ثمة بالمغرب شركة خاصة كبرى, لا يرد لها أمر ولا ترفض لها طلبية, ولا تقبل المنافس أو الرديف, ولا ترضى أن يكون معها, بقطاعات محددة, منافس أو مزايد: إنها شركة أومنيوم شمال إفريقيا (أونا), المتواجدة حصرا بالمغرب الأقصى, حيث محطة نشاطها الأساس, وفضاء اشتغالها, ومقرها الإداري, ومصدر أرقام معاملاتها وأرباحها. تأسست الشركة بعشرينات القرن الماضي على يد المعمر جون إيبينات, باتكاء على سلطة التهامي الكلاوي, الذي كانت له في حينه, سلطة مطلقة بجنوب المغرب, لا تضاهيها سلطة أخرى بالبلاد, ثم سرعان ما تحولت ملكيتها تدريجيا بأعقاب الاستقلال, للأسرة الملكية المالكة, بجهة رأس المال, كما بجهة تعيين مدرائها ومسيريها بصورة مباشرة أو عبر مجلس في الإدارة صوري, ليجعل ذلك من الأسرة إياها إحدى أغنى الأسر الحاكمة بالعالم على الإطلاق. لم تأت قوة الشركة ولا شساعة مجال فعلها, بتوالي الأيام, لم تأت من خاصية ما ميزت نشاطها الاقتصادي, بقدر ما تأتى لها ذلك من طبيعة ملكيتها, وطبيعة الارتباطات التي فتحت لها, ولا تزال تفتح في السبل والإمكانات بالمكان كما بالزمن سواء بسواء. ليس من الهين حقا, حصر حصة العائلة الملكية بمجموعة أونا, ولا معرفة عدد القطاعات والمجالات التي تفعل فيها مباشرة, أو بطريق غير مباشر. وليس من الهين الوقوف بدقة عند عدد وأحجام فروعها داخل البلد, ولربما خارجه أيضا. ليس من الهين ذلك, ولكأن الشركة مجال خاص يحذر الاقتراب منه, أو معرفة ما يعتمل بداخله, أو ينسج فيما بين أعضاء مجلسه المسير. لكن الرائج أنها تسيطر أو لها اليد الطولى, بجل القطاعات الحيوية, أو ذات الطبيعة الاستراتيجية, ابتداء بمجالات الفلاحة والصيد البحري والصناعات التحويلية والمعادن (مهنتها الأصل), مرورا بقطاعات التوزيع والصناعات الغذائية والأنشطة المالية والمصرفية, وانتهاء بقطاع المعلومات والاتصالات وما سواها, لدرجة قد لا يعثر المرء على قطاع أو مجال نشاط اقتصادي أو مالي, إلا وللمجموعة حصة ما برأس ماله, إذا لم يكن بمجمله, فعلى الأقل بمستوى حصة تمنح المجموعة سبل مراقبته, والتحكم فيه وإن عن بعد. وعلى هذا الأساس, أساس تفرع نشاط المجموعة وتعدده لدرجة التشابك, فإن أي مجموعة (حتى وإن كانت متعددة النشاط والجنسية) لا تستطيع مجاراتها أو منافستها, أو بلوغ السوق المغربي دون إذن مسبق من لدنها, أو "تقرب" منها, أو ولوج قطاع من القطاعات دونما أن تؤشر لها بذلك جهرا أو بالمضمر. هي أخطبوط بكل المقاييس, تمكن بفضل موقعه وما راكمه من أملاك, في رهن الاقتصاد الوطني وارتهانه, لا بل والتحكم في مفاصله الكبرى استثمارا وإنتاجا وتوزيعا واستهلاكا وما سوى ذلك. قد لا يبدو للمرء أن ثمة عيبا في أن يكون بالمغرب أو له, مجموعات اقتصادية كبرى, إذا لم تعمل على منافسة ما سواها من مجموعات كبرى أخرى إقليمية أو دولية, فعلى الأقل تسهم في نمو الاقتصاد الوطني, وإشاعة بريقه هنا وهناك. وقد لا يبدو أنه من العيب في شيء أن توسع المجموعة إياها نشاطها لأكثر من قطاع وفضاء اشتغال, فهي مقاولة بالبداية وبمحصلة المطاف, والقوانين لا تمنعها من ذلك جملة أو بالتفصيل. لكن العيب, بحالة أونا تحديدا, إنما يأتي من طبيعة علاقتها بالقصر, وتدثرها خلفه لاعتماد سلوك غير ذي طبيعة اقتصادية, أو له علاقة بمنطق المنافسة والتباري بالسوق, التباري بنفس الأدوات والآليات. بهذه النقطة أيضا, ليس العيب كامنا في مدى أحقية المؤسسة الملكية في امتلاك شركات أو أسهم بشركات, أو عقارات, أو أراضي فلاحية أو مناجم أو ما سوها, بل العيب كامن في مدى ومستوى تأثير ذلك على آليات السوق, بجهة الاحتكار والمضايقة, المفضيان حتما إلى تنفير الاستثمار وحصر عدد الفاعلين فيه, لا, بل و"سن" تشريعات مبطنة, تحول ويتحول جزء كبير منها إلى لوائح, ولكأنها صادرة حقا وحقيقة عن المؤسسة التشريعية, أو خاضعة لرقابتها, أو رقابة الجهاز التنفيذي المتفرع عنها. إن مجموعة أونا, بهذا الجانب, إنما أضحت دولة داخل الدولة, لا رقيب على أنشطتها ولا حسيب على سلوكها, لا بل لا من متجرئ على مساءلتها, بلجن تحقيق أو بجهة إمكانية التدقيق في حساباتها, أو مجالات اشتغالها. هي بالسوق خصما وحكما, لا راد لقراراتها, حتى وإن كانت مضرة ب"الخاصية الليبيرالية" للنظام الاقتصادي الذي اعتمده المغرب, منذ الاستقلال وإلى اليوم. والدليل على ذلك, هو أن كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والتجارية توجد اليوم بأدنى مستوياتها, في حين أن مؤشرات المجموعة في أحسن صورة لها, لا بل هي بتحسن مستمر سنة عن أخرى (نسبة نمو أرباح العام 2007 ارتفعت بنسبة 80 بالمائة قياسا إلى العام 2006). بالتالي, فعلى الرغم من الوفورات التي حققتها المجموعة في الكثير من القطاعات, فإن حجم تأثيرها ينعكس فقط على مالكيها, ولا يعود بالنفع على المواطنين إلا بشكل محدود جدا, لا بل ويتم على حساب قوتهم اليومي وحليب أطفالهم. إن حالة أونا لا تحيل فقط على التضخم الاحتكاري الذي باتت خلفه, بل ويحيل أيضا ومباشرة على تشابك العلاقة بين السياسة والسوق بالمغرب "المستقل", كما بمغرب "العهد الجديد". هي علاقة متوترة بكل المقاييس هنا بالمغرب, ليس فقط جراء هيمنة المؤسسة الملكية عبرها, على قطاعات وأملاك ضخمة وشاسعة, ولكن أيضا لأن قواعد اللعبة غير محددة بالمرة, لا بل تحدد من لدن مستويات دخيلة على ميكانيزمات السوق, وآليات المنافسة وبعيدة, فضلا عن كل ذلك, عن رقابة المستوى التشريعي. لا ينحصر الأمر عند هذا الحد, بل يتعداه عندما تعمد مجموعة كمجموعة أونا, للتصرف في الأسعار دونما موجب حق اقتصادي, فيكتوي المواطن البسيط جراء ذلك, لا بل يضيق عليه بدرجات كبرى تحول دونه ودون التظلم أو الاستنكار. هل يعقل أن يتجاوز رقم معاملات الشركة أكثر من 30 مليار درهم بمتم العام 2007, وأسعار منتجاتها تجاوزت طاقة ما يستطيعه المستهلك المتوسط؟ هل يعقل أن تبلغ الأرباح إياها أكثر ملايين الدراهم بالفروع الغذائية مثلا, وأسعار الحليب والخبز والسكر والزيت التي تثوي خلف تحديدها, باتت موشكة على إثارة نار الفوضى والفتنة؟ إذا كان صحيحا أن تقلبات الأسعار بالسوق الدولي, بخصوص هذه المادة أو تلك, هي السبب, فكيف السبيل لتسويغ الأرباح الخيالية, المتحصل عليها من مبيعات ذات المواد؟ يبدو الأمر هنا, كما لو أن المجموعة غذت بمواجهة مباشرة مع المواطن, لدرجة قد يخال معها ذات المواطن, أن المؤسسة الملكية هي التي تستهدفه بالمحصلة, على اعتبار أنها هي صاحبة الشأن بالمجموعة إياها. إن ثبت ذلك حقا, فسيكون الأمر مكمن خشية عظيم. أنقر هنا لقراءة مقالات أخرى ولزيارة موقع الدكتور يحيى اليحياوي