يفهم من قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قال إني أعلم ما لا تعلمون) (البقرة 30). أن الإنسان هو أساس الصلاح والفساد في الأرض، وأنه متى صلح الإنسان أصلح الأشياء من حوله، ومتى فسد أفسد الأشياء من حوله، لذلك وجب أن تنصب عملية الإصلاح في مراحلها الأولى على الإنسان باعتباره ركيزة ومنطلق الإصلاح، ونحن في حديثنا عن الإصلاح؛ غالبا ما يتم الحديث عن إصلاح الأشياء، ونعير الاهتمام للكثير من الآثار والنتائج، ونغفل الإنسان دون مناقشة أسباب الفساد، والوقوف على منابع الخلل، ما يجعلنا نظل في دوامة من علاج الآثار عوض علاج أصل المشكل الذي يعيننا في ربح الكثير من الوقت والمال، فالجدير بالعناية والبناء والإصلاح هو الإنسان، ولأهمية إصلاح الفرد؛ كركيزة لأي إصلاح ركزت النصوص القرآنية على مسألة الاهتمام بإصلاح النفس كأساس لإصلاح الانسان والحياة كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11] وإصلاح الفرد وبناؤه بناء روحيا وفكريا وخلقيا، هو الإصلاح الذي يطور الحياة في مختلف مجالاتها؛ فتصلح حياته الذاتية الفردية الداخلية أولا، ثم تصلح الأشياء من حوله ثانيا. والإصلاح السريع الذي شهده المسلمون الأوائل وغير مناحي حياتهم، فشهدوا إصلاحا لا مثيل له فيما بعدهم من العصور، إصلاحا أنتج حضارة راقية وقودها الإيمان وزادها المواطن الصالح، وزاخرة بالتقدم والرقي في شتى المجالات، وقد كان ذلك بالتركيز على إصلاح الفرد الذي بنى ذاتا إنسانية إسلامية، دخلت التاريخ من بابه الواسع بعد التيه الذي كان فيه، كما بنى مجتمعا إسلاميا قويا عرف الحضارة والمدنية بعد سذاجة وبداوة، ولم يكن الاهتمام بالقضايا الجانبية وتطوير جوانب الحياة المختلفة، بقدر ما كان الاهتمام بتطوير الإنسان الذي هو الأساس، وهذا يدلنا على أن الإصلاح ينبغي أن يستهدف بناء الإنسان، ثم بناء المجتمع لخدمة مرامي الإنسان وغاياته القريبة والبعيدة. فالمهمة التي تواجهنا لا تقتصر على مسألة إصلاح الأشياء من حولنا، بل أوسع بكثير من حدود هذه الآمال والأماني، سيما إذا عرفنا أن الواقع البائس الذي يواجهه المواطن سببه استبعاده من عملية الإصلاح، وهو واقع يدعو إلى استنفار كوامن البناء وإعادة النظر في عملية الإصلاح، والاستنجاد بالقيم والمثل الفاضلة، ونماذج وأمثلة الرعيل الأول، من أجل العمل على بناء مواطن صالح يبني وطنا صالحا. وذلك ما لا يتم دون الإعداد والاستعداد وتحلي الجميع بروح المسؤولية، والقراءة الواقعية للانحرافات الواقعة في مختلف المجالات؛ فالفساد لم يؤد إلى تخريب الوضع الاقتصادي والاجتماعي فحسب؛ بل أفسد النفس الإنسانية وأفقدها مقومات البناء والإصلاح، وتعرض المواطن إلى معاول الهدم والفساد أكثر مما تعرضت له المرافق والمؤسسات، وهذا أخطر فساد؛ لأنه فساد في الأصل والأساس. وبناء المواطن بناء تربويا سليما مهمة يجب أن تحتل الصدارة في قائمة مهام الإصلاح. يقول مالك بن نبي: "إن الهم الأساسي لأي مشروع إصلاحي ونهضوي يحتاج لنجاحه أن يبدأ من الإنسان المخلوق المستخلف في الأرض والذي كتب الله تعالى له التكريم والإنسان أو الرأسمال الاجتماعي هو الرأسمال الأكثر أهمية في صناعة التقدم وإليه يجب أن يتوجه الاهتمام". وإذا عرفنا أن الإنسان هو الوسيلة والغاية في الوقت ذاته فإنه هو المعني بالأمل والأمنية والطموح بتحقيق مستقبل زاهر ملؤه الخير والسعادة والطمأنينة، هذا المواطن الذي خيم اليأس على قلبه، وأصبح لا يرى إلا السواد، هذا الإنسان المحطم داخليا كيف نعيد الأمل والتطلع إلى نفسه، ليندفع بحيوية إلى مستقبل أفضل، كيف نعيد إلى نفسه الثقة بالذات؟ ويؤدي واجباته في شتى الميادين قبل أن يطالب بأي حق من حقوقه. وتكون لديه قوة الإرادة والعزيمة، والثقة بالنفس، والشعور بالمسؤولية تجاه الدين والذات والوطن، بدل أن يعيش خيبة الأمل، والشعور باليأس والقنوط، وكراهية الواقع، بسبب البؤس والشقاء والتعاسة والحرمان، والفقر والأمراض. وإذا تمكنا من إصلاح هذه الأمور فإن الباقي سيكون إصلاحه هينا لأن إصلاح الإنسان أساس كل تغيير وإصلاح. فأي تغيير أو إصلاح يتم بالتغير الذي يحصل في ذات الفرد، وفي حياته, لغرض الوصول إلى إصلاح شامل، وهذا يتطلب تغيير الذات، بما فيها من مفاهيم وتصورات، ويشمل أنماط وطرق التفكير، ومناهج وأساليب العمل، ويمس القيم التي يؤمن بها الإنسان والمبادئ التي تقوم عليها حياته والغايات التي لأجلها يعيش. والرأسمالية والشيوعية وقعتا معا فى الخطإ حين ركزتا في الإصلاح على المادة؛ فأبعدت الرأسمالية الدين عن الحياة، وكفرت الشيوعية بالله والأديان. والإنسان لا يمكنه أن يعيش بالمادة وحدها؛ فالمادة وإن حققت شيئا من الرفاهية, فإنها لا تبني الإنسان على القيم والمثل. ولهذا نجد القرآن الكريم في الإصلاح يبني المجتمع على المجال الروحي والمادي الذين لا غنى لأحدهما عن الآخر. فبتزاوجهما وتكاملهما ينتج مجتمع سعيد بلا مشكلات يعيش حياة آمنة مطمئنة سليمة، وفى كلا المجالين ينطلق القرآن من الفرد الذى هو النواة التى تتكون منها الأسرة ثم يترك الفرد الى هذه الأسرة وما له صلة بها من رحم وقرابات؛ ليتصدى بعد ذلك إلى المجتمع عامة ليعالج مشكلاته ويرسي دعائمه ويخطط طريقه نحو الإصلاح والنجاح. والغرب عموما اهتم بإصلاح ما هو مادي، ونجح في ذلك، ولكن هذا النجاح خلف مشاكل عديدة في النفس والمجتمع؛ لأنه اهتم بإصلاح شطر واحد ولم يستطع إصلاح الفرد وإكسابه الطمأنينة والرضا والقناعة، وهو الذي ينبغي أن يشمله الإصلاح أولا باعتباره هو العنصر الأساس في عملية الإصلاح والإفساد؛ فالإنسان كما يقول سيد هو "الكائن الأعلى في هذا الملك العريض; والسيد الأول في هذا الميراث الواسع ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول; إنه سيد الأرض وسيد الآلة إنه ليس عبدا للآلة؛ كما هو في العالم المادي اليوم وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم؛ كما يدعي أنصار المادية المطموسون الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه، وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان مهما حقق من مزايا مادية هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني؛ فكرامة الإنسان أولا واستعلاء الإنسان أولا؛ ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا وهو يستنكر كفرهم به ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا ولكنها إلى ذلك سيادتهم على ما في الأرض جميعا ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم" ونحن لو افترضنا نجاحنا في عملية الإصلاح التي ينظر لها اليوم؛ فإنها تبقى شوهاء ناقصة كنظيرتها الغربية التي يعاني إنسانها اليوم من مختلف العقد، التي تمنعنه من الاستفادة والاستمتاع بما حوله، وأصبح الإصلاح المادي مصدرا من مصادر تعاسته؛ عوض أن يكون مصدرا لسعادته. [email protected]