إن المسار السياسي في المغرب، منذ بدايته في 1963 إلى يومنا هذا 2009، غني بالتجارب والأحداث، حيث أن كل مرحلة من المراحل السياسية، تخضع لشروط وضغوطات وإكراهات ذاتية وموضوعية، تتحكم في توجيه الأحداث نحو هذا الاختيار أو ذاك. لكن الأمر هنا لا يجعلنا نلتزم بالأحداث التاريخية في تسلسلها الكرونلوجي ، التي يعرفها الجميع، بقدر ما يستوجب التركيز على بعض الملاحظات وبعض الاستنتاجات الخاصة، التي تظهر أنها تستحق وقفة تأملية نقدية متأنية في المسار السياسي المغربي. فما طبيعة العلاقة بين الأحزاب الوطنية بما في ذلك الأحزاب الإدارية بالنظام الحاكم؟ وماذا حدث لأحزاب المعارضة بعد المشاركة في حكومة التناوب التوافقي؟ هل الأحزاب في المغرب من صنع المخزن؟ وما مصير أحزاب اليسار في المشهد السياسي المغربي؟ وماذا عن الديمقراطية الداخلية في الأحزاب السياسية؟ وكيف نفسر تقدم الأصالة والمعاصرة في الانتخابات الجماعية الأخيرة؟ وإلى ماذا يرجع التوتر الحاصل بين الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية؟ هل مستقبل الصراع السياسي في المغرب مستقبلا، سيكون بين هذين القطبين السياسيين في غياب اليسار؟ وهل يمكن الحديث عن ارتفاع عدد المشاركة في الانتخابات الجماعية 2009 بالمقارنة مع الانتخابات التشريعية2007؟ وماذا تمثل لنا الانتخابات في المغرب؟ وما هي الحلول التي تجعلنا نتجاوز صناعة الأحزاب، وتحقيق الانتقال الديمقراطي الحق في المغرب؟ تلكم هي الإشكالية التي سنحاول إخضاع أسئلتها للدرس والمناقشة في موضوعنا هذا. فإذا تطرقنا إلى الأحزاب الوطنية بصفة عامة، سواء منها الوطنية التاريخية أو الإدارية المستحدثة من طرف المخزن، لمواجهة الأحزاب التي تحاول فرض اختياراتها، يمكن القول أنها كلها بدون استثناء، تستمد شرعيتها أساسا، بشكل مباشر أو غير مباشر، من النظام المخزني في شموليته، لا من الشعب كما يعتقد هؤلاء أو أولائك. وإذا ما سلمنا بهذه النظرية، سوف نصل إلى نتيجة حتمية، التي لا تفرق كثيرا بين تلك الأحزاب المدعوة بالوطنية وتلك التي أطلق عليها الأحزاب الإدارية. فالفرق الوحيد بينهما، هو كون الأولى تربطها علاقة غير مباشرة وغير واضحة بالمخزن (علاقة توتر وصراع من حين لآخر)، والثانية تربطها علاقة مباشرة وواضحة مع المخزن ( علاقة ولاء وإخلاص )، زد على ذلك إمكانية توريث قيادة زمام بعض هذه الأحزاب لأبناء ومقربي قيادييها التقليديين. فالأحزاب في المغرب تتناسل عن طريق الانشقاق، الذي يعتبر السمة الغالبة في أحزابنا الوطنية. إلا أن أغلب الانشقاقات في الساحة السياسية المغربية، تكون لأسباب شخصية، تغذيها المطامح الفردية في الزعامة والمصالح الخاصة المؤججة للصراعات داخل الأحزاب. لكن في بعض الحالات قد يكون الانشقاق وراءه أيادي خفية من خارج الحزب، قصد إضعافها من جهة، وتهجينها من جهة أخرى، وبالتالي إفقادها المصداقية أمام منخرطيها وجماهيرها بشكل منهجي. وظاهرة الانشقاق هذه بدأت تتسرب إلى الأحزاب الإدارية هي الأخرى بعد أن بدأت تشيخ؟ لذا، نجد أن نظام الحكم عندنا يتحكم غالبا في توجه الأحزاب حسب اختياراته لا اختيارات الأحزاب، رغم هامش التناور (من المناورة) المتروك لها. وإذا ما تجاوزت الخطوط الحمراء في مناورتها، تتعرض لضربات قاسية في بعض الأحيان، أو العمل على إعادة تأثيث مشهدها من الداخل من جديد، يتمشى مع الخط العام المرسوم لها سلفا. في هذا الإطار يمكن أن أقدم دليلا واحدا، هو كون مجموعة من الأحزاب الراغبة في تعزيز المشهد السياسي المغربي، يسارية كانت أو إسلامية أو أمازيغية، لم تحض بالقبول من طرف النظام، لأنها من جهة، لا تتوفر فيها الشروط المطلوبة التي تخول لها أن تنشط في الحقل السياسي المغربي، لكونها ترفض القيود والخطوط الحمراء التي تلتزم بها باقي الأحزاب الرسمية، ومن جهة أخرى، الخوف من سلوكاتها المضمرة، واتجاهاتها الإيديولوجية، وتغلغلها في المجتمع وتأطيره. وما مثال محاصرة حزب العدالة والتنمية رغم احتضانه من طرف الدولة، إلا النموذج الصارخ لموقف الدولة من الأحزاب التي تشكل عليها تهديدا مفترضا في الغالب.فماذا حدث لأحزاب المعارضة بعد المشاركة في حكومة التناوب التوافقي؟ لقد كانت الضربة القاضية للمعارضة وأحزابها، إذ أبانت عن لهفتها على الكراسي الوزارية ومراكز القرار بشكل ملفت. والتجربة غنية عن البيان، لا من حيث تصدعها الداخلي، ولا من حيث انحراف أطرها المنخرطة في الحكومة ب °180 مرة واحدة، ولا من حيث فقدان مصداقيتها في صفوف مناضليها. لقد تم تهجينها بكيفية تامة، إذ أصبحت مخزنية أكثر من المخزن وملكية أكثر من الملك. في هذا الصدد، يروى أن إدريس البصري وزير الداخلية المقال، أنه قال: "لقد ضيع المخزن وقتا طويلا مع المعارضة؛ أي قرابة 40 سنة، إذ كان يخشاها كثيرا... فلو كان يعرف أنها تبحث على كراسي الوزارة، لما ضيع معها هذا الوقت الغالي الثمين، الذي كلف الدولة والمعارضة معا الشيء الكثير ". فما يهم المخزن هو الاستقرار والأمن والسلام، ما عدى هذا فليتنافس المتنافسون، حسب اعتبارات المصلحة ومقتضيات موازين القوى. ألم يقل الحسن الثاني: " إنه مستعد للتضحية بثلثين من المغاربة، ليعيش الثلث في استقرار وأمن وسلام؟" أما فيما يتعلق بصناعة الأحزاب وضمان أغلبية برلمانية وحكومية، يمكن أن نستدل فقط بقولة مشهورة للحسن الثاني، يقول: " لو لم تكن المعارضة لخلقناها ". هذا يعني أن الأحزاب في المغرب هي أحزاب تحت الطلب، لتلبية مخطط المرحلة من جهة، واستجابة للظرفية الوطنية والدولية من جهة أخرى. ويبقى الآن أن نتحدث عن اليسار المغربي المحسوب على المعارضة. في البدء لابد من تحديد اليسار المغربي: إنه بكل دقة واختصار شديد، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية ذات أيديولوجية اشتراكية، وكل الأحزاب المنبثقة عن تنظيماتها السرية الماركسية اللينينية ( 23 مارس وإلى الأمام )، والأحزاب المنشقة عنها فيما بعد. هنا يمكن أن نتساءل عن أسباب تراجعها على مستوى نتائج الانتخابات، سواء التشريعية 2007 أو الجماعية 2009؟ ترجع أسباب تراجع أحزاب اليسار المغربي على مستوى نتائج الانتخابات إلى: أولا: تراجعها الإيديولوجي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين. ثانيا: الجمود التنظيمي واستمرار تطبيق المركزية الديمقراطية في قيادتها وغياب شبه كلي للديمقراطية الداخلية. ثالثا: إنها لم تصمد أمام المد الإسلامي الأصولي وغيره. رابعا: إنها لم تستطع أن تحقق ثورة بداخلها، تسمح لها بتجديد تصورها وأفكارها، وبتطور آلياتها وأدائها، وبانفتاحها على مناضليها وجماهيرها. خامسا: محاصرتها ومضايقتها واختراقها من طرف النظام. سادسا: ضعف أداءها وانحراف أطرها، عندما انخرطوا في الحكومة منذ حكومة التناوب التوافقي. هذه الأسباب وغيرها، جعلت من اليسار المغربي يفقد بريقه وكاريزميته واحترامه وتقديره بشكل ملفت جدا. فمن خلال هذا، فماذا يتبقى لليسار من اختيارات أمام ظروفها الداخلية والخارجية، وأمام الوضع الراهن الذي يقوده الوافد الجديد، الأصالة والمعاصرة من جهة، والعدالة والتنمية من جهة أخرى؟ هذا لا يعني أن اليسار المغربي يحتضر أو انتهى، الأمر ليس بهذه السهولة. فإذا كانت السياسة هي علم الممكن، فكل شيء ممكن إذا توفرت الشروط، وتهيئة الظروف وتوحدت النيات، وتقاربت الآراء والتصورات، وتجددت الأفكار وتخلت عن فكرة الإقصاء والأنانية، وفهمت مطالب الجماهير وحاجاتها، وعملت على جعل المصلحة العامة فوق كل اعتبار. فبهذا، فإن إعادة الانطلاقة ممكنة في كل لحظة وفي كل وقت، شريطة أن يتنازل المخزن عن أنانيته ووصايته، ويفتح المجال لأبنائه للتعبير عن إمكانياتهم وطموحاتهم بكل حرية ومسئولية.لا أعتقد أن المعارضة البرلمانية اليسارية، ضحية مسلسل التناوب التوافقي، كما يدعي البعض، لأنها: أولا: هي التي قبلت المشاركة بمحض إرادتها في مسلسل التناوب التوافقي، بحجة تجنب السكتة القلبية التي كانت تهدد المغرب، حسب تعبير الحسن الثاني. ثانيا: لم تكن لها الأغلبية في البرلمان في يوم من الأيام، أو على الأصح، لم يسمح لها أن تحصل على هذه الأغلبية بالمرة.ثالثا: هي ضحية كل المسلسلات الانتخابية التي عرفها المغرب. فحتى مشاركتها في مسلسل التناوب التوافقي، أفقدها الكثير من الامتيازات التي كانت تتمتع بها سابقا، وحرمها من بريقها جماهيريا و تنظيميا وكاريزميا. فتردد الاتحاد الاشتراكي في الانسحاب من الحكومة، والتشبث بكراسيها، جعله يفقد كل ما يملك من رصيده النضالي التاريخي والوطني، وما راكمه من تعاطف جماهري. وإذا عدنا إلى غياب الديمقراطية الداخلية في الأحزاب السياسية، رغم أن المغرب راهن عليها داخل الأحزاب منذ إخراج قانون الأحزاب إلى حيز الوجود، نجد أن هذا الغياب لا تعاني منه الأحزاب السياسية في المغرب فحسب، بل كذلك المنظمات والهيئات وجمعيات المجتمع المدني والمؤسسات والأسر... هذا نتيجة هيمنة التربية المخزنية الأبوية (الباترياركية)، واستشرائها في جسد المجتمع المغربي بصفة عامة، وفي جسد الأحزاب السياسية والمجتمع المدني بصفة خاصة، تغذيه الأساليب الإدارية والتربوية والبوليسية المعمول بها منذ زمن بعيد، رغم الروتشهات البراقة الخادعة أحيانا. فتحقيق الديمقراطية الداخلية في الأحزاب، مرتبط بشكل عضوي بباقي المجالات الأخرى، تربوية وإدارية وأمنية. أما فيما يتعلق بتقدم حزب الأصالة والمعاصرة في الانتخابات الأخيرة رغم حداثته، يمكن القول أن المسألة، لا تعود بالدرجة الأولى إلى كون مؤسسه صديق الملك كما يزعم الجميع، بل الأمر يعود إلى الظروف العامة والخاصة التي جاء فيها هذا المولود الجديد: أولا: هناك فراغ سياسي كبير، إن لم نقل إفلاس سياسي كبير جدا. ثانيا: هناك بالمقابل عزوف كبير عن التصويت من طرف المواطنين، نتيجة فقدانها الثقة في أداء الأحزاب السياسية ونخبها، والتزام الداخلية الحياد السلبي في مجريات الانتخابات، حيث لم تعد تفرض على الناس التصويت لهذا أو لذلك يشكل سافر، باستثناء البادية التي لا زالت الخزان الذي لا ينبض للناخبين، من أجل تحقيق التوازن المطلوب. ثالثا: هناك مشاركة نخب وأعيان بالمال والإغراء، وكذا النفوذ والسلطة في جميع الأحزاب، بدون استثناء بيمينها ويسارها في الانتخابات، بمعية احترافية سماسرتها، مستغلين في ذلك فقر وجهل وخوف المواطنين. رابعا: هناك ترحال يمينا ويسارا ووسطا، أفقد الفعل السياسي معناه وقيمته. والمستفيد الكبير في هذه العملية هو الوافد الجديد الذي جلب الأحزاب والأعيان والرموز إلى صفوفه، ولا زال الباب مفتوحا للمزيد من الاستقطابات. خامسا: هناك تزكيات لا تحترم الحد الأدنى من أخلاقيات السياسية المتعارف عليها، بالإضافة إلى أن أغلبية المواطنين الناخبين لا يصوتون على الأحزاب، بل يصوتون على الأشخاص، من خلال الولاءات القبلية أو العلاقات الزابونية المصلحية التي يلعب فيها المال دورا رئيسيا.لقد شهدت مرحلة ما بعد الانتخابات توترا كبيرا بين حزب الأصالة و المعاصرة، و حزب العدالة والتنمية. ويرى المراقبون أن هذا الصراع السياسي، سيجري في المستقبل القريب، بين الأصالة والمعاصرة و العدالة والتنمية في غياب تام لليسار. لكن هذا التوتر القائم بين الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية هو توتر مرحلي تكتيكي فقط، تحركه الرغبة في السيطرة على ميزان القوى، أمام الفراغ السياسي الحاصل، الذي تحدثت عنه سابقا. فحزب العدالة والتنمية هو من رحيم المخزن وبمباركته، إذ لا يمكن أن يتناقض استراتيجيا، مع الأصالة والمعاصرة. فالعدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، يتنازعان على الرتبة المخولة لتحقيق الصدارة في الانتخابات القادمة، التي تخول للفائز رئاسة الحكومة القادمة. وما دام حزب الأصالة والمعاصرة ينهج طريق الحداثة واللبرالية، ومدعم من الدولة بصفة مباشرة وغير مباشرة، يسجل نقطا على حزب العدالة والتنمية الذي يقيده اتجاهه الإسلامي المنتقد حاليا من طرف أوروبا وأمريكا على الخصوص. فالصراع السياسي مستقبلا، سيكون بين حزب الأصالة والمعاصرة، الذي سيعرف التحاقات عديدة مستقبلا إلى صفوفه، والعدالة والتنمية إذا ما صمدت للضربات التي تتلقاها من خصومها، واليسار المغربي إذا ما نجح في تحركاته الأخيرة، واستطاع أن يلم شمل فصائله، واسترجع قواه، ونظم جماهيره تحت نظرة جديدة متفتحة ومرنة، تستوعب كل التناقضات السائدة والممكنة. وهذا لا يتأتى إلا إذا واكبه تغيير فوقي، الخاص بالإصلاحات الدستورية الملائمة للمرحلة، وإلا ستبقى الأمور على حالها، تكرار لتجارب سابقة، مع تغيير الديكور والممثلين فحسب.يقال أن الانتخابات المحلية الأخيرة حسب الأرقام الرسمية عرفت ارتفاعا بالمقارنة مع انتخابات البرلمان في شتنبر 2007. لكن إذا ما تفحصنا النتائج نجد أنه ليس هناك ارتفاعا ملحوظا في نسبة المشاركة يستدعي الانتباه، إذا ما قارننا بين الانتخابات التشريعية والانتخابات الجماعية. فالأولى ذات بعد وطني، حيث عدد المرشحين يكون محدودا بالمقارنة مع الثانية، ذات البعد المحلي وعدد المرشحين يكون كبيرا جدا. هذا ما يجعل نسبة المشاركة في الانتخابات الجماعية تكون مرتفعة نسبيا، لأن عدد المرشحين المرتفع في كل جماعة، يسمح بتكثيف الاتصال المباشر بالناخبين المحتملين بطرق خاصة ومختلفة ووسائل كثيرة متنوعة. في المقابل، نجد الناخبين يقبلون على مكاتب التصويت، لكون الانتخابات الجماعية تهمهم أكثر من الانتخابات التشريعية، لأنها تتصل بمصالحهم الآنية بشكل مباشر. وإذا كان لابد من الحديث عن مسلسل ديمقراطي فعلي بالمغرب، في ظل استمرار صنع الأحزاب من طرف الدولة، يمكن القول إن قطار الديمقراطية في المغرب، اختير له الطريق، لكن لم توضع له السكة بضوابطها ومحطاتها لتنظيم سيره ومراقبة حركاته. لذا فهو ينحرف ذات الشمال وذات اليمين حسب رغبة المالكين لزمام القيادة الغير المؤهلين لذلك، فهو لا يخضع للمراقبة والضبط اللازمين، إذ غالبا ما يتيه في فوضى عارمة، خارج نظام البوصلة، لا ندري مصير راكبيه. فالانتخابات عندنا في الحقيقة، مجرد سلعة في سوق الديمقراطية الممنوحة، فهي لعبة رديئة، لكن تبقى صالحة، ما دام ليس هناك بديل عنها. فكلما كان المجتمع واعيا وعارفا ومنظما، كلما كانت الديمقراطية صالحة نسبيا للتناوب الإيجابي على الحكم وتسيير الشأن العام المحلي والوطني. أما إذا كان المجتمع شبه أمي وينخره الفقر والجهل والخوف، هنا تصبح الديمقراطية مجرد ملهاة لتلهية العوام والفقراء، باسم الحداثة والتحديث والتنمية المستدامة، وفتح المجال لظهور رهط من النخب والأعيان الجدد كالفطر، لا حس وطني أو إنساني لها، تجعل من الديمقراطية سلعة تباع وتشترى وتقايض في برصة قيم الانتخابات، بسماسرتها ومحترفي النخاسة وشراء الذمم. فلا هم، في الحقيقة لها، إلا تحقيق المصلحة الخاصة بأي ثمن كان. فالأعيان الجدد الطفيليين والمتطفلين على السياسة، وهي منهم براء، هم الذين انتصروا في الانتخابات الجماعية 2009، بدعم من السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر، والمنهزم هو السياسة والأحزاب والمجتمع والديمقراطية. وما نتائج المحاكمات الإدارية الأخيرة والتي لا زالت مستمرة، إلا خير دليل على ما توصلت إليه من ملاحظات واستنتاجات. وأخيرا يمكن أن نتساءل، هل يمكن أن نعتبر ملامح المسار السياسي المغربي الحالي، على أنه معاودة إنتاج تجارب الماضي القائم على صناعة حزبية في مختبرات مخزن، يريد تكريس ما هو جوهري في النمط المخزني التقليدي، لتدبير قضيتي توزيع الثروة والسلطة؟ في الحقيقة، لقد آن الأوان وحان الوقت وتهيأت الشروط الوطنية والدولية، ونضجت الظروف الذاتية والموضوعية، لتقوم المؤسسة الملكية بثورة جديدة لتصحيح المسار وتقويمه في المغرب، في إطار سيادة الملكية والحكم للشعب. فلا بد من وضع السكة المناسبة بضوابطها ومحطاتها ونظام التناوب الديمقراطي على قيادته ومراقبة سيره السليم بشكل دائم ومستمر. وهذا لا يتأتى إلا في ظل التعديل الدستوري الحقيقي يختاره الشعب، وتنازل المخزن عن أنانيته، ورفع وصاية السلطة عن المؤسسات المنتخبة، وفتح مجال للمنافسة السياسية النزيهة الشفافة في المجال التشريعي وتدبير الشأن المحلي والجهوي والوطني، وتفعيل القانون في ظل استقلال القضاء وتأهيله، الذي كان محور خطاب الملك محمد السادس، في ذكرى ثورة الملك والشعب 2009 ، وكذا متابعة الضالين وتقويم أخطائهم، ومحاسبة المفسدين ومعاقبتهم بصرامة فائقة، والتشنيع بهم حتى يكونوا مثالا لمن تسول له نفسه ارتكاب نفس السلوكات المشينة، ونفس الحماقات التي لا تخدم مصلحة البلاد والعباد.. فما يمكن أن يخشاه كل مغربي غيور، حسب المحللين السياسيين والملاحظين الاجتماعيين، هو إقبال المغرب على فوضى عارمة و" سيبة " جديدة، وانفلات أمني خطير، بحيث افتقدت الأخلاق والقيم وروح الوطنية ونبض المسئولية قيمتها ومكانتها. فما دمنا نعيش إفلاسا سياسيا، وكسادا تربويا وثقافيا وفنيا، وفسادا إداريا، حيث تنتشر رائحة الرشوة في كل مكان، وتخلفا اجتماعيا واقتصاديا يثقل كاهل أغلب المواطنين، وتهميشا لبعض المناطق دون أخرى، واللامبالاة والتسيب في تسيير وتدبير الشأن العام المحلي والوطني، لا يمكن أن ننتظر إلا الأسوأ فالأسوأ، رغم ما نلاحظه من تغير وتطور عبر الأوراش الكبرى المدشنة هنا وهناك. وإذا ما حاولنا تقييم الانتخابات في المغرب منذ 1963 إلى اليوم، فهي انتخابات تحت الطلب وعلى المقاس المرغوب فيه من جهة، وعلى حساب المواطنين (مرغم أخاك لا بطل ) من جهة أخرى. فلتبرير ما قلته، أسوق حقيقة واحدة يدركها الجميع: هو أن جل المرشحين، إن لم نقل كلهم، سواء في الانتخابات التشريعية أو الانتخابات الجماعية، يتحولون عند نجاحهم إلى صف المخزن ومع المخزن وأصاحب سلطة (كموظفي الدولة)، لا كممثلي الشعب والمدافعين عن حقوقه ومصالحه، بل يصوتون، في غالب الأحيان، ضد مصالح الشعب، وضد المصلحة العامة. فأصوات المواطنون، بالنسبة لهم، مجرد وسيلة لا غاية. فماذا ننتظر من أمثال هؤلاء؟؟ هنا تحضرني قولة مشهورة لأوفقير، رمز المخزن آن ذاك، قال: " ما دمت أستطيع أن أمشي في شوارع بلدي بحرية وأمن، وأتمتع باحترام الناس كرمز للنظام المخزني، فإن المغاربة لا يستحقون بعد الحرية" !! فماذا يريد أن يقول بكلامه هذا ياترى؟ أليس هو القائل، حسب ما يروى أيضا (وشهد شاهد من أهلها): "إن المخزن يرى البلد بقرة حلوبا، يراد منا أن نمسكها من قرونها بقوة، حتى تتمكن طفيليات الداخل والخارج من حلبها في أمن وأمان" .فعلى هذا الأساس، لابد إذن من التفكير الجاد بمساهمة جميع الأطراف، لإيجاد حل وطني وديمقراطي قبل فوات الأوان، يحفظ لبلدنا الحبيب كرامته وعزته، وأمنه واستقراره ، وكذا تطوره وتقدمه.