في خضم الانتشاء بحلول الشهر الفضيل، وفي سياق تبادل التهاني مع الخلان والأقارب والإخوان، وفي لحظة الخشوع الإيماني النابع من استحضار جلال وجمال هذا الظرف من الزمان، وما خص الخالق به شهر رمضان عن باقي المواسم والأزمان؛ استحضرت حالة فئة من بني الإنسان، تجمع بيني وبينهم سفينة الوطن لكن تفرقنا آصرة العقيدة والإيمان بالرحمن .. إنهم أولئك الذين يقال لهم {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} فيقولون {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] إنهم أولئك الذين دعوا دعوة علنية للإفطار في رمضان أولئك الذين استباحوا الزنا وجعلوه من حقوق الإنسان أولئك الذين دعوا أهل بلدنا إلى التطبيع مع اللواط والسحاق وغيرها من الأدران .. قلت: ما المانع من أن يلتحقوا بركب أهل الإيمان، ويبادروا الموت بتوبة في شهر الغفران؟ لماذا يحرمون أنفسهم من بركات شهر رمضان؟ قال لي صاحبي معاتبا: هؤلاء ميئوس منهم، ولمثلهم أعدت النيران، وفي وجوه أمثالهم أغلقت أبواب الغفران .. إنهم يكفرون بالرحمن، ويكرهون الدين ويسخرون من أهل الإيمان .. فقلت: مهلا؛ لا تتأل على الله؛ فإنما الميئوس منه إبليس الشيطان. أقول لكم: يا من تجرأتم على الله وعلى دينه بغير حق، يا من جرحتم مشاعر شعب محترم، يا من آذيتموه ونغصتم فرحة استقباله لشهر فضيل يحبه الواحد منهم كما يحب نفسه وأبناءه؛ يا من تزرعون فتيل الفتنة في بلد آمن مطمئن: أعلم تمام العلم أن أبغض الخطاب إليكم؛ خطاب الوعظ وتزكية النفوس .. وأعلم تمام العلم أن هذا الخطاب يصنف عندكم في خانة أفيون الشعوب ومنطق الدراويش وعقلية الخفافيش! لكنكم مخطئون .. وإن لم تقروا بخطئكم؛ فلا أقل من أن تحترموا قاعدة المنطق التي تقول: "قناعتي صواب تحتمل الخطأ وقناعتك خطأ تحتمل الصواب"1. قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52] واسمحوا لي أن أشخص الأسباب التي تمنعكم من الالتحاق بركب المغتبطين بقدوم شهر رمضان، والتي ترجع في نظري إلى عاملين جوهريين: العامل الأول: ذاتي، والثاني: موضوعي. أما العامل الذاتي فهو اختياركم لمذهب الإلحاد والفكر العلماني المتطرف، ورضاكم به مؤطرا لأفكاركم وسلوككم. ولا أحب في هذا المقام أن أخاطبكم بمنطق الإقناع الجدلي، ولكنني أبقى في حدود استثارة ما يكمن في أعماق نفوسكم من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولن أجد في سبيل ذلك أفضل من هذه الآيات القرآنية المقنعة لكل متعقل منصف: قال الله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [إبراهيم: 10] وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 6 - 12] وقال عز من قائل: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 1 - 5] وقال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 3 - 13] وأما العامل الموضوعي لموقفكم من الإيمان والدين والأخلاق؛ فهو انخراطكم في سجل المناصرين لثقافة حقوق الإنسان وفق مبادئ المدرسة الفلسفية المادية الإلحادية التي نظّر لها أعمدة الإلحاد والإباحية في تاريخ البشرية (ديموقريطس، هوبز، شوبنهور، ماركس، فرويد، نيتشه،.. إلخ.) وهذه المبادئ تتبناها الأممالمتحدة وتناصرها ماديا وإعلاميا وسياسيا، والبعض يسعى لفرضها من خلال عولمة ثقافية إمبريالية يشكل بعضكم أحد قنواتها .. وهنا أيضا اسمحوا لي أن أقول: أنتم تنفون المطلق، فكيف تسعون في إلزام المجتمع بتبني تلك الثقافة تبنيا مطلقا يهيمن على كل قوانينه وأعرافه وخصوصياته التاريخية والشرعية؟! تريدون أن لا يبقى في القانون فصل واحد قائم على الخصوصية، وتودون لو أن كل العادات والأعراف تخلصت من سلطان الدين وأوامره ونواهيه! ولولا أن المواثيق الدولية تكفل حق العبادة لسعى غلاتكم لتخريب المساجد والزج بالمصلين والمحجبات في السجون، كما يفعل سياسييكم حين يسيطرون على الحكم (بورقيبة وبن علي نموذجا) أليست هذه هي الديكتاتورية التي تدعون رفضها والنضال ضدها؟ أليس هذا من الإيمان بالمطلق الذي تنكرونه على أهل الدين والإيمان؟ وهنا نتساءل: ما السر في هذا الانخراط المطلق واللامشروط في السعي لفرض التصور (الستيوارتي)2 لمبدأ الحرية والذي يعتبر الإباحية الجنسية من حقوق الإنسان؟! ألا يخول هذا لأهل الإسلام أن يتحدثوا عن شيء اسمه: "العمالة" و"المشاركة في المؤامرة" والانخراط في خدمة "أجندات" وقناعات تهدد أمننا الروحي والقومي واستقرارنا النفسي والمجتمعي؟ وليت شعري كيف يقبل العاقل أن يرفع إلى درجة المطلق؛ قناعات من ساموا –ويسومون- الشعوب الضعيفة سوء العذاب، وكرسوا سلوك الاحتلال والإمبريالية، ودعموا وزكوا أنظمة الديكتاتورية والاستبداد؟؟ من ظلموا شعوبا من أجل دولة عنصرية مغتصبة؟ وهاهم اليوم يتبادلون الأدوار بشأن سوريا، ويعرضون فصول مسرحية بطلها "الفيتو" الروسي والصيني! هاهم اليوم يسكتون عن مأساة مسلمي "بورما"، ولن يتحركوا إلا بسبب التحرج من الفضيحة الإعلامية كما حصل منهم ذلك في البوسنة والهرسك والفلبين وغيرهما .. أليس من المستنكر المرفوض عقلا ومنطقا؛ أن تدعموا هذا التوجه بدعم عولمة مبادئه والانتصار لشوملة ثقافته، دون تحفظ على أي من مبادئه ولا رد لأي من أصوله وقناعاته؟؟! إن العاقل المنصف الحر لا يمكن أن يقبل بأن يجعل من نفسه أداة صماء لخدمة مبادئ قوم يظلمون كما يأكلون، وينافقون كما يشربون! وغاية ما يقبل به العقل السليم والمنطق القويم؛ أن يتعامل مع مبادئهم ورؤيتهم ل"حقوق الإنسان" بالنسبية؛ فيأخذ المفيد المشترك ويرد الفاسد المرفوض في بيئته وعند جماهير قومه، وهذه هي الديمقراطية التي تتغنون بها (احترام إرادة الأكثرية)، وليس من العدل ولا من الديمقراطية تجاوز إرادة3 الأكثرية لصالح العولمة الاستبدادية .. وهنا أمسك مرة أخرى بلجام خطاب "المنطق والعقلانية"، وأرجع إلى خطاب "الوعظ والرقاق" الذي أضيف إليه هذه الآيات البليغات في زجر المتآمرين ضد دينهم ومبادئ أمتهم: قال الله تعالى محذرا المسلم من الانسياق وراء الكافر وخدمة مبادئه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 12، 13] وقال عز من قائل: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 165 - 167] هذه موعظة ربكم ونداء قرآنكم {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 172 - 174] ***** 1 هذه العبارة قالها الإمام الشافعي رحمه الله في الرأي، ثم صارت قاعدة في الجدال والمناظرة. 2 نسبة إلى (جون ستيوارت مل) صاحب نظرية: "حريتك تقف عند التعدي على حرية الآخرين" 3 المراد بالإرادة هنا؛ عدم قبول المجاهرة بالإلحاد والمس بأحكام الدين الإسلامي.