لقد عودتنا المعارضة في العالم المتقدم على مراقبة الحكومة ونقدها وتوجيهها نحو الأفضل ودق ناقوس الخطر عند الحاجة، وفي جعبتها مشروعا مجتمعيا وحكوميا متكاملا تعمل على تنفيذه عندما تسمح لها صناديق الاقتراع بتولي السلطة. لكن المعارضة في العالم الثالث إما تابعة لتوجيهات النظام أو مستفزة ومعرقلة لمسار الحكومات، ولا تحمل أي مشروع مجتمعي أو حكومي يذكر خارج شعاراتها الفارغة، وقليلا ما تتخذ مواقف إيجابية وموضوعية في مراقبتها ونقدها وتوجيهها. إن ما يدفعنا إلى الحديث عن المعارضة ودورها في المغرب الجديد بعد شرارة الربيع العربي، المؤدي إلى الإصلاح الدستوري والانتخابات التشريعية ل25 نوفمبر 2011، وبزوغ حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي المعتدل، كقائد للحكومة المكونة من أربعة أحزاب لا تجمعهم إيديولوجية واحدة، بل يجمعهم اختيار سياسي كضرورة وطنية، وبرنامج حكومي متفق عليه كخطوة أولى في التناوب على السلطة نابعة من صناديق الاقتراع بشكل نزيه نسبيا وبعيدا عن تدخل السلطة المباشر لأول مرة في تاريخ المغرب في ظل دستور جديد رغم ما يشوبه من نواقص وتوجهات مثيرة للجدل، وكما أسلفنا، فإن ما يدفعنا إلى الحديث عن المعارضة ودورها في المغرب الجديد، هو ما يلاحظ من ممارسات من طرف المحسوبين على المعارضة المدعمين بجيوب المقاومة لأي إصلاح داخليا وخارجيا، إزاء الحكومة الجديدة المعينة مؤخرا من طرف الملك بزعامة العدالة والتنمية التي رفعت شعار محاربة الفساد وسياسة الريع والتملص من المحاسبة والدفع بالإصلاح والتنمية إلى الأمام. إن المتتبع الموضوعي المحايد لخرجات المعارضة في شقيها اللبرالي والاشتراكي قبل تنصيب الحكومة الجديدة وقبل تقديم برنامجها أمام البرلمان، لا يمكن أن يستقر إلا على كونها تغرد خارج السرب وتتحرك خارج المنطق والمعقول كأن الناطقين باسمها هم وحدهم في الساحة، ناسين أو متناسين من هم ومن يكونوا وما هو ماضيهم وماذا قدموا لهذا الوطن سابقا عندما كانوا في الحكومة؟ معتبرين المواطنين والرأي العام قاصرين أو لا يفهمون في السياسة شيئا خارج فهمهم هم، محرضين ومحاولين وضع العصا في العجلة قبل أن تتحرك الحكومة المرتقبة، وقبل أن تأخذ طريقها، وذلك بشكل ينم عن تصفية حسابات وحقد وكراهية لهذا الوطن واحتقار لأبنائه باسم النضال والوطنية وحب الوطن، واضعين أنفسهم فوق النقد والمحاسبة، منطلقين من خلفية مضمرة التي تقول: " إما أن نكون أو لا يكون غيرنا ". فهم منذ الآن يحاولون تعكير المياه للاصطياد فيها عن طريق البحث عن شكليات وتوافه لا تستحق الالتفاتة ولا يعيرها الرأي العام أي اهتمام. فهم بهذا في حاجة إلى زمن سياسي هادئ رصين لا إلى التسخين والتعرية المجانية قبل الأوان التي أصبحت روائحها تزكم أنوف الجميع في كل ساعة ودقيقة. فالرأي العام المغربي الآن يراقب ردود فعل المعارضة أكثر ما يراقب خرجات الحكومة وما سيترتب عن ممارساتها المقبلة. فهذه الردود فعل لا تقرأ إلا من خلال تعبيرها عن غضبها ومحاولة معاقبتها للشعب، لكونه لم يمنح لها ثقته المرتقبة، إذ عاقبها بشكل من الأشكال، لابتعادها عن الشعب والاهتمام بمصالحها الخاصة. فما يلاحظ اليوم هو هجومها العنيف المتسم بالعدوانية الشرسة على من اختاره الشعب بحرية لتدبير شأنه العام كأي بلد من بلدان العالم الديمقراطية. فهذا حق يراد به باطل لا محالة. فإذا استمرت المعارضة على هذا المنوال الهزيل الباهت، سوف لا يصدقها أحد مستقبلا، وستكون عرضة للانتقاص والسخرية والتنكيت.. فمعارضة الوافد الجديد وتابعيه لا تجربة لها في المعارضة تذكر ولا استقلالية لها، إذ في الغالب ما تعمل بالتعليمات لممارسة التخويف والتشويش على الحكومة التي يترأسها حزب العدالة والتنمية الذي يشكل السبب الأساسي لوجود هذا الوافد الجديد والخصم رقم واحد له. هذه المعارضة مشلولة من منطلقها لكنها لا سند شعبي لها ولا وجود لها في المجتمع المدني يذكر. فلقد كان سيكتسح الساحة السياسية لولا هبوب رياح الربيع العربي وفرملة تظاهرات 20 فبراير له، حيث لم تنفع معه تكتل ج. 8 الذي انهزم في أول امتحان له في انتخابات 25 نوفمبر 2011 . أما بالنسبة للاتحاد الاشتراكي فكل المغاربة، بدون استثناء، كانوا يحترمونه ويقدرونه باعتباره اليسار الذي يزعم تمثيل المغاربة في عهد الحسن الثاني، رغم عثراته الكثيرة الغير مبررة. لكن اليوم صغر في أعين جل المغاربة منذ مشاركته في الحكومات السابقة ابتداء من حكومة التناوب التوافقي، وازداد انتقاصا من قيمته من خلال خروجه للمعارضة وممارسة المزايدة السياسية وسوء النية الذي أظهره اتجاه حكومة لم تبدأ عملها بعد. والمؤسف أن الكل يعرف أن المرحلة مرحلة انتقالية، وهناك فراغ قانوني في بعض المسائل في الدستور الجديد الذي يحتاج إلى قوانين تنظيمية خاصة، مما يتطلب من كل وطني التركيز على الأهم، وهذا لا يمنع من التنبيه إلى بعض الأخطاء، لأن الخطأ محتمل ووارد. لكن أن نقيم الدنيا ولا نقعدها عن "شبهة قانونية" وشكليات واهية، فهذه هي التربية السيئة السياسية البعيدة عن الموضوعية ومنطق الأشياء. إن ما بعد 25 نوفمبر هو تاريخ جديد لهذه الدولة السعيدة، فالكل مطالب أن تتكاثف المجهودات للبناء سواء في الحكومة أو المعارضة. رغم أن المغاربة وحتى أصدقاء بنكران كانوا جميعا يعولون على الكتلة بزعامة الاتحاد الاشتراكي في الانضمام إلى العدالة والتنمية لتكوين الحكومة القادمة من أجل العمل على التنزيل الصحيح للدستور ومحاربة الفساد وتحقيق الانتقال الديمقراطي الذي يرغب فيه كل المغاربة. لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. فلماذا لم يتخذ حزب الاتحاد الاشتراكي الموقف ذاته عندما لم يحترم الملك منهجية إسناد الوزارة الأولى للحزب الفائز في انتخابات 2002 رغم إلحاح الأستاذ اليوسفي للخروج للمعارضة ومطالبة الشبيبة الاتحادية وبعض قيادات الحزب يذلك في وقته؟ لكن وجود من يرون في الاستوزار كعكة، طالما بحثوا عنها من خلال نضالاتهم، الشيء الذي حال دون ذلك، ففضل اليوسفي الانسحاب في صمت وقمع الشباب وعرف الحزب انشقاقات وانسحابات، فعاقبهم الشعب في 2007 و 2011 . فالاتحاد الاشتراكي، مع كامل الأسف، انتهى بموت عبد الرحيم بوعبيد رغم محاولة المناضل عبد الرحمن اليوسفى إحيائه، ولما فطن إلى السرطان الذي ينخر الحزب، انسحب في صمت إلى جانب نزول خيرة القادة من سفينة الحزب ابتداء بنعمرو والأموى وبوزوبع.. وانتهاء بحفيظ والكعص والساسي وغيرهم. لقد كان أمام الاتحاد الاشتراكي فرصة ثمينة لجمع شمل الأحزاب اليسارية في المغرب الذي يفوق عددهم تسعة (9)، لتكوين قطب سياسي قوي يمكن هذه الأحزاب من تحقيق نتائج تسمح لها بتسيير الشأن العام للبلاد، وتطبيق برامجها في حكومة قوية منسجمة، أو الارتكان إلى معارضة قوية تحمل في جعبتها مشروعا مجتمعيا وحكوميا موحدا، مستعدا لممارسة التناوب الإيجابي الهادئ الرصين.. و ماذا فعل حزب الراضي واليازغي أول ما دخل إلى حكومة التناوب؟ خصخص أو خوصص مؤسسات الدولة التي تدر الأرباح الآن علي أصحابها دون تكلفة، و كل الوزارات التي كانت تنتمي للاتحاد، حسب العارفين، هي الآن تعاني من اختلالات كثيرة. فالاتحاد الاشتراكي مؤخرا فقد البوصلة لم يعد يعرف ماذا يفعل لكون قيادته غير مرغوب فيهم في الاستوزار في حكومة بنكران ولم يتوفروا على نخبة سياسية شابة قادرة على رفع التحدي وحتى إن وجدت لم يسمح لها بالمشاركة في الحكومة الجديدة، ما دام محتكري المناصب فيهم غير مرغوب فيهم، لذا لجئوا إلى فكرة العودة إلى المعارضة التي عبر عنها اليوسفي والشبيبة الاتحادية وبعض قادة الحزب آن ذاك في 2002، عند عدم احترم المنهجية الديمقراطية في تعين الوزير الأول. هذا ويرى بعض المحللين السياسيين أن المعارضة في هذه الظروف غير قادر عليها الاتحاد الاشتراكي، فهو في غالب الأحيان فرضت عليه و لم تكن من اختياره من أجل ملأ الفراغ. و هذه هي مشكلة الاتحاد الاشتراكي الذي تحول من حزب وطني تاريخي ديمقراطي الذي كان يترجم طموحات الشعب المغربي في السبعينات والثمانينات إلى حزب شبه إداري لا هو إداري ولا هو وطني تاريخي اليوم إذ فقد مصداقيته وكاريزميته. لقد بدأت المعارضة في شقها الاشتراكي واللبرالي الحداثي، ليس في معارضة العدالة والتنمية بل في معارضة القطاع الواسع من الشعب الذي صوت لهذا الحزب، لان الجميع يعتقد أنها فقط تريد القول بأنها ما زلت هنا، لكنها أخطأت الطريق والتوقيت. كان يمكن أن تسترد هذه المعارضة بعضا من مصداقيتها بالمشاركة البناءة في الحكومة بالنسبة للاتحاد الاشتراكي أو بالنسبة لكل أطياف المعارضة، بمعارضة منطقية موضوعية وليس بافتعال واختلاق الإشكالات الواهية، حتى قبل أن تبدأ الحكومة في تسلم الملفات ومباشرة الأعمال. فلماذا السرعة والتسرع، فمدة الانتداب تستغرق خمس سنوات. لكن يلاحظ أنها متلهفة لإسقاط حكومة بنكران قبل أن تبدأ. أما في ما يتعلق بمشاركة المرأة، يمكن القول أن " الكوطة " المطلوبة لإنصافها هي إجحاف في حقها وفي ما حققته من مكتسبات علمية ومهنية في كل المجالات بدون استثناء. في الغالب نمتدح حنكة المرأة المغربية وكفاءتها وجدارتها وقوتها، ثم نعود لدعمها بعكاز الضعف والهوان عن طريق عكاز " الكوطة " كأنها تستجدي الصدقة. المطلوب منطقيا وموضوعيا استوزار المرأة عن طريق فرض مكانتها عبر كفاءتها وقدراتها المتعددة والمتنوعة لا عبر جنسها وأنوثتها وجمالها وقوامها أو حزبها وعائلتها. فالمرأة المغربية تملك من المقومات ما يمكنها من ذلك من غير أن تحتاج لدعم ملغوم بالاستضعاف. فلماذا لا تطبق هذه الكوطة على المرأة في الدول المتقدمة؟ فمكانة المرأة في جل الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية إن لم نقل كلهما لا زالت في غالب الأحيان موضوعا لا ذات تستعمل لتأثيث المشهد السياسي لا غير، فهي ترتب دائما في الدرجة الثانية بعد الذكور إلا اللواتي استطعن فرض وجودهن بالعلم والمعرفة والعمل والكفاءة اللازمة من جهة، أو عن طريق موقعها الاجتماعي المتميز أو لجمالها وكاريزميتها وجاذبيتها ودعمها من أشخاص معينين أو جهات معينة من جهة أخرى، وهذا الأمر لا يخص النساء وحدهم بل حتى الرجال. إذن المقياس الحقيقي لكليهما هو الكفاءة والعمل لا غيرهما. لذا يجب العمل على ترسيخ ديمقراطية داخلية تتيح تكافؤ الفرص دون مبرر الجنس أو غيره، كما فعل حزب العدالة والتنمية في اختيار أطره المرشحة للاستوزار دون تمييز بين الذكر والأنثى، فدْلك ما من شأنه أن يبوء المرأة المكانة اللائقة بها وليس استعمالها لتأثيث الأحزاب وتجميل واجهاتها لا غير، حتى تصنف في صفوف الأحزاب الديمقراطية الحداثية العصرية. ليس المهم أن تشارك المرأة في الحكومة وتتقلد حقيبة وزارية، بل المهم هو إنصاف المرأة كامرأة وتحريرها وتعزيز مكانتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية لا تبييض مكانتها باللجوء إلى تلميع واجهات الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني الظاهرة بكراكيز وعرائس من صنع الرجال، لتسويقها إلى الخارج، باسم المناصفة والمساواة وباسم الحرية والحداثة والتحضر،, لتأثيث المشهد السياسي والاجتماعي لا غير. فانتخاب نبيلة منيب كأمينة عامة على رأس الحزب الاشتراكي الموحد لم يكن نتيجة " كوطة " معينة، بل نتيجة انتخاب حر لا يفرق بين الذكر والأنثى إلا بالكفاءة والعمل والنضالية الحق فقط. فمغرب اليوم في أمس الحاجة إلى من يعمل كثيرا وبتفان في عمله، سواء كان امرأة أو رجل، لا إلى من لا يتقن سوى الكلام والخطابات الفارغة. عهد الثرثرة الفارغة قد ولى إلى غير رجعة، وقد أدى الشعب ثمنه غاليا. . فالحكومة الجديدة رغم أنها ائتلافية سياسيا وبرنامجيا في حاجة إلى معارضة قوية وبناءة إن وجدت، تخدم مصالح هذه الأمة وتعبر عن طموحات أبناء هذا الشعب الوفي. وفي حاجة إلى دعم شعبي بمجتمعه المدني المستقل، لقطع الطريق على كل من يعارض ويقاوم الإصلاح في انتظرا استكمال إصلاح الدستور مستقبلا وتحقيق الملكية البرلمانية المرغوب فيها من طرف الجميع.