إن من بين الإشكالات التي أضحت ترهن الفعل السياسي في المغرب هو غياب المعارضة بالمفهوم الذي تنطرح فيه كقوة سياسية قادرة على طرح البدائل في تدبير السياسات العمومية والشأن العام، فلا يمكن الحديث عن قيمة الممارسة الديمقراطية دون وجود ثنائية الأغلبية والمعارضة التي تتعاقب على ممارسة السلطة وتداولها وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع . وهنا نستحضر المعارضة الجادة التي تملك من المقومات ما يجعلها تنتج برامج سياسية وتجتهد في ابتكار الحلول للمشاكل القائمة والمستجدة وتملك تصورا واضحا لمختلف المشاكل المجتمعية، إنها المعارضة التي تأخذ زمام المبادرة "معارضة ممأسسة" لا تعوزها الاستقلالية ولها السلطة في اتخاذ القرارات "بمعنى أنها سيدة قرارها" والتعبير عن المواقف دون مواربة وعدم الاستسلام للضغوط الظاهرة والكامنة وعدم الدخول في متاهات الاشتغال بمنطق المزايدات والتسويفات والتنازلات غير المنطقية وغير المعقولة، صحيح أن المنطق السياسي يقتضي في بعض اللحظات التنازل، لكن أن يتم ذلك دون تأكل قيمتها الوجودية والرمزية، وبما يخدم المصلحة العامة. إن الفضاء السياسي ومشهديته تشهد على حضور الهدر في المعارضة السياسية، حيث نشهد على ذلك الانحدار الخطي في وجودها وفعلها بداية من الاستقلال إلى الحد الراهن، إنه عندما تدخل الحسابات الشخصية الضيقة على الخط في الممارسة السياسية فاشهد على مفسدة مطلقة، وأمام هذا الهدر المستمر والقصدي، تنتصر المقاربات والتوجهات السلطوية التي تفرضها في شكل إملاءات فوقية في ظل غياب "الند السياسي الممانع"،القادر على المجابهة وتحقيق نوع من التوازن بين السلطة وفعل المعارضة المفضي إلى البناء الديمقراطي الحقيقي. فالغياب القسري/الطوعي للمعارضة السياسية بطيفيها المعتدل والراديكالي يزيد في إذكاء التسلط ومفعوليته، حتى وان كان النظام يتخذ مظهرية حداثية من حيث النسق المؤسساتي،إلا انه يظل فارغا من حيث الكنه القيمي /الممارساتي الديمقراطي ،وهذا ما يجب أن تدركه وتستدركه هذه الأنظمة التي تنتهج استراتيجية احتواء المعارضة السياسية،لان هذا الوضع لا يستقيم وبفعل عامل الزمن قد يأتي بنتائج عكسية ويشكل تهديدا حقيقيا للنظام القائم ،فالإبقاء على معارضة سياسية فاعلة يعتبر صمام الأمان وأيضا عاملا محوريا في امتصاص الغضب الشعبي . وأمام غياب الرأي المعارض ترتسم معالم الأحادية والتنميط السياسيين في مختلف المستويات وتشكل المنهل والمنوال الذي يسلكه الفاعل السياسي والمؤسسات السياسية أيضا، مما يفقدهما بعدهما الوظيفي فيختلط الأمر ويحدث التباسا مفاهيميا في شكل مسوغات تبريرية لواقع الحال بين ما يسمى بالتراضي والتوافق السياسيين من جهة والسير على نهج السلطة والالتزام بفروضها إلى حدود الطاعة العمياء . فالمعارضة السياسية في المغرب مازالت رهينة "المعارضة المنبرية"، ومنقلبة في فعلها وعلى مبادئها كلما اقتربت من السلطة، وفي كثير من الأحيان وبميزة عدم الوضوح في المواقف والاتجاهات السياسية من الصعب أن نجد فواصل دالة عن التموضع السياسي أغلبية/معارضة، بفعل التضارب والتخبط وبفعل رهن المواقف السياسية والاصطفاف السياسي لنوع من "البراغماتية السياسية" التي تراعي ليس فقط المصالح الحزبية الضيقة، وإنما مصالح الأقلية القيادية للأحزاب التي دائما ما تدخل في مساومات واتخاذ مواقف دونما الرجوع إلى تفعيل الأدوات الديمقراطية في اتخاذ القرارات الحزبية والتهميش الممنهج لمختلف القواعد الحزبية. وأمام غياب المعارضة تنتصر الثقافة السياسية الضيقة والتي تسير في اتجاه واحد يخدم السلطة ويحدث حالات التنافر والتضاد بين الدولة والمجتمع، حيث يصبح الكل يفكر بمنطق اشتغال السلطة، وبالمقابل تتنامى أيضا جذور الإحباط الممزوج بالسخط والتذمر اللذان قد يتحولان مع الاشتداد إلى احتجاج أو نشوء حقول مضادة، قد تتخذ طابع التعصب وقد تتبلور تعبيرات عنفية على الذات تجاه الدولة والمجتمع كذلك. إن المعارضة السياسية في المغرب غالبا ما كانت تتفقأ قريحتها وتنضح بتبني "خطاب الأزمة" في تشخيص الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، دون أن يعقب ذلك إنتاج "خطاب الحلول" ،أو التمادي والاستغراق في نوع من الطوباوية البعيدة عن الواقع المغربي اليومي ،مما ساهم إلى في انحصار فعلها في دائرة محدودة دون أن يجد له بنيات استقبالية مجتمعية للاحتضان ،والتي يمكن أن تشكل بالنسبة له السند والدعم والقدرة في إحداث نوع من التوازنات السياسية في نسق ممارسة السلطة . وحتى المعارضة التي تقوم بتصريف فعلها تحت الغطاء الرسمي وتشتغل وفق شرعية السلطة تقع تحت وطأة" الاستلاب السياسي المؤسساتي" حيث ترهن فعلها ومواقفها لخطوط محددة ومسيجة تضعها السلطة وتكون جزء من اللعبة التي تملك خيوطها ومع الوقت تصل إلى حد الذوبان في هذه المسلكيات، وتتحول إلى أداة طيعة في يد السلطة تحركها وفق استراتيجيات محكمة إلى الحد الذي تحدد فيه تاريخ نهاية صلاحيتها . إن المعارضة السياسية في المغرب سرعان ما تخبو جذوتها مع طول الفعل المعارضاتي والفقر الواقع على مستوى حصد النتائج والانتظارية، بالإضافة إلى الكدمات التي تتعرض لها من السلطة حيث غالبا ما يكون المآل سوء العاقبة إذ غالبا ما تتعرض للإفلاس على المستوى المجتمعي في تجلي عدم القدرة على الحشد والتعبئة ،وهذا ما يرجح كفة الاتجاهات التي رأت في وقوع هذه الانتفاضات والاحتجاجات في الربيع الديمقراطي من جهة انكفاء المعارضة السياسية في هذه الدول وعدم قدرتها على احتواء الغضب الشعبي والتعبير عنه،وخير مثال تجسيدي لذلك حركة 20 فبراير في المغرب. ويبقى من بين الإشكالات القائمة ،حسباني أن المعارضة السياسية بدورها نهجت نفس السلوكيات التي نهجتها السلطة والأحزاب السياسية التي كانت تنعت بالإدارية والمبنية على ثقافة الإقصاء ،إقصاء دائما ما كان يتخذ طابع شخصاني ويتركز على مستوى القيادات الحزبية مما ساهم بشكل كبير في تفريغ الأحزاب السياسية التي أفقدت أكثر الممارسة السياسية منطق الاشتغال العقلاني والرشيد ،مع أن الحاضر السياسي سوى وماثل بين الكل إداري،ليبرالي ،يساري،إسلامي ...الخ ،وأي ادعاءات أخرى تحاول تسويق غير ذلك هي مجرد زور وبهتان. فالكل المحسوب على المعارضة السياسية بأطيافه تحكمه قاعدة التشرذم والتشتت على حساب التجميع وفي هذه الفرقة مكمن الضعف والوهن ،وينضاف إلى ذلك عامل الاختراقات المتتالية التي تحصد العديد من النخب والقيادات في استرابيجية الاستدراج والاستقطاب التي أثبتت نجاعتها وفعاليتها في احتواء العديد من المواقف المضادة، واستطاعت أن تحدث فيها رجات وتغييرات مفصلية تخدم في صالح السلطة مع تركيز وتثبيت قيم الاستزلام والانتهازية ،وطبيعي جدا أن نجد الكثير من معارضي الأمس تحولوا إلى جبهة مضادة ومدافعة على المنوال الذي تسير في كنفه السلطة لدرجة أن هناك من اعتبر أن المجتمع المغربي قاصر ليس في مستوى التمتع بالديمقراطية وبالتالي إبقاء الوضع على ماهو عليه، وأي محاولة للانفتاح والسير في درب الدمقرطة يعتبر مغامرة غير محمودة العواقب، قد تأتي بنتائج عكسية، وفي هذا قمة الدماثة في سلوكيات نخبة نصبت نفسها وصية على الشعب المغربي. بالإضافة إلى هذا الزخم من الأعطاب الذي يثوي فعل المعارضة السياسية والتي نجد مرجعها فيما هو ذاتي وماهو موضوعي ،نعثر أيضا على تفاصيل أخرى مرتبطة بمنهجية الاشتغال والتحرك، حيث يحضر الارتجال بموبقاته والتخبط بعلاته، وغياب التخطيط على المدى القريب والبعيد وتغلب منطق التكتيك السياسي دون بناء استراتيجية منتظمة ومحكمة قد توقيها من كل المطبات والمسالك الوعرة في مواجهة السلطة ،وبالزيادة التكلس التنظيمي والإفلاس البرنامجي والتماهي بين المؤسسة الحزبية والزعيم، وفي كثير من الأحيان ما يحضر موجب التعتيم والسرية في محاورة السلطة والرضوخ لمطالبها وإملاءاتها وهي أمور ساهمت في إفلاس العديد من الأحزاب التي كانت متمرسة في المعارضة السياسية، وكما العديد من النخب التي أضحت جزءا من السلطة،تتكلم لغتها وتنهج سلوكياتها. وإذا سلمنا بمنطق دستور 2011، الذي يتأسس في جوهره على مبادئ الحكامة والتشاركية بين الفاعلين السياسيين في صناعة القرار السياسي،مع التنصيص على مجموعة من الحقوق للمعارضة البرلمانية ،فالأولى أن نعمد إلى تفعيل مقتضياته بما يكفل بناء معارضة سياسية تشتغل بثقافة سياسية جديدة وبعقلية ديمقراطية تنفك مع كل الممارسات السابقة المعيبة والمذمومة. فنحن في أمس الحاجة إلى إعادة النظر في أشكال بناء السلطة ،على أسس توافقية بين مختلف الفاعلين في الحقل السياسي ،وإعادة الاعتبار للمعارضة السياسية ليس بالمفهوم الاحتوائي وإنما بصيغة تشاركية ترعى وجودها المادي والوظيفي ،ومنحها الاستقلالية في اتخاذ القرارات والتعبير عن البدائل الممكنة في تدبير السياسات العمومية ،معارضة لها هوية سياسية وإيديولوجية تنهل منها في فعلها وعطائها وتتبنى منطق الوضوح في الاشتغال وتعزز من جبهتها الداخلية في سياقات متماسكة تعضدها في مواجهة أي اختراقات ممكنة ،معارضة تملك أدوات التأثير والاستقطاب الجماهيري عندما تتبنى خطابا واقعيا وعقلانيا خاليا من المثالية واليوتوبيا، معارضة تنهج سياسة القرب مع المواطنين وتحتكم لنبضهم وطموحاتهم والابتعاد عن التضخم الخطابي /الأنوي المنبري والمتعالي .