يوضح التشخيص السياسي والدستوري للنظام السياسي المغربي بفاعليه وقواعد لعبته السياسية وبنيته المجتمعية ،انه يعيش خلال المسافة الزمنية الممتدة طوال سنة بعد التصويت على وثيقة يوليوز 2011 ، ثلاث حالات : القلق ، التوتر و الانتظارية ، الحالة الأولى هي القلق، لأنه لا احد كان يعرف هل تجاوز المغرب فعلا مخاطر احتجاجات سنة 2011 ،فرغم التدابير الدستورية والانتخابية وبعض الإجراءات الاجتماعية المحدودة فان الفاعلين كانوا لازالوا غير متأكدين من درجة قدرة هذه التدابير على إضعاف الاحتجاجات السلمية غير العادية التي عاشها المغرب ،وحتى حدود الرقم الذي قدمه وزير الداخلية أمام مجلس النواب حول التظاهرات الاحتجاجية منذ بداية سنة 2012 (معدل 50 وقفة في اليوم يشارك فيها مابين 2000 و5000 شخص ) كانت الدولة لازالت قلقة ، ولكن يبدو اليوم ، من خلال خطابات الفاعلين السياسيين وسلوكياتهم ،أن الدولة باتت مؤكدة ،على صواب أو خطا ،أنها تجاوزت زمن احتجاجات حركة 20 فبراير وتوابعه ، الحالة الثانية، وهي التوتر الذي ظهر على مستويين ،يتعلق الأول بتوتر بعض الفاعلين مع فوز حزب العدالة والتنمية وصعوده إلى قيادة الحكومة ،فالكل بات يحمل حقيبته ويعارض حكومة العدالة والتنمية بما أوتي من قوة ،وبدا المشهد العام يوضح أن الدولة بفاعليها منشغلة بحكومة العدالة والتنمية وكأنها حكومة قضاء وقدر ، ويرتبط التوتر الثاني ببداية اشتغال حكومة عبد الإله بنكيران، إذ كان هناك إحساس بالغموض في البداية حول توجهات الحكومة بوجود سقف كبير للشعارات التي رفعتها بطريقة حماسية ساهمت في" دغدغة مشاعر" العديد من الفئات الاجتماعية خاصة الفقيرة والمتوسطة منها، قبل قرار الزيادة في أسعار المحروقات . الحالة الثالثة ،هي الانتظارية التي عاشها المجتمع ،فالآمال التي حملتها وعود حكومة بنكيران كانت كبيرة وقد رفعت سقف الانتظارات ، وبالتالي ، فالصعوبة اليوم داخل المشهد السياسي والاجتماعي هي عدم التواضع في التوقعات و مخاطر استمرار حكومة حزب العدالة والتنمية في تأسيس الوعود وإنتاج نقيضها ،فالانتظارات والآمال قد تتحول إلى مشاكل واحتجاجات في اية لحظة ،وان كان التحول في خطاب حزب العدالة والتنمية خلال الأسابيع الأخيرة المبني على خطاب وجود صعوبات ومقاومات في الإصلاح ،يقدم إشارات ملموسة بدا يتلقفها المجتمع ، وهو ما يجعل إمكانية الإحساس بالدوران في الفراغ واردة بعد تعبئة سياسية واجتماعية كبيرة خلال منتصف سنة 2011 ،الشيء الذي قد يؤدي إلى انزلاقات سياسية واجتماعية قد تزعزع قواعد اللعبة السياسية التي لازالت هشة وغير متوازنة. ومقابل هذه الحالات الثلاث، تبرز ثلاث صور كبرى على الأقل بعد مرور سنة على وثيقة يوليوز : الصورة الأولى ، دستور يراد تنزيله بدون أعمال تحضيرية ، دستور لا نعرف لحد اليوم ماذا كان يريد واضعوه، وهو ما يفتح المجال أمام كل التأويلات بما فيها التأويل السلطوي لمضامينه ،فنحن اليوم أمام دستور غامض لم يستطع إنتاج أثره في المؤسسات والمجتمع ، وما "رقصات " حكومة العدالة والتنمية وتناقضاتها إلا دليل على هذه الصعوبة المرتبطة بغموض الدستور في غياب أعماله التحضيرية المفسرة لماهية ومعنى أحكامه ومقتضياته ،يضاف الى ذلك وجود حالة انحصار دستوري ترابي ، فالدولة أجلت انتخابات الجماعات الترابية بحجة سياسية ضمنية هي التخوف من نتائج لحزب العدالة والتنمية شبيهة بانتخابات 25 نونبر التشريعية ،رغم أن ميولات الجسم الانتخابي تتغير ،لكن مقابل هذا التأجيل لم تنتبه السلطات إلى حالة الاحتجاجات المحلية الترابية المتزايدة في الهوامش ،فالإعلان عن الإصلاح الدستوري ومباشرته بوثيقة يوليوز 2011 خفض من درجة الاحتجاجات ،لكن التأخر الحاصل اليوم يمكن أن يعيد بناء كثلة جديدة من الاحتجاجات ،كما أن الانشغال بنتائج حزب العدالة والتنمية المتوقعة في انتخابات الجماعات الترابية يبدو انه مفكر فيه من خارج قضية الصحراء،وبالعودة إلى تقرير الأمين العام الاممي الأخير حول قضية الصحراء وتشديده في العديد من الفقرات على قضية الجهوية المتقدمة يعد بمثابة اختبار للمشاريع الإصلاحية الموعودة من طرف المغرب في الصحراء ،وأمام حالة تأجيل الانتخابات الجماعية الترابية،وضمنها ترسيم الشكل الجديد للجهوية ، وأمام تعثر مسلسل المفاوضات وحالة التوتر مع المبعوث الاممي المتمسك به من طرف الأمين العام الاممي والسكوت الأمريكي ،إضافة إلى اليأس وعدم الامن في المخيمات،فان هذه العناصر يمكن أن تحول قضية الصحراء من مسالة مجتمعية تنموية، تحتاج إلى دفعة ترابية جديدة في شكل نمط الجهوية المتقدمة ،إلى قضية أمنية . ومقابل هذا الانحصار الدستوري ،تضغط النخب البرلمانية في مجلس المستشارين في اتجاه إجراء انتخابات في شهر شتنبر المقبل لتجديد ثلث أعضائه لضمان استمرارية أطول لباقي المستشارين ،وهو ما سيشكل في حالة حدوثه خرقا واضحا لدستور 2011 واستمرارا في الاشتغال بدستور ميت هو دستور 1996. الصورة الثانية ، أخلاقيات الدولة، فالأخلاقيات هي نظام من المبادئ والقواعد تمكن من تبرير السلوكات السياسية والمؤسساتية ،فالدولة لها أخلاقيات ولها سقف يحمكها هو القانون، ويبين ملف شركة الملاحة التجارية "كوماناف "، وقضية التعويضات او العلاوات في وزارة المالية بين الوزير السابق والخازن العام ،وواقع السجون من خلال تقرير لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان حول المهمة الاستطلاعية لسجن عكاشة ،وقضية تساقط العدائيين المغاربة في اولمبياد لندن بالمنشطات ،وتصريح مدير المكتب الوطني للأعمال الاجتماعية والثقافية المكلف بتدبير الأحياء الجامعية انه لا يعرف مصدر اللحوم التي يأكلها الطلبة ...،تبين هذه الحالات أن هناك اعطاب كبرى في الدولة ، فهذه القضايا والملفات الرائجة داخل الدولة لا يمكن الفصل داخلها بين حالة السجن باعتباره الشكل الرئيسي للعقاب وبين ما يجري في عدد من المؤسسات ،فحالة السجن هي تعبير عن مؤشر درجة حالة المجتمع الانضباطي من عدمه ودرجة المراقبة فيه والتعبير الجديد عن السلطة في الدولة ، فحسن نية المصلحين وإنسانيتهم او تغيير القوانين ليس كافيا ، فالدولة في المغرب تحرص على بناء الجماليات ولكن أين الأخلاقيات ؟ فمخاطر هذه القضايا التي تروج في الشارع تظهر في أمكانية توظيفها في المستقبل لبناء حجج في الاحتجاج على الدولة او إضعاف الدولة نفسها في حالة عن تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب الذي يمكن أن يحولها إلى دولة رخوة فيها أشخاص فوق القانون . الصورة الثالثة ،الانشغال بحكومة العدالة والتنمية ،فاستعمال زاوية النظر،بلغة السينما ، الى الدولة والسياسة تبين أن المغاربة يعيشون مسلسلا اسمه " مغامرات بنكيران "انطلق بحلقة فوز حزب العدالة والتنمية وإعلانه التمسك بشعاره الانتخابي المتمثل في محاربة الفساد ،وحلقة بنكيران والعفريت التي تذكرنا بنص من تلاوة بوكماخ "احمد والعفريت" وحلقة "عفا الله عما سلف" وصولا إلى حلقة وجود طبقة سياسية تنتظر سقوط حكومة بنكيران في أي لحظة ،لكن يبدو أن الكثير نسي ما يجري في العالم العربي ووعود السنة الماضية في أوج احتجاجات 20 فبراير، ونسي أن الأسباب التي تقود إلى الاحتقان الاجتماعي لازالت موجودة ،وان الانشغال بحكم العدالة والتنمية وانتظار سقوطها يبعد عن كل تفكير في إيجاد حلول للتوترات الاجتماعية وحالة صراع الأجيال المستمر بين شباب له شهادات عليا يسعى للوصول الى مواقع اجتماعية مهنية ، مقابل وجود جيل قديم يصر على الاستمرار،ليس فقط جيل النخب السياسية ولكن أيضا النخب الإدارية، فالعديد من الإدارات لجأت، ضدا على القوانين السوسيولوجية لتناوب الأجيال ،إلى التعاقد مع مديرين واطر وصلوا الى سن التقاعد ، في وقت يحتاج فيه المغرب الى إظهار نخب جديدة محل النخبة التي انتهت وظيفتها السياسية والاجتماعية مع أحداث سنة 2011. ويبدو أن صانعي القرار السياسي في المغرب ينسون بسرعة عن قصد او غير قصد ان ملامح "ثورة اجتماعية" تشكلت في سنة 2011 نتيجة احتقان اجتماعي ،لكنها ماتت بسرعة لأنه لم يلتق فيها الخطان الأساسيان :خط المطالب المعيشية اليومية وخط المطالب السياسية والحقوقية ،كما أنهم ينسون بسرعة ان المغرب يعيش تحولات مجتمعية عميقة سيكون لها تأثيرها وانه داخل هذه التحولات يستمر تساقط فئات اجتماعية من الطبقة الوسطى الى الطبقة الفقيرة،وان تفاوتات اجتماعية كبيرة يحس بها المواطنون نتيجة ما يروج من قضايا مالية ،هذه التفاوتات التي تجعل الأرضية خصبة لتوسع مساحات الاحتقان الاجتماعي . وبالعودة إلى مؤسسة الدولة والوثيقة الدستورية وبينهما القضايا التي تروج بين يدي القضاء او التي لازالت خارج مساطره، يبدو أن الكثير لا يقرا المؤشرات والدلالات العميقة لهذه القضايا ،وهنا يحضر التقرير السنوي الذي صدر عن المجلة الأمريكية فورين بوليسي حول مؤشر الدول المهددة بالفشل او عدم الاستقرار والذي أورد المغرب ضمنها، بناء على مجموعة مؤشرات منها درجة الثقة في المؤسسات ، ورغم انه من الصعب الحكم على درجة الاعتماد على هذا النوع من التقارير في المغرب ،ولكن تحضرني هنا صورة مجموعة من الملتقيات التي كانت تنظمها معاهد أوربية وأمريكية حضرت أشغالها في لبنان والأردن خلال سنوات 2008-2009-2010 حول مؤشرات الدول المهددة بعدم الاستقرار في العالم العربي ، ومن الدول التي كانت مرشحة بقوة للسقوط في حالة عدم الاستقرار دولتان أساسيتان هما مصر واليمن بناء على مؤشرات أساسية،بعد تحليل التطورات المجتمعية ، منها ثلاث مؤشرات كبرى هي:درجة تطبيق القانون ،درجة تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب ودرجة الثقة في المؤسسات ،وقعت تحولات وسقطت مصر واليمن ولازالت مؤشرات القياس موجودة للاستعمال الاستباقي . [email protected]