مناجم جرادة وبيداغوجيا الإدماج:أية علاقة؟ لعل كل من قرأ “جير منال” رائعة ” إميل زولا” الا وتوقف عند لحظة مؤلمة يسوي فيها هذا الروائي الفذ بين آلام الإنسان والحيوان: إنها لحظة مفارقة الحصان الشقي لنور الشمس ؛حين يشرع العمال الأشقياء,بدورهم,في إنزاله ,الهوينى,الى أغوار المنجم السحيقة,ليقضي ما تبقى من عمره في جر عربات الفحم: يصهل صهيلا حادا ومروعا؛ مودعا حياة النور, وكأنه يعلم أنه لن يخرج حيا أبدا. كلما قادتني الظروف الى مدينة جرادة الا وتذكرت “جيرمنال ” وخيول إميل زولا ؛لكني هذه المرة أتذكرها عن بعد؛وفي مناسبة بيداغوجية ؛تبدو أبعد ما تكون عن مآسي مناجم الفحم. حينما أقدمت الحكومة,في ثمانينيات القرن الماضي- بغتة-على إغلاق مناجم جرادة ؛إغلاقا بائنا, لا رجعة فيه ؛سألت أحد معارفي من مهندسي إدارة المفاحم: هل هذا القرار صائب ؟ أجابني بأن الإغلاق السليم- تقنيا ,اقتصاديا واجتماعيا- يقتضي عشرين عاما ؛تخفض فيها الطاقة الإنتاجية ,والموارد البشرية ؛وتسوى معاشات العمال ,وتناقش البدائل الاقتصادية المحلية ؛وصولا الى لحظة الصفر. كلما تناهى الى علمي وضع صعب, من أوضاع ساكنة جرادة, الا وتذكرت قول هذا المهندس. لكن من اتخذوا القرار لم يكونوا يستمعون الى مثل هؤلاء المهندسين المواطنين. كأني بوزير التربية الوطنية -إذ قرر قطع الأوكسجين عن بيداغوجيا الإدماج- يستعيد لحظة إغلاق مناجم جرادة ؛دون أن أتمنى للساحة التربوية أن تعيش ما تعيشه ساكنة هذه المدينة. كرونولوجيا التخبط البيداغوجي: رغم أن وضع رجال التعليم الممارسين؛من أساتذة ومراقبين تربويين ومديرين,لم يصل بعد الى شقاء خيول إميل زولا ؛فان مؤشرات عدة تؤكد أن وزارة التربية الوطنية لم تقطع ,بعد,مع المضي في هذا الدرب؛ومن سار على الدرب وصل.. قضيت في التعليم خمسا وثلاثين عاما ؛تقاعدت ,بعدها طوعا لأسباب أشترك فيها مع أغلب الذين فك الله أسرهم؛ من مسؤولين إداريين,كانوا يأكلون مرؤوسيهم كما تفعل القطط مع صغارها ؛حين تنفرهم. تدرجت ,طيلة هذه المدة,في مختلف الأسلاك ,وصولا الى المراقبة التربوية, والتنسيق والتأليف ؛ووصولا الى قناعة استحالة الاستمرار في العبث؛فغادرت في من غادر. التخبط الأول: يمكن لأفواج المراقبين التربويين ,الذين توالى تخرجهم ,ابتداء من يونيه1987,أن يؤرخوا لمسارهم المهني بدخول الوزارة مرحلة التخبط البيداغوجي؛ومن المفارقات أن يتزامن هذا التخبط مع عودة الأساتذة الجامعيين الذين استكملوا دراساتهم العليا ؛في الخارج ,وبصفة خاصة في بلجيكا وكندا. من هؤلاء أسماء فرضت نفسها في الساحة التربوية لأنها زاوجت بين تأطير الأساتذة ,في المدارس العليا ,وكلية علوم التربية ؛وتأطير المراقبين التربويين في المركز الوطني لتكوين مفتشي التعليم . ولأنها كانت المخاطب المؤهل؛ الذي تفضل الوزارة الاستماع اليه ؛وفرضه على الساحة التعليمية ,بشتى الأساليب . نوع من ” الباراتونير” الذي يريح الوزارة من ساحة تعليمية في حالة غليان. من هؤلاء أستاذنا الدريج الذي نكن له كل الاحترام ؛باعتبار أسبقيته في التنظير والأجرأة لنموذج التدريس الهادف ؛الذي تزامن مع تأسيس الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين. ولعل كتابه” التدريس الهادف” ظل ,لمدة, الدستور الأول لهذا النموذج. لم نكن ننتظر من أستاذنا المحترم أن يشتغل على المشاكل الحقيقية للساحة التعليمية ,قبل تنزيل أطروحة” لويس دينو” في كتابه القيم”من الغايات الى الأهداف التربوية” ؛لأنه صرح مرارا –مجيبا على سؤال الأساتذة-بأن وضعية الساحة التعليمية ,المخاطبة بالأهداف ليست من اختصاصه. وحتى حينما يظهر اليوم ليطعن-متأخرا بكثير- في بيداغوجيا الإدماج يصدر عن نفس القناعة. كان هذا هو التخبط البيداغوجي الأول الذي عايشته؛وكان علينا ,كمراقبين تربويين,أن نوازن بين ابتلاع الامتحانات الأكاديمية للساحة التعليمية الثانوية ,وبين تكريس “دستور الدريج” حتى شاع ألا أستاذ ولا مراقب ؛وحتى لا تلميذ ,دون ارتداء, ولو قبعة رأس, من هذه الكسوة البيداغوجية المستوردة. التخبط الثاني: في ساحة لم تستوعب بعد أن يقال لها بأن كل أدائها البيداغوجي السابق مجرد يباب؛ لأنه غير قائم على أهداف إجرائية محددة ,وغير مقوم بدقة ؛قرر المرحوم الحسن الثاني قتل البكالوريا ,في شكلها القديم؛الذي يعود الى عهد نابوليون بونابرت. تم- باستعجال دائما- تأسيس نظام تقويمي أكاديمي ,وأكاديميات جهوية ؛تفرغ مديروها ,منذ البداية,لصراع السلطات بينهم وبين النواب ؛الى أن ظهرت المذكرة80 ؛وهي بمثابة اتفاقية للا مغنية التي رسمت الحدود بين المغرب والجزائر. دخل مكون المراقبة التربوية ,وملأ الدنيا وشغل الناس.تشظت البكالويا شظايا عدة ,عبر سنوات ثلاث,وتسع دورات؛ لتنتهي ورقة في جيب التلميذ ؛لا تعني كثيرا إذا لم تكن بميزة عالية. “دعه ينجح دعه يمر”. أتذكر اجتماعات دورية, مارطونية مع المرحوم عبد العزيز أمين ,مدير التعليم الثانوي وقتها؛وأتذكر أصحاب “العام زين” حتى والراحل أمين يكرر على مسامعهم بأننا نقوم نظاما ,ولا نجامل أحدا؛فكونوا صادقين. التبس الأمر على القوم هل يقولون الحقيقة ,فينظر إليهم-غير أمين- شزرا؛ أم ينافقون ويتربصون بالمناصب والتعويضات التي انفتح عليها منجم الامتحانات والأكاديميات؟ ولا زلت أذكر قولا ختاميا للمرحوم:”الرأي ما رأيتم ؛إذن النظام ناجح”.رحمه الله فلم يكن غير محرض على الحقيقة ؛لكن القلة فقط هي التي كانت تجاهر بحقيقة ما يجري في الساحة من اضطراب انتهى الأمر ,بعد هدر الملايير,الى مراجعة جذرية للنظام ؛لكن –كالعادة دائما- لا أحد يحاسب على الفساد البيداغوجي في وزارة التربية الوطنية. التخبط الثالث: تم الانتباه ,في فترة إدارة عبد الاله مصدق لمديرية التعليم الثانوي,الى أن الأكاديميات ,بدون بحث تربوي ميداني ,مجرد مكاتب امتحانات. هكذا تأسست الفرق التربوية ,وشرعت في مقاربة الساحة التعليمية ,من زاوية البحث البيداغوجي الميداني . وفقت الكثير من الفرق,وقد كانت تجمع بين المراقبين والأساتذة,وتتحرك ميدانيا,في تحقيق منتوج ديداكتيكي في المستوى ؛رغم اكراهات امتحانات لا تنتهي الا لتبدأ. تم بناء برامج تعليمية جديدة ,في الثانوي؛قائمة على نموذج التدريس الهادف ؛وتشكلت لجان تأليف على مستوى الأكاديميات .لجان قطعت مع أساليب الاشتغال السابقة؛حيث المؤلف مجهول؛ لأن الكادحين من المؤلفين كانوا ملزمين بإدراج أسماء وازنة, ضمن لجان التأليف:تستفيد من الريع دون أدنى جهد. بدأ هذا المعمار البيداغوجي ينهار تدريجيا ؛خصوصا وقد تأكد بأن الوزارة لم تكن تواكب الشأن التربوي مواكبتها للشأن الإداري والتجهيزي.لم تكن الوزارة تتوفر على لجان قارئة تساير إنتاج الفرق التربوية. وساهمت معايير اختيار مديري الأكاديميات,والنواب, في تسريع الانهيار.لم يكن عدد من المديرين يهتمون بالتربوي ؛اذ لا أحد يسألهم عنه ؛وانصب اهتمامهم على كل ما هو إداري مالي ؛مع إتقان فن مجاملة هيئتي المراقبة والتدريس ؛باعتبارهما ,على التوالي,عيون الوزارة وأياديها. التخبط الرابع: بعد دخول عبد الله ساعف ,وزيرا منتدبا للتعليم الثانوي ؛ثم وزيرا كامل النجوم, وقع تحول كبير أتى على ما تبقى من المعمار البيداغوجي: خاض صراعا مريرا من أجل فصل الثانوي عن الأساسي؛وهما لا ينفصلان. أبان عن موقف ,غير مرحب, بالميثاق الوطني للتربية والتكوين ؛وسرعان ما وجد من متملقي الوزارة” بني وي وي” من زينوا له كل خروج عنه وطعن فيه. رحم الله مزيان بلفقيه ولجنته فقد أنتج ميثاقا متماسكا تماسك القناطر اليابانية ؛لكن من يسهر على تنزيله؟ خرج الكتاب الأبيض ليشطب على كل المناهج والكتب المدرسية الجديدة ؛دون حتى التريث لتقويمها. ظهر سادة جدد بالوزارة,قطعوا مع روح البحث الميداني ,التي تأسست بالأكاديميات. تشكلت لجان تأليف جديدة ؛وفق الماركتينغ البيداغوجي ؛تتعامل وفق دفاتر تحملات لا صلة حقيقية لها بما يتطلع إليه الأساتذة الممارسون ,والمراقبون.. كان على المراقبين أن يقوموا كتبا مدرسية ؛لم يشاركوا في بناء هياكلها, ولا صفقاتها التي رست على هذا المشروع أو ذاك.خمنوا أنهم يقومون بعمل تقويمي يتقاضى عليه الآخر دخلا مغريا؛ فلم الاستمرار في تشجيع مهازل الكتاب الأبيض ؟ التخبط الخامس: انتهت بيداغوجيا الأهداف الى أن تصبح ديكورا :يتظاهر الأستاذ بأنه يطبق النموذج ؛ويغمض المشرف التربوي عينيه ؛لأنه إما كاره لسلطة تربوية غير مستجيبة لمتطلبات الساحة التعليمية ,أو ملتمس العذر لأستاذ, ينتظر منه الكثير؛ أو جاهل مستثقل لنموذج مستورد.. في غمرة هذا الوضع البيداغوجي السريالي تتم عملية إنزال, من الجو دائما, لبيداغوجيا الكفايات. رغبنا في التخلص من الفيل ,فكانت النتيجة تزويجه. يتم تشغيل مضادات الصواعق ,فتظهر العديد من الدراسات البيداغوجية ,لفرسان المعبد,تكرس فكرة واحدة: إذا لم تعتمد بيداغوجيا الكفايات في عملك فأنت لست أستاذا بل مجرد وساد نائم. وماذا أفعل بالأهداف ؟ ضعها حيث يحلوا لك ؛المهم أن تشتري منا هذه الكفايات القادمة من الفضاء. سيرتدي الدريج سترته ,وقبعته الحديدية ,ومعه آخرون, وسيدخل الى أعماق منجم الكفايات,وفي أعقابه عمال منجميون ,بيداغوجيون, يشبهون كثيرا خيول إميل زولا. التخبط السادس: بعد عشرية الميثاق الوطني ,التي انتهت الى ما انتهت إليه ؛دون أن يحاسب أحد من الذين نجحوا في إخراج قطار رشيد بن المختار من السكة؛ بدا للسلطات التربوية ؛في عهد اخشيشن,ألا مناص من مخطط استعجالي لإنقاذ التعليم. عجبا وماذا رام المرحومان الحسن الثاني ومزيان بلفقيه؟ وماذا كنا نفعل ونحن ننزل خطابا إصلاحيا ,في منتهى التماسك؟ كيف تنقلبون على تقارير ودراسات ؛تؤكد أن ثمار الميثاق لم تقطف بعد؟ لا أعرف تفاصيل هذا المخطط لأنني غادرت قبله؛لكن زملائي المراقبين التربويين لا يشجعونني على دفن الماضي ؛كما فعل عبد الكريم غلاب؛بل يداومون على إخباري بكل الدواهي التي أصابت الحقل التربوي ؛بعد تقاعدي. آخرها: مخطط استعجالي للإنقاذ؛وردة وزير ؛لم تتضح بعد مراميها وخلفياتها. ما تناهى الى علمي أخيرا ؛خصوصا عبر بيان نقابة المفتشين ؛وبعض المقالات التي نشرتها هسبريس في الموضوع يسمح لي بأن أقول: كفى تخبطا: رجاء ؛انفتحوا ما شئتم على التجارب البيداغوجية العالمية ؛لكن ضعوا في حسابكم أنها وليدة بيئتها ,ومستجيبة لانتظارات أبنائها ؛ومؤسسة على دراسات لم تنجز للمغرب؛دراسات تستحضر –كمكون أساسي وحيوي- وضعية الوسط المدرسي الذي ستنزل فيه؛من حيث استعداداته الذهنية ,وإمكاناته المادية. أعظم ما في الميثاق أنه وطني ؛لتربية وتكوين مواطنين مغاربة؛وهذا لا ينفي حقيقة استفادته من تجارب أجنبية.لقد تم تسفير لجان الى حيث تتجذر هذه التجارب. لم لا نفكر في الصيغة الثانية لهذا الميثاق ؛صيغة تنطلق من الأولى لتعيد قراءتها وتقويمها ؛والإجابة عن سؤال: أين شب الحريق حتى نودي ,باستعجال, على رجال توهمنا فيهم الوقاية البيداغوجية؟ ستكون الإجابة منطلقا لصيغة ثانية ,تتأسس على الأولى ؛وتشعر الساحة التعليمية بأن زمن التخبط ,والتيه الكبير, ولى . الاطمئنان الى سياسة الوزارة مهم جدا في نجاح خطط الإصلاح. انه تعليمنا ,ولا بد أن نصلحه نحن ؛قد نبطئ لكننا في النهاية نصل: الى تعليم لا “ترفس” مخرجاته أمام قبة البرلمان. الى تعليم له رجاله الذين يقولون:لا ؛حينما تكون هذه اللا صحيحة ومؤسسة. رجال ليس من طينة عرفتها:يأتمرون بأوامر ,كيفما كانت,ويشتغلون الليل والنهار ؛وحين يطلب منهم أن يكفوا يكفون ,وهم صامتون ,ومبتلعون لألسنتهم.ساكتون عن الحق ,مادام لم يطلب منهم أن يتكلموا. أنا مع اعتبار وزارة التربية وزارة سيادية؛ لأنها هي من يقرر في مصير الوطن. مدلول السيادة هذا يفرض ألا يكلف بإدارة مصالح الوزارة الداخلية والخارجية الا الأكفاء ؛الذين برهنوا فعلا عن كفاءتهم التربوية ,وليس كفاءتهم في انتهاز الفرص ؛والدخول الى المناجم الذهبية للوزارة. ارحموا رجال التعليم من قدر خيول إميل زولا. رمضان مصباح الإدريسي [email protected] Ramdane3.ahlablog.com