبية والمكائد الاستخباراتية، وقتل البراهمي وبلعيد في تونس حتى يخضع إسلاميو النهضة لشروط العلمانيين التونسيين التي هي نفسها الشروط الأمريكية والغربية، كما تم الانقلاب على أول انتخابات نزيهة في تاريخ مصر ليستعيد نظام مبارك العميل الأمريكي موقعه من الحكم، ويزج بإسلاميي مصر ودعاتها في السجون، ويقتل الناس ويحرقون في الميادين والمساجد والبيوت، وتقفل القنوات المعارضة خصوصا الإسلامية، لتستمر معاناة الشعوب الإسلامية؛ وليستمر مسلسل البحث عن الاستقلال والحرية، ويستمر الطغيان والاستبداد، وتبقى أمريكا والدول الغربية هي المدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. ديمقراطية أمريكا وتدخلاتها في شؤون الدول كان موضوع دراسة نشرها المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن تناولت نظام العلاقات الأمريكية الدولية، ونقل مؤداها الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي حيث يقول(*): (بينما تقدم الولاياتالمتحدة خدمة لسانية للديمقراطية، فإن التزامها الحقيقي هو ل"المشروعات الرأسمالية الخاصة". وعندما تتعرض حقوق المستثمرين الأمريكيين للتهديد، فعلى الديمقراطية أن ترحل، ولا بأس أن يحل حكام التعذيب والقتل). أليس السيسي نموذجا لحكام التعذيب والقتل الذين تنصبهم أمريكا حتى تضمن استمرار هيمنتها على النظام الدولي الجديد؟ ولأن مصر كانت هي البلد الوحيد المؤهل للنجاح والخروج من التبعية الأمريكية، اعتبر مهندسو السياسة الخارجية الأمريكية أنها ستصبح المثال المحتدى لباقي الشعوب والبلدان الإسلامية، الأمر الذي سيشكل خطرا على أمن الكيان الصهيوني، ويهدد المصالح الاستراتيجية لأمريكا، لهذا وجب على أمريكا ألا تقوم بدعم الحكومة المنتخبة، ومنعت حلفاءها في الخليج كذلك من دعمها، واستمرت في تقديم مساعداتها المالية والاستخباراتية للانقلابيين حتى يستمر العسكر في كتم أنفاس الناس في الشوارع. ولما لم يُجْدِ ذلك في ردع المصريين، بدأت أمريكا في الضغط على الحكام في البلدان الإسلامية ليقوموا بسن قوانين واتخاذ قرارات تعتبر الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، حتى يستمروا في لعب الدور نفسه الذي لعبوه في الحرب على الإرهاب. ولنترك الأمريكي نعوم تشومسكي يكمل كلامه عن دعم أمريكا للانقلابات في العالم: (دعمت الولاياتالمتحدة إعاقة الحكومات البرلمانية، بل أسقطتها عام 1953 في إيران، وعام 1954 في جواتيمالا، وساند كينيدي عام 1963 انقلابا عسكريا لمنع استعادة الديمقراطية، وفي عامي 1963 و1965 في الدومنيكان، وفي البرازيل عام 1964، وشيلي عام 1973، وكثير من المناطق الأخرى. تطابقت سياساتنا في كثير من الدول مع ما فعلناه في السلفادور.. لم تكن الأساليب طيبة جداً، لم يكن عمل القوات التي حركناها في نيكاراغوا، أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلڤادور أو جواتيمالا، لم يكن عملهم هو القتل العادي، ولكن كان بصفة رئيسية القسوة والتعذيب السادي: تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وتقشير بشراتهن، قطع رؤوس الناس وتعليقها على خوازيق، رطم الأطفال بالحوائط. الفكرة هي سحق الوطنية التي تدعو للاستقلال، والتي قد تجلب الديمقراطية الحقيقية). ثم يستطرد الفيلسوف الأمريكي في حديثه عن تعامل بلاده مع حكام دول العالم الثالث المستضعفة: "القصة معروفة ومتوقعة ومكررة، يتحول الحاكم من الصديق اللطيف الذي يعتمد عليه -فيستحق التأييد، ويكال له المديح- إلى الطاغية الفاسد المستبد فور أن يبدأ بارتكاب جريمة الاستقلال؛ الخطيئة الشائعة هي تجاوز سرقة فقراء شعبه، إلى البدء في التدخل فيما لا يعنيه من أمور الصفوة ومصالح رجال الأعمال والشركات الكبرى (الأمريكية بالطبع)". إننا لا نندهش من تسلط أمريكا وحرصها على الهيمنة، لكن ما يثير الاشمئزاز هو أن تصطف دول كالإمارات والسعودية مع أمريكا في حرب الإسلاميين وقتل المسلمين من أجل مصالحهم الاقتصادية، التي أوهمهم الأمريكيون أنها ستكون مهددة إذا نجحت المشاريع التنموية لحكومة مرسي خصوصا مشروع توسيع قناة السويس، والذي جعل الإمارات تنخرط دون شرط في الإطاحة بالحكومة المنتخبة والوقوف إلى جانب الانقلابيين. ربما نحتاج تلمس بعض عناصر الإجابة عن كثير من الأسئلة، من خلال الإطلاع على حجم النفوذ الذي تحظى به الشركات الأمريكية والإنجليزية في البلدين خصوصا في دولة الإمارات التي يعتبر العديدُ من الباحثين أن دُبي أصبحت بمثابة تل أبيب الخليج. أما عندنا في المغرب فقد تم تحديد المجال لحكومة الإسلاميين بالشكل الذي يحافظ على قواعد الاستثناء المغربي، الذي يحلو لأمريكا وسياسييها أن يشيدوا به، حتى تمتثله الدول التي لا ترغب في أن تلق مصير مصر. ولأن أمريكا لا حليف لها سوى مصالحها، نراها اختارت تعييين سفيرها الجديد دوايت بوش من طينة الصقور الاقتصاديين المتخصصين في تثبيت قواعد الاستغلال الأمريكي، إذ ليس من قبيل الصدف أن يأتي هذا التعيين متزامنا مع هذا التحرك المغربي الهائل في إفريقيا، خصوصا وأن اتفاقيات التبادل الحر بين المغرب وأمريكا قد استكملت كل آجال التنفيذ، فلسنا في منأى عن الاستغلال الأمريكي. والمرعب أن الكل مجمع أن ليست لنا المناعة ضد قدراتها الاختراقية، والتي ربما من آخر مظاهرها قبول العديد من الأحزاب لصدقة المعهد الأمريكي للديمقراطية والمتمثلة في أن يتكلف المعهد بأجر مستخدم أو مستخدمين وبواجب كراء مقرين تابعين للحزب. والمؤسف أن مسيرة الإخضاع والاستغلال للمسلمين من طرف الأمريكان لا تزال مستمرة، رغم كل الحروب التي دُفعت مصاريفُها ومخلفاتها من ثروات الشعوب الإسلامية ومئات الأرواح من المسلمين، فمتى يستيقظ المسلمون؟