حينما يصبح سقوط الأسد حلم يقظة لا زال التناقض يطبع المسألة السورية حيث بات المشهد السوري مجالا لكبرى المفارقات.وليس هناك أي داعي للعجب لأنّ وظيفة الإعلام المنخرط اليوم بقوة في لعبة الحرب على سوريا هي خلق الحدّ الأقصى من المفارقات ؛ الغذاء الأفضل لرأي عام عربي لا يزال منذ تأسيس الدولة العربية يعيش خدعة كبرى إلا ما أخرجه الوعي الطليعي الذي لا يقرأ المحلي بعيدا عن الجيوستراتيجي. فلا يوجد شيء يمكن قراءته اليوم بعيدا عن هذا المنظور وحتما لا تشكّل الديمقراطية استثناء في الرهان الجيوستراتيجي ولعبة الأمم كما دشنتها وزارة المستعمرات البريطانية التي أرست قواعد لعبة في الشرق الأوسط بعيدة المدى.ولا يهمّنا الآن الحديث عن الديمقراطية التي انفضح أمرها وتمزّقت أستارها، بعد أن نجحت القيادة السورية في تمديد عمر التحدّي وأظهرت استثناءها كدولة ممانعة لم تجرفها لعبة التثوير بعيدا عن استراتيجيا حقيقية لطلائع الثورة. فكل المؤشّرات تؤكّد على أن الثورات التي تخضع للمخطط الخارجي وتتغذى على البترودولار هي مرتهنة للاستعمار والرجعية. فبعد الجرجرة الطويلة التي فرضتها الممانعة على المخطط الخارجي وأدواته في الداخل بتنا أمام حيص بيص من الأفكار التي تنتمي للمزاجات الكيدية التي اشتركت فيها كلّ الأهواء وإن كانت الفروق بينها عميقة إلى حدّ عجز ما سمي بالمعارضة في الخارج على التّوحّد على سياسة حقيقية، لأنّ المال الحرام يفرّق ولا يجمّع. المثير هنا أن جميع السيوف شحذت وجميع الخطط البديلة تراكمت في انتظار التهاوي في مزبلة التاريخ. سوريا اليوم تصنع تاريخها وتنظّف ساحتها من أسباب الهزيمة. فالانتقال باللوجيستيك الإرهابي من مدينة إلى أخرى ومن زنكة إلى أخرى قصد استنزاف قدرات الجيش السوري باءت جميعها بالفشل. لقد حصدت سوريا ثمار سياستها المستقلة الكاملة السيادة لأنها وبشهادة المسئولين الأمريكيين ظلّت عصية على الاحتواء والسيطرة. كانت بابا عمرو ستالين غراد الثورة السورية كما رآها البعض. وكان العرعور قد أصدر تحدّيا ساذجا لبشار بأن الثورة السورية ستوقف الحرب إن استطاع بشار أن يلقي خطبة في بابا عمرو. تطهرت بابا عمرو من المسلحين وزارها بشار الأسد ثم بكى العرعور وندب حظّه العاثر ، ولم يف بوعده ولم تتوقف حركة المسلحين المأتمرة بأوامر جهات إقليمية ودولية لا زالت تضخ بالمال والسلاح عليها. وتحوّلت اللعبة إلى دمشق قبل أن يقوم الجيش الوطني السوري بالسيطرة على أهم نقاط التوتر فيها. لكن اللعبة لم تنته ، فتحولت إلى حلب المحاذية لتركيا ليبدأ فصل آخر من التحدي.حلم بمنطقة معزولة ستظل تركيا عاجزة عن تحقيقها. كانت حلب صعبة على المسلحين وسادتهم أكثر منها على الجيش السوري. فهم يدركون أن حلب هي عصب الاقتصاد السوري. وما لجؤوا لتفجير الوضع فيها إلا بعد أن فشلوا في كل محاولاتهم الأولى. فالشعب الحلبي لن يقبل بأن تتوقف الحياة الاقتصادية في هذه المدينة. غير أن الإعلام المضلل حاول أن يلعب لعبة طوم و جيري ليحصل على صور لبضعة ساعات في انتظار تعزيزات الجيش السوري الوطني. بعض وسائل الإعلام العربية تجرأت واقتحمت الحدود مع المسلحين من جهة الحدود التركية من دون إذن السلطات المعنية مما يعني أنها باتت جزءا من الحرب على سوريا. أعلن أحدهم زهوا بالغا وهو يحاول أن يغطي الأحداث الأولى في حلب في محاول لأولى الكذبات الحلبية باعتبار أن المسلحين سيطروا على ما يقارب 60في المائة من حلب. لم يكد المراسل المذكور أن ينهي كذبته الأولى حتى أصابته رصاصة من الجيش الوطني السوري عجلت بترحيله إلى تركيا قصد العلاج. اليوم المسلحون بعد زهوهم بأنهم حرروا حلب كما زعموا ذات مرة أنهم سيطروا على حمص وغيرها باتوا يولولون مما ينتظرهم من حملة كاسحة من طرف حماة الدّيار السوري. لسان الإعلام المضلل طويل ولم يعد يخجل من خيباته لأنه يهتم باللحظة والنقر الدائم في آدان الرأي العام غير المعني حتى الساعة بمخاطر ما ينتظر سوريا إن هي نجحت فيها هذه الخديعة الكبرى باسم أنبل مطلب للشعوب ، ألا وهو الديمقراطية. لكن، لا بدّ هنا من الإشارة إلى التّحوّل في آراء أهل الخبر وكبار الصحفيين العالميين وحتى العرب بعد أن بدؤوا يدركون أن لا مجال للاستمرار في حجب سماء العرب بغربال الديمقراطية المغشوشة. فالأولوية هنا للخطر الاستراتيجي الذي يتهدد آخر دولة عربية لا تزال عصية على الاحتواء الخارجي. ويمكننا الحديث هنا عن موقف هنري كيسنجر من الأحداث السورية. فهو يعتقد أن القضاء على سوريا غير ممكن إلا إذا قذفت بقنبلة نووية. هذا في نظر الخبير الاستراتيجي يعني استحالة الانتصار على سوريا. لكن كيسنجر أظهر إعجابه بمنجزات النظام السوري لا سيما في مسألتين: الأولى كيف استطاعت دولة غير نفطية أن تنجز كل هذه البنية التحتية. والثانية كيف أن لا أحد استطاع أن يقهر كيسنجر في كل مساعيه الدبلوماسية والتفاوضية كما قهره حافظ الأسد. وفي لقاء تلفزيوني مع جورج غلوي النائب البرلماني والمناضل البريطاني مع متحمسة أمريكية لنصرة الشعب السوري أظهر غلوي كم كانت هذه الأمريكية ضالة مضللة وجاهلة بالأوضاع في سوريا. لقد قال لها دعيني أثقفك من جديد بخصوص الأوضاع في الشرق الأوسط وعبّر لها بالمعطيات الواقعية بأن الحديث عن الشعب السوري شبه مهزلة لأن أغلبية الشعب لا زالت تخرج لدعم بشار الأسد. كان روبيرت فيسك كبير الصحفيين البريطانيين والصديق حتى عهد قريب للمعارض السورية والمناهض للنظام السوري بدأ يتحدث عن أن كنوز سوريا الأثرية بدأت تدمّر من قبل المسلحين السوريين. كما بات وضع الأقليات في خطر. يقول روبرت فيسك بالحرب:" إن الآثار السورية، التي لا تقدر بثمن، أصبحت ضحية للسرقة والتدمير من قبل مسلحى المعارضة والقوات الحكومية، بل إنى أكاد أرى سيناريو تدمير التراث العراقى فى أعقاب الغزو الأنجلو أمريكى الفوضوى يتكرر فى سوريا.". وكان روبيرت فيسك الذي نقل عنه كل المعارضين السوريين آراءه حول أحداث حماة في بداية الثمانيينات كشاهد على مجرياتها من الداخل قد كشف عن اللعبة الدائرة اليوم في سوريا. ويتساءل روبرت فيسك قائلا في لقاء مع الاندبندت:" ويقول الرئيس باراك أوباما ووزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون، إنهم يريدون دولة ديمقراطية في سوريا. لكن قطر دولة استبدادية والمملكة العربية السعودية كذلك من بين الدول الملكية الأكثر دكتاتورية في العالم العربي. يرث الحكام في كلتا الدولتين السلطة من عائلاتهم. والمملكة العربية السعودية هي حليف للمتمردين السلفيين الوهابيين في سوريا، كما كانت الداعم الأكثر حماسا لطالبان من القرون الوسطى خلال العصور المظلمة في أفغانستان". و ليس بعيدا عن هذا يطالعنا عبد الباري عطوان في مقالته المعنونة: حدثونا عن سوريا ما بعد الأسد؟ تحدث فيه بشكل مختلف عن كل مقالاته الأولى التي جارى فيها المعارضة السورية في الخارج. عبد الباري عطوان يعاني من شكيزوفيرنيا في كتاباته. وهو شديد التردد والتقلب في الصحافة يكاد لا يجاريه فيها سوى وليد جنبلاط بك في السياسة. لكن مقاله الأخير كان أكثر استجابة لشخصيته الثانية؛ شخصية المحلل للوقائع في ضوء حقائق التاريخ ولعبة الأمم. وجل المفارقات هنا لا تكمن في مقاله الأخير بل في مقارنة مقاله الأخير بما كتب في وقت سابق. يقول عبد البارئ عطوان:"أتحدى أن يقدم إلى زعيم عربي واحد، من الذين يبحثون مع الأمريكان والأوربيين ليل نهار في مستقبل سوريا ما بعد سقوط نظام بشار الأسد". يتحدث عن عفوية ثورات الشعوب العربية لكن الغرب ركب هذه الثورات ووظفها لمصلحته في الاستيلاء على النفط العربي. وإضعاف العرب عموما وخطرهم على إسرائيل. وقد لفت إلى عبارة توني بلير منظر الاستعمار الجديد حول مفهوم التغيير المتحكم فيه، بالربيع العربي، على أنها حقيقة لا زالت ماثلة للأذهان. إننا كما قال عبد الباري عطوان نعيش خديعة أخرى. فالكاتب يكتب ما يكتب على أساس ما عبّر عنه بالحرف:" أطرح هذه الأسئلة حتى أبرئ ذمتي، وحتى يجد باحث شاب في المستقبل انه كان هناك من كتب وحذر وعلق الجرس، وان كل العرب لم يكونوا مضَلّلين ويسيرون في ركاب مخططات تقسيمهم وتفتيتهم بأعين مفتوحة. إنها شهادتي للتاريخ". كلام مهمّ ويصلح فعلا لإبراء الذّمة. وهنا لا بدّ من القول أن الصحافة تشهد بعد التراجع الناعم في مقاربتها للشأن السوري للخروج المسبق بماء الوجه بعد أن تأكّد أن سوريا ستخرج من محنتها حتما. بالفعل إن السلاح يضخ على سوريا من الجهتين كما قال عطوان وهو متطور لم يعرف خلال الحروب العربية الإسرائيلية. فهل يا ترى نتساءل بدورنا: هل هذا التكثيف في تحويل الصراع إلى خارج الحدود السورية باستنفار تركيا والأردن غايته الخوف من السلاح المتدفق على سوريا من روسيا تحديدا وهو من شأنه أن يحقق توازنا حقيقيا في بنية التسلح الاستراتيجي الذي كانت تسعى إليه سوريا وها هو اليوم يقدم لها على خلفية الأحداث الأخيرة، وهو السلاح الذي كانت تفتقده سوريا، وهو أيضا ما يفسّر سكون جبهة الجولان المعلّقة والتي تستعملها المعارضة معيرة للنظام السوري فيما هي تتعاطى ليل نهار مع أصدقاء سوريا الخيالية الذين هم في نهاية المطاف أصدقاء سوريا التي تحتل الجولان، وتحارب سوريا اليوم لأنها لم تنسه ولم تقبل بالتفاوض حول سيادتها عليه خلافا للتصريح الدخاني الذي نطق به الغليون سابقا، والذي يطمئن فيه أصدقاء سوريا وإسرائيل بأن حلاّ تفاوضيا مع إسرائيل سيتحقق فور سقوط هذا النظام ووصول هذه الشرذمة إلى حكم سوريا تحت الوصاية الأطلسية والصهيونية. حكاية الجولان نفهمها من خلال حديث كيسنجر الذي اعترف بأن حافظ الأسد في كل جولاته التفاوضية قد قهره ليبقي الجولان مفتوحة على استحقاق الأجيال؛ فلئن كان هناك من فضل في هذا فهو يعود إلى جعل الجولان منطقة مفتوحة على الاحتمالات. وهذا في حدّ ذاته أولى من القبول بسلام تحت طائلة شروط انهزامية مذلّة. الاستراتيجيون وحدهم وليس الغوغاء، يدركون لماذا ظلت جبهة الجولان ساكنة فيما هي هضبة تقوم فوق الجمر.