أوْقفْ المعلم ولا تقِفْ له: ذات صباح؛ في مستهل سنتي الأولى في التعليم الابتدائي-1970- ركبت دراجتي النارية الجديدة ,قاصدا الفرعية المدرسية التي عُينت بها. كنت كمن يطير على بساط من شدة الفرح؛ وهو فرح مزدوج:تزوج الوظيفة التي أحببت؛ثم التمكن من اقتناء دراجتي النارية الجديدة؛وان بقرض. لم تبق الا الحبيبة لتكتمل ثلاثية السعادة؛كما كنت أتصورها وقتها ,وأنا دون العشرين. لما استوقفني الدركي خلت أن الأمر يتعلق بإجراء روتيني يدخل في اطار المراقبة؛ لكني صحوت من نشوتي ,وأنا أراه يكشر في وجهي ويسأل :كيف لا تحترمنا؛أتحب ألا يحترمك تلامذتك؟ ورغم أنها المرة الأولى التي أتعامل فيها مع دركي ,في الطريق ؛رددت عليه تكشيره ,وسألته بدوري: في أي شيء لم أحترمكما؟فهمت من جوابه أنه كان علي أن أنقص السرعة, وأستعرض وجهيهما ؛ثم أمضي إن لم تصدر عنهما إشارة بالتوقف. ورغم تذرعي باقتراب وقت العمل كانت العقوبة غريبة؛ لعلها تخرج من قانون السير والجولان لتدخل قانون "الحكرة"-غير المكتوب- الذي عانى منه رجال ونساء التعليم لعشرات السنين: اسمع أيها المعلم لن ألزمك بالذعيرة,ولن أحجز دراجتك الجديدة,لكن أفْرِغ ْعجلتيها من الضغط الهوائي ,وتدبر أمرك بعيدا عنا.. لم يكن لي الا أن أفعل ؛وهل أترك الحبيبة الغالية بين يدي الدرك؟ هل أترك أحبتي الصغار ينتظرون في باب الفصل؟ أشكرك أيها الدركي لأنك علمتني ,يومها,أمرين: 1.تحقير كل أعوان المخزن- وقتها ,وعلى مدى سنوات الرصاص- لرجال التعليم؛ ومع الأيام لم تزدد هذه القناعة الا رسوخا. 2.أن أحرص على إتمام دراستي,وعلى العلم,عساني أخرج من هذا الدرك الأسفل الذي ألقيت فيه بنفسي. المعلم ,موضوعا للتندر: لا أحد فيكم لا يحفظ نكتة بطلها معلم؛ وقد تكون بدايات هذا الفن اللاتربوي-وهو عميق الدلالة في المجتمعات المتخلفة- مع"نوادر المعلمين" للجاحظ؛ لكن هذه النوادر لها نكهتها الخاصة ,ولم توظف لغير التندر البريء. وربما حتى مع سفهاء قريش؛ وهم يستهزئون و يردون على الرسول صلى الله عليه وسلم دروسه الأولى ؛تأسيسا على أمر الهي صارم أن " اقرأ", وتتضمن "أَقْرِئ". ما خوطبت أمة بكل هذه الشحنة الآمرة, التي لا يبدوا أن الأمة الإسلامية وعتها تمام الوعي؛ولو وعتها,بحق, لتعلمت أن تعلم الأجنة وهي عَلَق. بل أدْمَتْ جَسدَه الطاهر أحجارُ صبيان الطائف؛حتى انْتبذ مكانا قَصِيا, وهو يضْرع إلى الله ؛كأي معلم حُقر: "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي...". وربما القلة فقط هي التي تسأل :مَنْ وراء كل هذا التبغيض للمعلم و للتعليم- وبالتالي للعلم؟ هل تواترت نكت عن الشرطة والدرك وغيرهم من موظفي الدولة؛قبل الفايسبوك طبعا؟ منذ سنين حضرت مأدبة ؛انتهى فيها النقاش إلى "قشابة " المعلمين ؛فقال أحد الحضور مفسرا انحراف الأبناء: لا تضربوا أبناءكم ؛فتشوا عن المعلمين واضربوهم ؛هم السبب في كل ما تشتكون منه. ولما كان الرجل أبا لطبيبين ومهندس خاطبته: يا هذا لوقالها غيرك ؛ممن غادر أبناؤه المدرسة بخفي حنين ,لفهمت هجومه لكن أن تقولها أنت ؛فهذا عيب ؛بل جحود ونكران. انتهى الجدل الى :"هادوك المعلمين ديال زمان". اسمع ,حتى معلمي زمان "فشوا ليهم الروايض" ؛كما تفعل أنت الآن . ثقافة أطبقت ,طيلة سنوات الرصاص ,على مجتمع لو بسط الزرابي لرجال التعليم ؛وهم في طريقهم الى المدارس,لعُد مُقَصِّرا. مجتمع تنخره الأمية ؛ويشيع فيه الجهل إلى درجة أنك تركب القطار لساعات طوال ؛وقل أن يجالسك ,فيها مثقف ؛أو يجالس كتابه. لقد أسلس هذا المجتمع القياد لرجال دولة وساسة لم تكن نياتهم حسنة دائما. لا تحرك من لا يحرك ساكنا ؛مقولة فرنسية- ذات اشتغال مغربي- لعلها لمقيم عام ؛ قالها حينما أثير أمامه موضوع "إصلاح" الدراسة بجامع القرويين. وبعده قال الصدر الأعظم للملك محمد الخامس ,رحمه الله, وهو يدشن سلسلة المدارس التي حملت اسمه: كيف؟ أتسمح للشعب بالتعليم؟ أو ما في معنى هذا الكلام. سأبتدعها ؛رغم أنف من يرى في كل بدعة ضلالة: إنها "ثقافة كراهية العلم".تعبير مفارق, لكن بعض مفاهيم الثقافة -وهي بما يزيد عن مائة وأربعين تعريفا- تتسع لها. كان أحد اللوردات الانجليز يقول: حينما أسمع كلمة ثقافة أخرج مسدسي؛ لأنه يعتبرها شعبية ومهددة للأمن العام. هذا المسدس هو الذي وجهته سنوات الرصاص إلى صدر كل معلمة ومعلم ؛مهما يكن السلك الذي يشتغل به؛ حتى قال أحد الزملاء؛وهو من دكاترة الأدب بجامعة سيدي محمد بن عبد الله : لقد كان الفنان الرويشة زميلا لي في الدراسة؛ فقط أنا أصابتني الجائحة, وهو نجا منها بفضل عشق الأوتار. مفارقات ميدانية حقيقية: أحيلكم على إحصائيات مجلس النواب,بغرفتيه, المتعلقة بالمهن الأصلية للبرلمانيين؛وأحيلكم على جميع الأحزاب السياسية لتقفوا على الشريحة العُمْدة في منخر طيها. ثم عرجوا-جهويا- على كل المجالس المنتخبة, وجمعيات الآباء والأولياء, لتعرفوا نسبة رجال التعليم فيها. بعد وجبة الأرقام هذه استمعوا الى مفارقات مفتش متقاعد- تقاعد وظيفة وليس تقاعد هَم- بدأ حياته التعليمية بعجلتين "مفشوشتين" حتى لا يصل الى تلامذته: المفارقة الأولى: في ثانوية من ألف تلميذ؛ لا يحضر اجتماعات الآباء سوى العشرين وأقل.وقفت على هذا ميدانيا. المفارقة الثانية: ضمن المجالس التربوية ,المقررة للمؤسسات التعليمية ,بموجب الميثاق الوطني للتربية الوطنية ,وترسانته التشريعية,مجلس يجب أن يحضره منتخبون ممثلون للجماعات القروية والحضرية. طيلة ترددي على المؤسسات لم أسمع سوى تشكي رؤساء المؤسسات من "تكبر" هؤلاء ,ورفضهم الحضور الى جانب رجال التعليم؛تحقيقا لانخراط المحيط في الشأن التربوي؛كما نص عليه الميثاق. المفارقة الثالثة: المفروض في المجالس الإدارية للأكاديميات أن تشتغل على "جينات " المنظومة التربوية الجهوية حتى لا تكون مخرجاتها مريضة ومشوهة؛وهذا يفرض أن يُمثل فيها ذووا الدراية بمثل هذا العمل ؛لا أن تكون التمثيلية قطاعية شكلية تتأتى لأسماء تُجهل معايير اختيارها. يلتئم المجلس برئاسة السيد الوزير ؛ويتحكم في أدائه مستوى الحضور ,ومدى اهتمامهم بالشأن التربوي. وقد أكدت التجارب أن أغلبية الحضور لا علاقة لهم بالشأن التربوي ؛ولولا رئاسته من طرف وزير ,وحضور الوالي,لما كلفوا أنفسهم عناء التنقل الى مقر الاجتماع. ذووا الاختصاص من المشاركين يضعون في حسابهم ,مجبرين,أن عرض السيد مدير الأكاديمية يجب ما قبله وما بعده. وليست بعيدة عنا قصة النائب الذي منعه وزير يساري من الحديث ,بخلاف ما يقول السيد المدير؛لينتهي به الأمر موقوفا . لم تستطع كل احتجاجات الهيئة التربوية أن تعيده إلى نيابته التي أبلى فيها البلاء الحسن. ذات مجلس ,بإحدى الأكاديميات كلفت من طرف مديرها بانجاز وإلقاء عرض حول أنشطة البحث على مستوى الفرق التربوية. كان يتردد علي في مكتبي زميل مخضرم ,يعرف دواليب الإدارة من كثرة المناصب التي تولاها,إضافة الى؛ البرلمان.كان كلما لا حظ انشغالي بالعرض ,وحرصي على أن يكون في المستوى ؛خصوصا وسيكون من ضمن الحضور رئيس المجلس الإقليمي, وقتها , السيد عبد الواحد الراضي؛ وهو الجامعي , و صاحب الكتاب المرجعي"التنشئة الاجتماعية"؛ الا وخاطبني ضاحكا:هون عليك لن يستمع الى عرضك , ولا الى عرض المدير أحد من الحضور,خارج أسرة التعليم .ويضيف:سينتظرون أن يأخذ السيد الوالي الكلمة ليهشوا ويبشوا في وجهه حتى ولو حدثهم عن السمك في مرسى المهدية. لقد صدق الرجل ؛وأذكر أنني تألمت حينما لم يناقشني أحد في مضمون عرضي الذي سهرت من أجله الليالي ؛لكن ما آلمني أكثر هو أن يكون من ضمن الصامتين, صمت أبي الهول, الدكتور عبد الواحد الراضي نفسه؛وقد حسبت له ألف حساب. فعلا تحدث السيد الوالي ,واشرأبت الأعناق ؛رغم أنه ابتعد ما وسعه الحال عن موضوع الاجتماع. المفارقة الرابعة: في كل الأكاديميات توجد فرق تربوية تغطي جميع التخصصات ؛وينشط ضمنها- تنظيرا وممارسة في الأقسام- الأساتذة المتميزون ومفتشو المقاطعات. أكبر المعيقات التي عانينا منها , ونحن على مرمى حجر من الرباط,عدم وجود جهة قارئة بالوزارة ،تكلف نفسها اشعار الفرق –ولو بسطور معدودة- أنها تواكب الإنتاج التربوي , ومستعدة للمساهمة في تنفيذ ما يحتاج إلى غلاف مالي. ذات يوم سألت أحد المسؤولين الكبار بالوزارة عن هذا الصمت الغريب ؛والقوم في حراك على مستوى الميدان .أجابني بأن بالوزارة دهاليز ملأى فعلا بالبحوث لكن من يقرأ؟ انتهت الفرق إلى إدراك اللعبة؛خصوصا حينما صدر الكتاب الأبيض ,في وزارة السيد عبد الله ساعف,ولا أثر فيه لأي شيء مما اشتغلت عليه الفرق لسنوات. أسْقَط كل شيء وبدأ من الصفر بأشخاص جدد. المفارقة الخامسة: في حياة وزارة التربية الوطنية الكثير من المحطات العصيبة التي أوصلت مسؤولين نافذين الى القضاء؛وأشهرها قضية التغذية المدرسية التي استغلها البعض لنهب الملايير. ولا أذكر أن مسؤولا تربويا حُمِّل – إزاء فشل إصلاح ما,بتقصير أو خطأ منه – المسؤولية ,وصولا إلى القضاء . رغم تطور أساليب التقويم ,بل وتخصص مؤسسات محايدة فيه, لا أحد يُحاسَب عن الشأن التربوي ؛ولا أدري أي قانون يشرع هذه الحصانة. أتمنى أن تقتلها العبارة الدستورية؛وهي بإطلاق: "ربط المسؤولية بالمحاسبة". المفارقة السادسة: الإدارة التربوية قطب الرحى في الإصلاح البيداغوجي؛ إليها المنتهى –مركزيا وجهويا واقليميا ومحليا- في تنزيل أي مشروع وتتبعه. في موضوع سابق بلغ بي الإلحاح الى حد الرجاء :أيها الوزير أعط القوس باريها. اليوم أضع خطا عريضا تحت ما يلي: ابحثوا عن أطر الإدارة التربوية –بصفة خاصة مناصب مديري الأكاديميات والنواب- في المشاتل التربوية , وليس في الحدائق البهيجة للأحزاب. مشاتل الفرق التربوية والمؤسسات التعليمية ابحثوا عن سلالة القنافذ وليس الأفاعي الملساء. لا يخيفكم المشاكسون فهم هكذا لأنهم معتدون بأنفسهم ؛عن صدق غالبا. هؤلاء لا يمكن ألا يقودوا السفينة الى بر الأمان حينما توكل إليهم. كم من نائب عينته الولاءات ؛وحينما شرع في الممارسة فضحته اللاءات حيثما ولى وجهه؛ لأنه خطاء خطاء خطاء. أعتقد أن لكل مشروع إصلاحي رجاله المؤهلين له ؛ وقد يصلح غيرهم لأمور أخرى. لماذا لا يتم الربط - الى اليوم - بين مضامين المشروع الإصلاحي والرجال الذين سينزلونه.؟ لقد جرت العادة أن تنظم حركات التنقيل والتعيين دون استحضار متطلبات المرحلة؛بل شرع في تنزيل الميثاق دون التفكير في استبدال العجلات المهترئة. محرك جديد بمئات الخيول في هيكل مهترئ . وتترى المفارقات ... المنع؛بأي معنى؟ بالمعنى الذي يجعل الشأن التربوي على رأس الأولويات ,وترصد له الأموال والموارد البشرية؛ لكن تنزرع فيه بذرة الفساد ,بدءا, و تلازمه وتنخره ,بخفاء, إلى أن يخر صريعا لا يصلح إلا لقصائد الرثاء. ان لفظة " التقاف" التي تبرر بها العامة العجز الجنسي للعريس ,وهو يواجه عروسه ولا مفر ؛ تصدق في التعبير عن تمنع نظامنا التربوي إزاء كل مشاريع الإصلاح. من "تقف" المنظومة التربوية ؛حتى لا نثقف أحدا؛ إلا لماما؟ من يمنعنا من أن نقيم نظاما تربويا فاعلا في مشاريعنا التنموية ؛وفاعلا في منظومة القيم والسلوك ؛حتى لا يبقى مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية إلا وأطره؟ موانع عدة ابتدأت مع مقولة الصدر الأعظم ؛ورغم جواب المغفور له محمد الخامس, وجد من اجتهد ليجهض تشكل الوعي الشعبي , ويحرق مشتل المواطنة . ومن مجلدات هذا الاجتهاد ازدراء العلم وأهله ؛وصولا الى نوادر المعلمين العصرية . كل هذا كرس عدم الانخراط العام في الشأن التربوي.عدا سؤال النجاح والرسوب لا تحرص الا القلة على تتبع مسار دراسة أبنائها. ومن المفارقات أن يحصل هذا والأسر لا تبخل بمصاريف التعليم. تتألم لغلاء الماء والكهرباء ولا تفكر في التقتير على التمدرس ؛لكن دائما دون سؤال الجدوى. انه نوع من الرهاب يصيب الأغلبية؛رهاب التعليم الذي يؤدي حتى الى كراهية التردد على المؤسسات التعليمية. حتى فئات رجال التعليم المنتخبين انتهى بها الأمر الى أن تبتعد كلية عن الشأن التربوي في تمثيليتها . انه مانع حتى من أنفسنا. إننا بحاجة الى ربيع تربوي ينخرط فيه الجميع ؛ولن يفضي هذا ,فقط,الى نجاح خارطة الطريق البيداغوجية, التي رسمها جلالة الملك ؛بل سيؤدي ,مع الوقت,الى زوال الكثير من أمراضنا الاجتماعية والسياسية ؛ومنها الفساد. ان إسقاط الفساد يبدأ من ربيع تربوي يزرع ويسقي أزهاره الجميع. لا مانع لهذا الربيع إلا من أنفسنا. [email protected] Ramdane3.ahlablog.com