رد على مقال لحسن العسبي تقديم: على خلاف إجماع الحداثيين، على أن البروتوكول المخزني- الذي لا ينتمي لا للبيئة العربية ولا الأمازيغية ولا الإسلامية - صار ثقيلا، يجب تخفيفه، أو عبئا مشينا يجب التخلص منه نهائيا، فإننا نفاجأ من حين لآخر بأصوات نشاز من داخل الصف الحداثي نفسه تسير في الاتجاه المعاكس، وتصطنع نوعا من العلماوية الزائفة للتطبيع مع ما لا يقبل التطبيع. وبمناسبة تخصيص جريدة الاتحاد الاشتراكي ملفا لقضية البروتوكول الملكي (العدد رقم: 10101، ليومي السبت والأحد 26 و27 ماي 2012) طلع علينا الأخ لحسن العسبي، من داخل الجريدة، وصف الحداثيين، يا للمفارقة! يسير في طريق النشاز مُموها بالرد على موقف الأستاذ أحمد الريسوني فيما سماه "خرجة من خرجاته". ونحن لا نرى مناسبة لهذا الربط، ولا ضرورة لهذا القناع، لذلك لن نخوض فيها، بل سنذهب إلى ما نعتقده عصب مقاله في الموضوع؛ وسنتناول ما اعتبره الأستاذ العسبي أسُسا علمية وتاريخية لتسويغ البروتوكول والتطبيع معه. ولن نخوض في الخلفيات والنوايا التي يبقى علمها عند الله، وما سيكشف عنه المستقبل، وما نعرفه عن الأستاذ العسبي من خلال كتاباته ومواقفه السابقة يفرض علينا إحسان الظن به... 1 في مفارقات خطاب العسبي وتسويغ البرتوكول المخزني انطلق الأستاذ لحسن العسبي في مقاله الموسوم: "حين ينسى المريد درس شيخه"، من فرضية تدعي بأن قراءته لخرجة الأستاذ أحمد الريسوني "الملكية" ستكون تحليلية محايدة، وهو ادعاء مشروع يقتضي الإخلاص لفرضيات الانطلاق، ومراعاة الانسجام في بناء الخطاب، وعرض الأفكار والمواقف والحجج، إلا أن واقع المقال ومآله، في زعمنا، لم يكن مخلصا لتلك الادعاءات. وله علينا الحجة، ولنا عليه سعة الصدر، وللقارئ فصل الخطاب، مادام الخطاب، في عُرف البلاغيين، بمثابة "حَلَبة لمناقشة الأفكار، وتدافع المواقف، وصراع وجهات النظر" .( J.G.Tamine :La Rhétorique ,p13 ). لقد انخرط الأستاذ العسبي، وهو يخوض في البرتوكول المخزني ويبحث له عن أسس علمية وتاريخية وثقافية لتسويغه، في معارك مصطنعة، تارة بشكل مباشر وصريح، مع من رفضوا ذلك البرتوكول واستهجنوه، من موقع محافظ وتقليدي، خيبوا أفق انتظاره؛ وتارة ثانية، بشكل مضمر وماكر، من مواقف أخرى تنتمي، هذه المرة، إلى الصف الحداثي، أحرجوا منطق توسيغاته للبروتوكول، وتارة أخيرة، معركة صمت مُريب من مواقف قيادات سياسية وحزبية جذور أكثرها من شجرة الاتحاد الاشتراكي: محمد اليازغي، وعلي بوعبيد، وعلال بلعربي وعبد الكريم بنعتيق، إضافة إلى اسماعيل العلوي من حزب التقدم والاشتراكية، وقد أجمعوا على استهجان هذا البرتوكول الذي "لم يعد يتماشى مع الدولة العصرية" المطلوبة. وتلك مفارقات فاقعة، بالنظر إلى موقعه ككاتب صحفي محترف في جريدة الاتحاد الاشتراكي، مؤتمن على صون مرجعيتها الحداثية، والدفاع عن خطها التحريري التقدمي، والإخلاص لمسارها السياسي والنضالي المرتبط بالحزب وتاريخه، من جهة، وبالنظر إلى وعيه، كما يدعي في مقاله، "المُؤطر مدنيا ومعرفيا بمرجعية فكرية منتصرة للحداثة ولمنطق نظام المدينة" من جهة أخرى. وما إن أتيحت للأستاذ العسبي فرصة إبراز هذا الوعي المدني، والبرهنة على انتصاره للحداثة، كما يدعي، حتى "ضيع اللبن"؛ واختار طريق التمويه والتبرير. فهو يعرف أن الأستاذ محمد الساسي لا يخفي انتماءه للمنطق الحداثي في أعلى مراقيه، وضمن هذا المنطق تدخل دعوته للملك، إبان اعتلائه للعرش، للقطع مع الطقوس المخزنية الحاطة من كرامة الإنسان المغربي، وبالتالي فلا مبرر أن يستحضر منطق الزاوية في مثل هذا السياق للتشويش على اختياراته الصريحة والجريئة حينها(1999)، ثم يدلس على القارئ ويغالطه، وكأنه من الضروري أن ينتسب الأستاذ الريسوني إلى صف الحداثة والحداثيين، ويحتكم إلى منطق المدنية ليكون له الحق في الخوض في البرتوكول المخزني، وإدانته والدعوة إلى إلغائه. وبنفس المنطق تناول موقف الأستاذ سي محمد بنسعيد أيت إيدر، لما رماه، إذ رمى، بالجهل بالثقافة السلوكية للمغاربة القائمة على قيمة الاحترام عبر تقبيل اليد، و"احترام الشريف واحترام أمير المؤمنين"، وبها برر غضبة الراحل الحسن الثاني منه، وفي وذلك مرة أخرى تدليس وتغليط لا يليق في حق وطني من حجم المقاوم سي محمد بنسعيد، وهو من طينة العلامة الوطني عمر المتوكل الساحلي، الذي لا يترد الأستاذ العسبي، كما قال، في تقبيل يده كلما التقاه، ولن نتردد وإياه في تقبيل يديهما، ورجليهما، إن اقتضى الحال، والانحناء لهما تقديرا وتوقيرا لما قدماه لهذا الوطن، في عفاف وإباء وثبات، ونحن، في كل ذلك، لا نريد منهما "جزاء ولا شكورا"، ولا هما ينتظران منا طاعة ولا ولاء... ولو أن الأستاذ العسبي، وهو اتحادي الانتماء، استحضر ما تعرض له الأستاذ محمد الساسي، وقد كان رفيقه وقتذاك في الحزب، عندما طالب بإلغاء تقبيل يد الملك والانحناء له- في فضاء "يُؤسطر" بالجيش والعبيد واللباس، والعبارات والرموز والألوان والأشكال، وغيرها- من ردود فعل قوية من "سدنة" المخزن؛ ولو أنه تحمل عبء استفسار الأستاذ سي بنسعيد أيت إيدر عما تعرض له من مساومات وتقريعات وتهديدات ظاهرة وباطنة، وليس تنبيها، كما يدعي ويزعم صاحبنا؛ ولو أنه، وهو يستشهد بالمعارضة الاتحادية في البرلمان الحالي، راجع ذاكرته القريبة لتذكر ما تعرض إليه النواب الاتحاديون، في زمن الراحل الحسن الثاني، لما رفضوا ارتداء "الزي الوطني في المناسبات الرسمية في إحدى جلسات افتتاح البرلمان، حيث تم إدخالهم من الباب الخلفي للبرلمان، ثم مورست عليهم الضغوط والمساومات" ( محمد العمري: منطق رجال المخزن، ص60-61)؛ لو فعل كل ذلك، لما استسلم إلى مثل تلك الخلاصات المتهافتة والمدخولة القائلة بأن هذه الطقوس مجرد "ماركة ثقافية مغربية" أو "أداة لماركوتينغ تواصلي رمزي، وعنوانا لثقافة أُمَّة"، ولما أدرك أن غضبة المرحوم الحسن الثاني، وهو يحرص على واجب احترام طقوس دار المخزن، وغضبة تابعيه إلى اليوم ممن يسوغون هذه الطقوس، ويجتهدون في الحرص عليها والتبرير لاستمرارها - لم تكن غضبة محكومة ب"منطق الثقافة الكلاسيكية للمغاربة"، كما تدعي؛ بل كانت بالدرجة الأولى والأخيرة، غضبة سياسية بامتياز، مادام لتقبيل اليد الملكية "في مغرب اليوم، وفي عصر التلفاز، وظيفة سياسية بالأساس، مهمته تمييزية، تُبرز للملأ مدى قرب هذه الشخصية أو تلك من السلطة".( العروي: المغرب والحسن الثاني، ص 234.). بهذه "القفزات العلماوية" يعاند الأستاذ العسبي منطق التاريخ، ويتنكر للراهن المتموج، وهو يصر على تلميع وجه المخزن ورجاله، فوجب تأمل المسار ومراجعته، واختيار الوجهة والثبات عليها. وكما يقول المثل المغربي: " لتلف إشد الارض أسي لحسن"... ففي الأرض سيجد مواقف الناس ودوافعهم، وليقارن بين حجج الساسي وبنسعيد واليازغي وغيرهم، وكل الرافضين لتلك الطقوس من العلماء والحقوقيين والسياسيين وأحرار هذا الوطن، وحجج المدافعين عنها والمبررين لها، وحجج المترددين منهم، وليفحص مواقعهم ودوافعهم وأرصدتهم النضالية وغير النضالية، وسيجد نفسه، بالضرورة، في موقع لا ينسجم وإباءه المغربي الأمازيغي الذي لا يقبل الذلة والمسكنة. لم يكن البروتوكول المخزني، بمختلف أشكال، طقسا شكليا بريئا ومحايدا، يعكس، كما يدعي العسبي، فقط ثقافة سلوكية مغربية أصيلة ينبغي الحافظ عليها والاعتزاز بها، ولكنه واقعة ثقافية تخفي مضامين رمزية وسياسية، وتعكس طريقة الحكم وطبيعته، وآليات ممارسة السلطة، مادامت السلطة نفسها "تسكن عوالم الشكل، ومن الشكل تستعير وجهها، وجوهرها، وصور وجودها في الشوارع والمباني"( سعيد بنكراد: مسالك المعنى، ص: 67). ومما عمق مفارقات خطاب الأستاذ العسبي، وزاد في تهافته الحجاجي، تلك الأمثلة التي أوردها لتعضيد وجهة نظره في شرعنة البرتوكول المخزني، وتبرير وجوده واستمراره، علما بأن المثال في منطق البلاغيين، آلية حجاجية من آليات الإقناع، وقد يكون توظيفه مطية للانزلاق والتدليس على المتلقي، ما لم يكن محصنا بآليات الممانعة الحجاجية، وهو ما سيتضح على امتداد ما يلي: 2- في تهافت الأمثلة، والحاجة إلى القطع مع سياسة السلحفاة في سياق تبرير الأستاذ العسبي للبرتوكول الملكي، وإمعانا في شرعنته، لم يجد سوى الاحتماء بأمثلة ظاهرها في صالح أطروحته، ولكن باطنها يأتي على بناء خطابه برمته، فيصيبه بالتهافت والاضطراب. ومن هذه الأمثلة التي استعان بها لتعضيد مواقفه، واستقوى بها على الرفضين لهذه الطقوس، نذكر: أ اليابان غير ... واليمن غير ... وحِكمة المِيجِي من المفارقات الفاقعة تلك التي أقام عليها الأستاذ العسبي استدلاله في الرد على من شكك في البرتوكول الملكي، ودعا إلى إلغائه، استنجاده بتجربة اليابان وبرتوكول امبراطورها. "فاليابان كياليمن...الله يرزق غير الصحة والسلامة"، كما يَتَنكَّت بذلك عامة المغاربة، وهم يطلبون الصحة والسلامة في الذهاب والأياب، ويسخرون من مثل تلك المفارقات التي تفقأ العين، وتثير السخرية. فدولة اليايان، كما قال بعظمة لسانه، "دولة حداثية أي دولة مؤسسات، يحكمها قانون ودستور"، فهل الأمر كذلك في المغرب حتى تتم المقارنة، على بياض، دون تحفظات تذكر؟ فإمبراطور اليابان ليس رئيسا للدولة، ولا جالسا على عرشها. إنه رمز سياسي يسود فيها ولا يحكمها، أي لا سطوة له على السلطة والمال؛ فقط يحتل موقعا رمزيا في هرم الدولة، يُراقب سيرها ومسيرها دون أن تكون له قدرة الحل والعقد فيها. وهذا حال ملك إسبانيا، وملكة بريطانيا. والأستاذ العسبي أعلم بهذه الحقائق، ولكن سكت عنها في مقاله، مكرا وتدليسا، ليستقيم تحليل في إعنات واضح للقارئ. ولو كان الأمر عندنا كما في اليابان؛ حيث تمارس السياسية في مجالها الحداثي، أي في المؤسسات المخصصة لذلك، من برلمان وحكومة وغيرها، لارتفع الخلاف تماما، ولكان البرتوكول الملكي بالفعل مجرد "ماركة ثقافية مغربية"، سنحرص عليه جميعا، ومن مختلف المواقع؟؟ لقد كان المغرب في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، يتوفر على نفس الشروط المؤهلة لما وصلت إليه اليابان اليوم من تنمية وتقدم وديمقراطية وتحديث، لكنه أضاع فرصة تاريخية كانت محققة. لكن ما إن توفرت هذه الفرصة من جديد، في عهد الملك الشاب محمد السادس، حتى بدأت بوادر مقلقة تتربص بها. فقد كان أمل المغاربة الأحرار جميعا ( الجابري: مواقف، العدد 22، 2003، ص19) أن "يكون هذا الملك الشاب هو "ميجي" مغرب الغد". وهذا دوره التاريخي. وما بقي خارج "الميجي" فهو لن يدخل التاريخ، علما بأن الميجي هو الذي قام بالإصلاحات الجوهرية في اليابان في الستينيات من القرن التاسع عشر، وبذلك قفزت اليابان إلى ما هي عليه اليوم"؛ فيما ظل المغرب يتردد بين أصالة تشد إلى الوراء، ومعاصرة زائفة وماسخة توهم بالتحديث، بدعوى التوسط والخصوصية التي سوغ بها الأستاذ العسبي البرتوكول المخزني على امتداد مقاله، فضَيّع علينا وعليه، وعلى المغاربة قاطبة، حِكمة الميجي، كما يقول الأستاذ العروي "السير في طريق "ما ليس منه بد"، حسب عبارة امبراطور اليابان" نفسه. ( مفهوم العقل، ص363). ب "سيدي" و"لالة" والعودة إلى منطق العبودية بعد ما انتهى الأستاذ العسبي من استعراض تجربة اليابان وبرتوكول الامبراطور، ومقارنتها بتجربة المغرب والبرتوكول الملكي، وبعدما وصل إلى الباب المسدود، وقد قَلّت الشواهد لديه، وتهافتت حججه المبررة للبرتوكول، وبعدما اشتد شقاء وعيه بين واقع يدافع عنه ويسعى للتطبيع معه، وبين قناعته "المدنية المنتصرة للحداثة"، انتقل إلى معالجة ثنائية مغربية هذه المرة، وبوعي شقي، هي ثنائية: "سيدي" و"لالة"، علها تسند تبريره للبروتكول المخزني، وتسوغه له، مع أنها أمثلة تزيد في توريط قدميه في طين المخزن". لقد تحمل الأستاذ العسبي في هذا المقام، ومن موقع الاعتداد بالثقافة المغربية وخصوصيتها أمام أصدقائه المغاربيين، مسؤولية شرح السر الكامن وراء ثنائية: "سيدي" و"لالة"، وبالأخص لزميله الجزائري، الذي يحب في ثقافتنا المغربية عبارة "لالة" لأن فيها تقدير للأنثى، فيما يَمُجُّ فيها عبارة "سيدي" الخاصة بالرجال"، وتلك سخرية مُرة تنم عن الاستخفاف بعقول المغاربة والمغربيات، وتزييف مشين لتاريخهم الثقافي، وتغييب واضح لراهنهم القائم. إن ثنائية: "سيدي" أي السيد و"لالة" هي امتداد معلوم لثنائية ما يعرف بالسيد والعبد في ثقافتنا المغربية، وبالتالي تذكير وتكريس لثقافة التمييز "الطبقي" في المجتمعات القديمة. "فسيدي" صفة لصيقة بسيد القوم أو القبيلة أو الزاوية أو النسب. ولا يلقب به إلا من له وجاهة اجتماعية معينة، إما من جهة الأصل الإثني كما الشرف، أو جهة القوة الاقتصادية النافذة؛ ودونه العامة من الناس، وفي مقدمتهم العبيد، ورديفهم "الحراطين"، حيث يتولى هؤلاء بالترتيب خدمة الأسياد/ سيدي ولالة، في السُخْرة والمنزل، وفي الحقول، ومختلف الأعمال الشاقة... فهو السيد /الشريف، أو مولاي، وهي لالة الشريفة من السلالة النبوية، يأمر فيطاع، وتأمر فتطاع، وتقبل أيديهما في كل لقاء ومناسبة. فالشرفاء بالأساس أسياد لغيرهم، ومعهم علماء الدين، وشيوخ الزوايا، يشكلون هيئات متميزة، يعيشون من كد وعناء العبيد والحراطين وعوام الناس، ولذلك فهم "لا يباشرون الإنتاج. هل من شريف فلاح، أو عالم صانع، إلا مضطرا أو زاهدا؟" (العروي: من ديوان السياسة، ص:37)؛ ومع ذلك لهم وفرة الممتلكات، المادية والرمزية، ولهم اليوم مزيدا من الإكراميات والهبات والمأذونيات.. (العمري: "الريع سرقة أم أرزاق؟") تلك مفارقة الرزق في المغرب، أو الريع، لا يمكن فهمها إلا في ظل ثنائية: سيدي ولالة، المانعة لكل مساواة ومناصفة وتحديث، بل ثنائية عنصرية لا تساعد على ولوج التاريخ الحديث. وغير بعيد عن هذه الثنائية التي استعان بها الأستاذ العسبي، للتطبيع مع البروتكول المخزني استعان أيضا بثنائية أخرى، هي ثنائية الشيخ والمريد التي فكك خطاطتها الثقافية والسياسية الأستاذ عبد الله حمودي بكفاءة نادرة في كتابه المرجعي في هذا الصدد: الشيخ والمريد. وهي ثنائية صوفية، نمت في إيران وتركيا والمغرب، كما زعم صاحبنا، ويحكمها منطق الزاوية التي نشأ فيها الأستاذ الريسوني، وتمثل منطقها، ومع ذلك نسي المريد درس شيخه، وتمرد عليه، وحاول صاحبنا أن يذكره بدرسه، ويعيده إلى منطق الزاوية وآلياتها. ج في علاقة الشيخ والمريد بالبرتوكول المخزني لم يكن التصوف، منذ نشأته الأولى، بعيدا عن الخطاب السياسي وآليات اشتغاله، وإن كان يشتغل على الأرواح على حساب الأبدان، مع أن من يملك هذه يملك تلك. وهذا يقتضي تطهير النفس من اللذات والشهوات، وهو ما يتولاه الشيخ باعتباره معلما ومرشدا، بل وقائدا تجب طاعته بالمطلق، طلبا لرضاه والتماسا لبركته. ذلك ما "يؤكده ابن عربي في عدد من مؤلفاته. فهو يؤكد أن من الشروط الأساسية في الدخول في الحياة الصوفية طاعة الشيخ وامتثال أمره. فالشيخ يقوم مقام الله في توجيه المريد، فعليه إذن امتثال أمره والتحبب إليه والتزام الأدب معه. وعلى المريد أن يمتثل أوامر الشيخ حرفيا دون تأويلات ولا إجابات ولا مناقضات ولا اعتذارات حتى لو كان أمره غير معقول، بل حتى لو كان يأمر بالمعصية".(الجابري، ع.ع.أ، ص:452.). فالمريد في هذه الحال قرين للعبد، والشيخ شبيه بالسيد. فهذا الأخير يأمر ويطاع، على وجه السرعة والإلزام والاستعلاء، أما الأول أي المريد، فينفد دون تردد أو تلكأ أوامر شيخه/ سيده؛ بل من مهامه خدمة الشيخ خدمة العبد لسيده، "يطبخ أكله، ويغسل ملابسه، يصفف شعره، ويحلق لحيته، ويقص أظافره، وينظف مقره. فهو خادم الشيخ الأمين والمتفاني في الخدمة والإذلال؛ وحتى إذا الشيخ أن يدخل عليه استأذن ودخل "فقبل اليد ووقف في خشوع أمامه خفيض الرأس. وإذا أمره الشيخ بالجلوس جلس خارج الحصيرة التي يجلس عليها، وفي موقف العبد المتأهب في كل لحطة للنهوض إذا أمره بذلك سيده". (الجابري ص:454). فهل بمثل هذه الثقافة والقيم التي تحكم ثنائية الشيخ بالمريد، والسيد ولالة يمكن ولوج عالم الحداثة والديمقراطية، وتقوية المؤسسات التنفيذية للدولة، وعلى رأسها مؤسسة رئيس الحكومة، كما طالب بذلك الأستاذ العسبي؟ أليس من الواجب في راهننا المتموج والمتغير أن نحث المريد على نسيان دروس شيخه والقطع معها، عوض ممارسة سياسة السلحفاة، "كلما استشعر الخطر تقوقع ليستمسك ويصمد".( العروي: السنة والإصلاح، ص169)؟؟. على سبيل الختم: ومحصلة القول، فالذين يرفضون الطقوس المخزنية، ويستنكرون ذلك البرتوكول المخزني الباذخ، ويدعون إلى إلغائه، أو التخفيف منه، لا يقللون البتة من احترام الملك وتوقيره، إنما غايتهم بناء الدولة المدنية الحديثة، وقامات المغاربة مرفوعة، وهاماتهم منتصبة، بصرف النظر عن المواقع والمرجعيات والخلفيات، فتلك أمور مقدور على مواجهتها والخوض فيها بالآليات المطلوبة. فالحاجة إلى وضوح المواقف، والقطع مع الثنائيات المذكورة، من أجل ممارسة السياسة في مجالاتها الطبيعية، وبالتالي تحريرها مما ليس منها، أمر حاسم ومستعجل، ليبقى الملك، في البدء والمنتهى، كما يقول الأستاذ العروي: "مواطن يتكلم، ينصح، يعمل، يستثمر فيربح أو يخسر كباقي المواطنين. يفعل ذلك عبر وكلاء ومساعدين، في واضحة النهار، محاطا بكل احترام وتوقير. هل في هذا التطور مس بالهيبة اللازمة؟ من يطرح السؤال يتكلم بمنطق قديم. في المسار الديمقراطي تتحول الهيبة إلى محبة"( الديوان، ص146)، ذلك أن أسئلة الماضي غير أجوبة الراهن./. *باحث في البلاغة وتحليل الخطاب [email protected]