يقال إن التاريخ لا يعيد نفسه.. لأنه من فصيلة العلوم الإنسانية وليس علما من العلوم الحقة، وبالتالي فحتى إذا تكررت شروط واقعة تاريخية ما، فليس من الحتمي أن تتكرر نفس نتائجها.. ويقال أيضا إن الذين لا يقرأون التاريخ، أو يقرأونه ولا يتعظون به، يضطرون في الغالب إلى معايشة مآسيه مرة أخرى.. في الوضع السياسي المغربي، هناك اليوم مجال لتنزيل هاتين الفكرتين معا، حتى لو اقتصرنا على السنوات القليلة الماضية، وتحديدا ما بين نهاية سنة 1998 وأواخر سنة 2011. بطلا المقارنة هنا هما الحزبان "اللدودان" الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية. لا يتسع المجال للخوض في مقارنات تاريخية تنبش عميقا في الجذور، ولهذا أفضل الاقتصار على بعض الوقائع الراهنة التي مازالت طازجة، والتي لا تحتاج مناقشتها إلى إغراق القارئ في سيل من الوقائع التاريخية المتضاربة والمتناقضة بسبب تعدد مصادرها ورواتها. إن ما يبرر أصلا مقارنة من هذا النوع، هو أن كثيرا من الوقائع تشابهت في مسار الحزبين في لحظة تاريخية معينة، إلى درجة تسترعي الانتباه. فالاتحاد الاشتراكي، ظل طيلة عقود يمارس لعبة عض الأصابع مع النظام، بل كان دائما بمثابة العدو الأول ل"المخزن"، ووصل الأمر حد إسالة الدماء بين الطرفين، حيث كانت محاولات "الثورة المسلحة" تقابل باغتيالات سياسية وتصفيات وقمع ومنافي قسرية واختيارية. لكن، وبما أن مكر السياسة أكبر من كل العداوات والخصومات والإيديولوجيات، فقد اضطر الطرفان إلى التلاقي في نقطة ما، في لحظة زمنية اتسمت من جهة الاتحاديين بالملل والتعب من "المعارضة"، خاصة وأن اليسار فقد الكثير من توهجه وزخمه بعد انهيار جدار برلين، ودخول العالم مرحلة تاريخية جديدة، بينما اتسمت من جهة القصر بالرغبة في الإعداد لنقل العرش بطريقة سلسة، خاصة في ظل حديث كثير من التقارير الأجنبية عن مخاطر عبور المغرب من ألفية إلى أخرى دون بناء دولة المؤسسات التي لا تهتز بسبب رحيل الأشخاص. وقد كانت نقطة اللقاء بين الطرفين، هي "فكرة" التناوب التوافقي، وأقول فكرة، لأننا كنا أمام مصطلح جديد على القاموس السياسي الوطني والدولي، لم تتم تجربته في أي مكان من العالم قبل ذلك. لقد كان التناوب في هذه اللحظة التاريخية الحساسة، ضرورة فرضتها الإكراهات التي كانت تضغط على كل الأطراف. فالقيادة الاتحادية كانت تحت ضغط أجيال جديدة من المناضلين، ليست على استعداد للاستمرار في المعارضة على طول الخط ودون أفق واضح، وأجيال قديمة كانت ترى نفسها تتجه نحو "آخر المشوار" دون أن تحقق ولو جزء من أحلامها "الثورية".. وبالنسبة للقصر، كان هناك إدراك عميق لصعوبة المرحلة الانتقالية، خاصة في ظل استمرار الاتحاد الاشتراكي حرا طليقا في الساحة السياسية، في وقت كان يتوفر فيه على رصيد شعبي و"طهر" نضالي، وبالتالي فإن استدراجه وتطويقه بالمشاركة الحكومية، كان هدفا استراتيجياً ومصيريا على أكثر من مستوى. بالمقابل، نسجل تشابها كبيرا في مسار حزب العدالة والتنمية، الذي تحول بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2002، إلى العدو رقم واحد، ولا داعي هنا لاستحضار ما تعرض له من ضغوط خاصة بعد التفجيرات الإرهابية لماي 2003. صحيح أن الأمر لم يصل حد التصفية أو الحل أو المحاكمة، لكن الهجمة كانت شرسة بكل المقاييس، وقد تعرض الحزب لتضييقات ومضايقات، وحتى إهانات لقيادته، فضلا عن تسخير الإعلام العمومي بكل قنواته، لشيطنته، وهو ما اتضحت نتائجه جلية خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2007، وما تلا ذلك في الانتخابات الجماعية لسنة 2009، والتي تعرض فيها الحزب لما لم يتعرض له الاتحاد الاشتراكي في كثير من المحطات الانتخابية التي شارك فيها. وقد وصل الأمر حد أن البعض كان يعلن صراحة بأن القصر لا يريد لهذا الحزب أن يتجاوز السقف المحدد له، وهو في كل الأحوال، أقل بكثير جدا من وزنه في الساحة. لكن تشاء الصدف، أن يتكرر سيناريو "التناوب" هنا أيضا، حيث اضطر الطرفان -الحزب والقصر- إلى التلاقي في نقطة ما، خاصة بعد المتغيرات التي حملها الربيع العربي، وبعد المفاجأة غير المتوقعة التي أفرزتها نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث يمكن أن نتحدث عن "اكتساح" فعلي ولو بالمقاييس المغربية الصرفة. وهنا أيضا كنا أمام حزب عانى كثيراً مع الضغوط المسلطة عليه، وكان يسعى للمشاركة بأي شكل في الحكومة، ليس طلبا للمناصب، ولكن على أمل التطبيع النهائي مع "النظام" وتبديد المخاوف والشكوك التي كانت تساور صناع القرار، وبالمقابل كان تسليم رئاسة الحكومة وجل حقائبها إلى الحزب "المنبوذ" أخف الأضرار، بالنسبة لمهندسي المرحلة، خاصة في ظل الغليان الذين كان الشارع العربي يعرفه، وفي ظل المخاوف من امتداد اللهب إلى شوارع المدن المغربية في حال الانقلاب على نتائج الاقتراع. وبالتالي يمكن القول إن المغرب، عاش خلال السنة الماضية، "تناوبا" جديداً كان بمثابة انحناء أمام عاصفة غير متوقعة. وفي الحالتين معا -القديمة والجديدة-، تكررت كثير من المشاهد، وإن بشكل أكثر حدة. فالاتحاد الاشتراكي، وبمجرد استلامه الوزارة الأولى، واجه رأيا عاما يستعجل التغيير، ويطالب بتعليق المشانق، وبتحويل وضع البلد الذي كان مشرفا على "السكتة القلبية" ليصبح من عدائي المسافات القصيرة في مجال التنمية. وحزب العدالة والتنمية أيضا، وجد نفسه يستلم مع رئاسة الحكومة وبقية الحقائب، أطنانا من المشاكل المعقدة، وأطنانا من المطالب المستعجلة، فضلا عن ضغط الرأي العام في اتجاه "التغيير الجذري"..لكن، وكما رصد اليوسفي على عهده "جيوب مقاومة التغيير"، وأعلن عن عدم الاتجاه لمطاردة الساحرات لأن الوضع الانتقالي لا يسمح بذلك، اكتشف بن كيران حجم "الثعابين" و"التماسيح" وباقي الحيوانات المفترسة التي تتربص به، قبل أن يُمتع هو أيضا "الساحرات" بالعفو عما سلف.. وربما حتى عما هو آت.. باختصار، لقد تشابهت البدايات حتى في بعض التفاصيل مع أننا نتحدث عن مرحلتين تاريخيتين مختلفتين ومتباعدتين.. فماذا عن النهايات؟ دخل الاتحاد الاشتراكي تجربة التناوب وهو حزب متماسك ومنظم، ساعده في ذلك مراسه السياسي الطويل، وخبرة قيادته المخضرمة، فضلا عن الطاقات الشابة التي نجح في استقطابها بفضل حضوره في الساحة الجامعية والثقافية والسياسية لعقود.. لكنه خرج من "التجربة" قبائل متناحرة، وتيارات مستعدة لهدم المعبد على من فيه.. ويبدو أنه لم يلتقط الرسائل الانتخابية لا في 2002 عندما قبل بتغييب المنهجية الديموقراطية، ولا في 2007 عندما طالب بمعاملة تفضيلية على أساس الشرعية التاريخية والنضالية وليس على أساس نتائج صناديق الاقتراع.. وفي الطريق تساقط كثير من الرفاق، سواء منهم الرافضون لفكرة "التناوب" أو المحتجون على إقصائهم من "غنائمها" التي آلت في الغالب إلى من يعتبرون "معتدلين"، وقد خلد اليوسفي هذا الوضع عندما قال "أرض الله واسعة"، فانسحب كثير من منظري الحزب ومثقفيه فضلا عن المحرومون من تزكياته، حتى أنه وجد نفسه في لحظة من اللحظات دون "ذراعه" الفكري والثقافي، تماما كما حدث بعد ذلك مع الذراع النقابي، عندما دُفع الأموي إلى الهامش، وطرد من الجنة الاتحادية، وشطرت نقابته نصفين (لا داعي لاستحضار أجواء المؤتمر الوطني)، وكما حدث أيضا مع الإعلام الاتحادي الذي انحدرت جرائده إلى مستوى المرحومة "الأنباء"...ولم تكن تلك آخر الأحزان، فقد دخل اتحاديون السجن مؤخراً ليس بسبب السياسية وإنما بسبب الفساد المالي.. اليوسفي سيتعلم درسا آخر من تجربته الحكومية، ألا وهو: "المقاعد أولا"، لأنها الرصيد الذي ينفع عند تقاسم الحقائب الوزارية، ففتح الاتحاد أبوابه لأول مرة في تاريخه أمام الرحل والوافدين، فلم تعد الخلفية النضالية أهم شروط منح التزكية، بل مدى القدرة على الحصول على مقعد...وكانت تلك بداية الانحدار الذي كشفته الانتخابات التشريعية الأخيرة.. والنتيجة هي ما نراه حاليا، حزب "منزوع الدسم"، يتحسس طريقه في أزقة السياسة التي غادرها منذ زمن، واعتقد أن "التناوب" هو "نهاية التاريخ"، التي لن تتطلب منه العودة مجدداً إلى "التلصص" على آمال "القوات الشعبية".. فهل سيسير حزب العدالة والتنمية على نفس الخطى؟ صحيح أن الحزب حسم في الحقائب ومن يحملونها عبر "الديموقراطية الداخلية"، وصحيح أن النقابة مازالت تسير خلف الحزب، لا تسبقه ولا تملي عليه أية توجهات، ولا تناكفه لأنه لا يقودها "أموي" متقلب المزاج.. وصحيح أيضاً أن الحزب لم يعرف انشقاقات أو صراعات بعد المشاركة في الحكومة، رغم الخرجات المدوية لبوانو وأفتاتي، والتي لم تصل في حدتها إلى خرجات اليازغي الوزير يوم تحدث للصحافة المصرية عن "ملكية الشعب" للقصور الملكية، ولا عندما طلب "توضيحات" حول حادث جزيرة "ليلى" خلال مجلس وزراي فسمع ما لا يرضيه.. وصحيح أن الفترة التي مرت حتى الآن غير كافية لاتضاح الصورة بما يكفي، لكن على الحزب ان يستحضر أنه يكرر حتى الآن مسار "التناوب" الاتحادي بالنقطة والفاصلة، وأن مهادنة الفساد والمفسدين، إذا كانت ستساعده على تطبيع حضوره في الساحة، فستنعكس سلبا على رصيده الانتخابي، كما أن محاولة إرضاء الرأي العام عبر مواجهة الفساد المتجذر بطريقة ارتجالية، ستؤدي فقط إلى إيقاظ مزيد "الأفاعي والتماسيح" التي لم تظهر بعد كل ما في جعبتها... لننتظر إذن ما الذي سيحمله المستقبل.. [email protected]