في خضم الأحداث التي ازدان بها ربيعنا السياسي، و التي أحيت في قلوبنا آمالا كان التشاؤم قد دفنها في شقوق عميقة من أفئدتنا، تململت طوائف عديدة من المجتمع المغربي، و مضت ترفع أصواتها لتطرد بها أشباح الخوف من المجهول، و تنادي أطياف أحلام تلاشت في عواصف الفساد و التخلف العاتية. تحرك أبناء المغرب، و في مقدمتهم شباب نضر، يعكس بريق عيونهم صور مستقبل لا مكان فيه للظلم السياسي و الاجتماعي. مستقبل تسخر فيه مارد هذا البلد الكريم لتنمية أحوال شعبه جميعا، لا لتضخيم أرصدة فئات معدودة، و تأمن أموالنا النهب و الاختلاس جهرا و سرا. مستقبل تكون المراطنة فيه واقعا، و القانون قيمة حقيقية، و السلطة خدمة، و العمل شرفا، و الأمانة مصونة و مكافأة، و الخيانة ذليلة و معاقبة. قد يبدو هذا كلاما رومانسيا، بل هو كذلك بكل تأكيد. لكن هذا هو ما كنت أقرأه في عيون الناس، و أسمعه من أفواههم، و صرت أفهمه من حالهم، عندما صارت شوارعنا تهتز تحت أقدام المتظاهرين كل أسبوع، و ترقص مع هتافاتهم واجهات المحلات و زجاج النوافذ. إن الحركية التي اشتعل فتيلها مع بداية الأحداث في تونس، و انطلقت مسيرتها في 20 فبراير، قد اتجهت منذ بدايتها نحو أهداف موضوعية جوهرية تمس حقيقة الأحوال اليومية المتدهورة. لقد نادى الناس فيها بقيم جديدة يريدونها أن تحل محل العفونة و الفساد و الكذب و هدر المقدرات. نادوا بالمحاربة الفعلية و الحقيقية للفساد، بوقف استغلال الموارد العمومية، بجودة التدبير المحلي في مجالات السكن و الصحة و الخدمات الاجتماعية، نادوا بالمساواة في فرص الشغل؛ مستثمرون طالبوا بوقف الالتواءات البيروقراطية و الرشوة، متقاضون ساخطون نادوا بإصلاح القضاء و معاقبة الفاسدين، معطلون أصحاب شواهد رفيعة نادوا بتدبير فرص العمل، نساء ذقن كل أنواع المرارة ينادين بتقريب المصالح الصحية و إنجاز الطرق لتمكينهن من الولادة في ظروف مناسبة للحفاظ على أرواحهن و أرواح أولادهن، و قس على ذلك... صحيح أن هذه المطالب قد اختلط فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي، فصرت تقرأ في اللافتات المرفوعة شعارات متنوعة تنتقل من إصلاح السياسات العمومية إلى إصلاح القضاء، إلى مطالبات قطاعية، إلى المناداة بسقوط بعض وجوه العمل العمومي، أو رؤساء جماعات أو وزراء أو زعماء أحزاب، مرورا بنداءات سكان الدواوير و العشوائيات الذين يريدون الاستفادة من برامج الإسكان و الربط بشبكات الماء و الكهرباء و التطهير الصحي، و حتى بعض فئات الموظفين أو ذوي المهن الحرة. لقد كنت في بعض الأحيان أحار حتى في تحديد الخصوم، فقد تجد في نفس التجمع الطالب و المطلوب يحتجان معا! و قد أخطأ بعض المحللين نتيجة لذلك عندما اعتبروا أن هذا التحرك تحرك "عشوائي" و مضطرب و يعوزه انتظام مطالبه و تناسقها. أخطأوا لأنهم في الواقع إنما عجزوا عن تبين المطلوب أو الخصم، فسعوا إلى تسفيه الطالب. كانت هذه أولى محطات رد فعل التحليلات المؤسساتية. لقد كان رد فعل تقييميا، كعادتنا دوما كلما واجهتنا الصعاب. أراد أصحابه إطلاق الأحكام على الحركة و المحركين، فكان أولا سؤال الهوية: ما هذا و من هؤلاء؟ فلما تأكد الطابع المستقل لمنسقي التحرك، لحسن الحظ، أطلقت عليهم تسمية "حركة 20 فبراير". و قد جمعت هذه التسمية بين الدلالة على الحركية، و مضمونها المطلبي، و الأشخاص المتحركين، في عبارة واحدة، فكانت بذلك تسمية مختزِلة. ثم تطورت الوظيفة الاختزالية لهذه التسمية عندما أصبحت "حركة 20 فبراير" تدل من حيث الأشخاص على مجموعة "منسقي" الحركة. فخرجت بذلك طوائف الشعب التي غذت الحراك منذ ولادته. ثم ازدادت نتيجة لذلك درجة الاختزال إلى أن صار المضمون المطلبي لهذا الحراك إنما يقاس إلى تصريحات المنسقين و ليس إلى الحاجيات الحقيقية التي تحرك المسيرات. لقد كان هذا الحراك الشعبي الاستثنائي المليء بالطموح ضحية عملية تشكيل و قولبة، حملتها رمزية التسمية، و زكتها و أذكت نارها مواقف الأحزاب و مؤسسات المجتمع المدني و مؤسسات الدولة. و إذا لم يكن موقف هذه الأخيرة مستغربا، فإن الأولى قد أخطأت السبيل عندما تمادت في لعبة التعريف و التصنيف. لقد خدمت غاية تقزيم أهم حدث يعرفه بلدنا على مر عقود، و ذلك بدافع من هواجسها الدفينة المتراوحة بين العصبية الحزبية و النرجسية النضالية، و بين تكتيكات التقرب من الدولة و الالتزام بالشفافية التي صارت تعني انعدام كل لون أو موقف. و هذا ما يمكننا أن نستخلصه بالتأمل في اتجاهات النقاش الذي دار داخل العديد من التنظيمات حول سؤال "هل نحن مع أو ضد؟" و "هل نشارك أم لا؟". لم تكن تسمية "حركة 20 فبراير" تسمية بريئة. صحيح أنها جنبت التحرك الشعبي النسبة إلى أي من الاتجاهات السياسية المؤسساتية و غير المؤسساتية الموجودة، لكنها في المقابل جردته من كل مضمون، فجعلته "شفافا" عديم اللون و الطعم؛ و كأنما هو مجرد وعاء يسع كل ما يوضع فيه و لا يعيه. و الواقع أن تسمية كهذه كانت وحدها كفيلة بأن تمنح لمن أطلقوها تفسيرا مريحا لذلك التناقض الظاهر و التنافر الذي طبع الشعارات و المطالب. فأصبحت الحركة إذن منسوبة إلى لحظة زمنية و مفرغة المضمون. و هما أمران سهلا و بررا ما ستعرفه الساحة السياسية فيا بعد. كان موقف الغالبية العظمى من التنظيمات المدنية من الحركة عاديا و مفهوما في الواقع. رفضت في موقف عام الانتماء لهذا الحراك، كما رفضت تبنيه. لقد تعاملت معه بمنطق التنافس كما لو كان تنظيما قائم الذات و ليس حراكا شعبيا عاما. و لذلك كان السؤال الرائج في مرحلة ثانية، بعد مرحلة التعريف، هو سؤال هل نوافقه أم نخالفه (و في بعض التصريحات "أم نحاربه"). و هذا كما قلت مفهوم لأنه ينسجم مع سؤال الهوية. لقد ربط الحراك الشعبي بتاريخ 20 فبراير على غرار ما تم من ربط حركات تونس و مصر و غيرهما بتواريخ انطلاقها. و هذا القياس يشير إلى أن ما حدث في المغرب قد تم فهمه على ضوء الأحداث العربية الأخرى، ليصير بذلك مجرد انفعال أو رد فعل على هذه الأخيرة. و قد غلبت هذه النظرة بقية وجهات النظر التي قد ترى في الحراك المغربي تطورا محليا لحالات المعاناة و الانزعاج الاجتماعيين، من الصورة المشتتة التي يعرفها المجتمع المغربي منذ عهود و قبل الثورات العربية، إلى صورة مجسدة ظاهرة و شبه منظمة. و نتيجة لذلك، فما دام الأمر يتعلق بانعكاس لأحداث بلدان أخرى في مرآة المجتمع المغربي، فإن هوية الحراك المغربي و طبيعة خطابه و مطالبه قد صارت جميعها تؤول و تفهم على ضوء ما انتهى إليه أمر الحركات العربية الأخرى. حركة 20 فبراير إذن مولود جديد ولد من رحم كغربية نتيجة لتخصيب اصطناعي بماء أب عربي (مصري أو تونسي)، فكيف يتلقاه المجتمع المغربي المحافظ بالاحتضان؟ أو فلنقل بعبارات السياسة، إنه نقل لتجربة غريبة إلى بلدنا سهلته ظروف الفقر و المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و ليس تطورا داخليا للاضطراب الذي تغذيه الأحوال المتردية اجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا، سهلته الظروف الإقليمية و العربية. لقد تم التعامل معها بنفس منطق التعامل مع الإرهاب: هل هو تقليد لتجارب غريبة عنا يسرته أحوال الفقر و الظلم الاجتماعي، أم هو وليد مغربي خالص طورته نماذج الإرهاب الخارجي؟ أيا يكن الأمر، فقد عزلت الأحزاب نفسها عن الحراك المنطلق يوم 20 فبراير عندما نظرت إليه باعتباره منافسا سياسيا، فسعت في تأويل هويته و تحريف خطابه، بدل أن تعتبره أنين الشعب المنهك الذي تزعم أنها تمثله و ترفع صوته. لقد بدت بمظهر مشبع بالتعصب و النرجسية، عاجزة عن الانضمام لأصوات الشعب الذي يفترض أنها تنتمي إليه، و كأنها تحتكر الحديث باسمه، و تنكر عليه أن يتكلم بشكل مباشر. و قد انتبه الناس إلى ذلك من دون عناء، فبدأ الحديث عن شيخوخة الأحزاب و تكاسلها و عجزها، إلى غير ذلك. و هو ما جعلها تنتفض محاولة استعادة زمام الأمور. غير أنها لم تسع إلى ذلك عبر التصالح مع الحراك الشعبي و الاستماع الجاد إلى صوته و النقل الأمين المخلص لمطالبه. بل عملت على تجاوزه و الحلول محله و استغلاله. و هنا ارتكبت جريرتها الثانية. لن ينكر أحد أن الخطاب أو الخطابات التي صدرت عن الحراك المغربي كانت و لا زالت بحاجة إلى مزيد من المعالجة و الفهم. و لعل أحدا لن ينازع في أنه كان بحاجة إلى مزيد من الوقت ليتبلور بشكل تدريجي و ترتسم خطوطه الرئيسية على نحو أوضح و أقرب إلى الإدراك و الفهم. غير أن عجلة الفاعلين الاجتماعيين و السياسيين قد أدت إلى اغتصاب هذه السيرورة الطبيعية، من خلال تأويل الخطاب غير المكتمل الصورة و عرضه في قالب خطاب الثورتين التونسية و المصرية، على الخصوص من حيث توجههما ضد النظام السياسي القائم. إن فشل الأحزاب (و المجتمع المدني عموما) في تبين المضمون الحقيقي للحراك الاجتماعي المغربي و عجزها عن تجسيد خصمه بشكل واضح و نهائي قد جعلها تعود إلى خصمها التقليدي و هو النظام السياسي و توزيع السلطات بين الملك و بقية المؤسسات. لقد أعادت الأحزاب صياغة الأحداث و تركيبها على نحو لم يكن يعكس حقيقة هذه الأحداث بقدر ما عكس هواجس الأحزاب نفسها و تصوراتها عن المعارك السياسية التي ترجو خوضها، فدقت بذلك مسمارا آخر في نعش الحراك الشعبي و قربته أكثر من نهايته. أما من جانب الدولة، فإنها أمام قوة الأحداث، شرعت تبحث عن الصمام الذي يمكنها من تخفيف الضغط الذي تتعرض له. فلا شك أنها قد أدركت الحجم الحقيقي لمطالب الشعب الغاضب، و عرفت أنه إذا لم يشخص خصمه فلأن كل شخص يمكنه أن يكون خصما. ذلك أن المطلوب هو كل من يعرقل حسن التدبير و النمو و سلامة عمل المؤسسات. و في ظل عدم الوضوح هذا، فإن التحكم في الأحداث و تدبيرها لن يكونا أمرا هينا. و من تم فقد خلصت إلى أن طوق النجاة يتمثل في إعادة توجيه الحركة إلى فضاء نزاع واضح الأطراف و المفردات تحرف إليه المطالب و تقولب فيه المواقف؛ و حبذا لو كان فضاء تعرفه الدولة كل المعرفة و تمتاز أطرها في ضبط مداخله و مخارجه. غير أن إنجازا كهذا لم يكن لينجح لولا مساعدة قنوات مدنية تتولى نقل اهتمام الناس إلى هذا الفضاء بمختلف الوسائل الممكنة. و هنا، في هذه المرحلة، جاء دور الأحزاب. لقد تواطأت بشكل أو بآخر مع الدولة على نقل مفردات الاحتجاجات إلى صراع مع الملك حول توزيع السلطات في صيغة إصلاح دستوري. أقول إنه تواطؤ اجتمع فيه كل التنظيمات الحزبية و غير الحزبية إضافة إلى الدولة، و لعب فيه كل دوره بإتقان لا نظير له، لخدمة هدف واحد هو إفشال الحراك الشعبي و تبرير استمرار الأوضاع المتردية القائمة في مقابل تقدير جديد لنسب المنافع و المصالح. لعل الجميع يذكرون كيف كان خطاب الأحزاب في بداية حراك 20 فبراير، و كيف تطور في اتجاه التسفيه و التعييب. لقد تراوح موقف الأحزاب عموما بين السلبية و المخاصمة، مع التأكيد العام على اختلاف السياق المغربي عن نظيره في تونس و مصر. و بهذا الشكل ربط خطاب الحركة نهائيا بالنموذج التونسي من حيث تعبيره عن صراع بين قوى الشعب و النظام السياسي القائم. فقامت جل الأحزاب تؤكد تمسكها بالنظام الملكي و وقوفها وراء عاهل البلاد و كأن شيئا ما قد راح يهدده؛ و الحال أن أحدا لم يكن قد سمع حينها بشيء من ذلك أبدا. لكنها كانت بداية التآمر.. عملية تسفيه خطاب 20 فبراير مرت إذن عبر تحريفه الماكر من خلال ربطه بخطابات الثورات العربية الأخرى التي ناهضت بصراحة الأنظمة السياسية القائمة. و قد ارتبطت بذلك تطورات ثلاث على مسرح الأحداث: فمن جهة أولى، انتفضت بعض التنظيمات السياسية الراديكالية المناوئة للنظام و انضمت إلى الحركية الشبابية التي لم يكن لها أي انتماء سياسي محدد. و من جهة ثانية، حلت الأحزاب التقليدية محل الحركة في مجادلة الدولة التي رحبت بذلك طبعا، و ارتدت عباءة بلونين متناقضين، في الظاهر لون المعارضة للمنظومة السياسية القائمة التي تؤسس عليها مطالبتها بالإصلاح، و في الباطن لون المدافع و المساند للمؤسسة الملكية ضد أشباح حراك شعبي وهمي. و من جهة ثالثة، تحول الجدل العام من موضوع الإصلاح الاجتماعي و محاربة الفساد و التنمية إلى موضوع الإصلاحات الدستورية و تقاسم السلطات بين الملك و المؤسسات الدستورية. و هكذا تم وأد أول حراك مجتمعي يحظى به المغرب منذ عقود عديدة في المهد. فالتنظيمات التي ادعت مساندته اخترقته من الداخل و خربت مضمونه الأصيل و استغلته لتصدع بمطالبها الباهتة و مواقفها التي ما عاد أحد يوليها أدنى اهتمام، بل و أحدثت داخل الحركة من الفوضى و الانقسام ما أصابها بعجز لن تقوم منه في المدى المنظور. و بقية الأحزاب من يمينيين و يساريين و إسلاميين ركبوا الموجة التي أحدثتها الحركة، بعدما كانوا و لا زالوا أبرز من شكك في مشروعيتها و جديتها، و انزلقوا بفضلها إلى موقع المخاطب الرئيسي للدولة، و صاروا بفضل إعلامهم و إعلامها أبرز من يتحدث في الإصلاح و سبل التحول. أما الدولة فقد رحبت بكل ذلك و أبانت عن رحابة صدر غير معهودة تجاه الحركة المختنقة و الأحزاب المنافقة، و اندمجت في ورش الإصلاح الذي نجحت أخيرا في ترتيبه وفق مفرداتها و تصوراتها و بعيدا عن صرخة الوجع التي أطلقها المجتمع المغربي في 20 فبراير. لقد تواطأ جميع الفاعلين السياسيين على مباركة الوضع القائم و شرعنته، و تبعهم المثقفون و الباحثون، عن وعي أو عن غير وعي، لكنهم في النهاية خانوا قضية الأمة، و خذلوا الأجيال القادمة، و كل ذلك في مقابل منافع بائسة. فالراديكاليون الذين اخترقوا 20 فبراير وجدوا فيها فرصة لإسماع أصواتهم المبحوحة، و الأحزاب وجدت فيها فرصة أخيرة لكي تربح في 2011 معركة بدأتها مع النظام في بدايات الاستقلال، و الدولة تمكنت من تفادي عنف الموجة الشعبية على الأقل مؤقتا، و المتتبعون الباحثون وجدوا في ورش الإصلاحات الدستورية مناسبة لإبداء سعة علمهم. لكن الجميع خسر في هذه المناورة فرصة إطلاق مسلسل الإقلاع.