"التوحيد والإصلاح" تطالب بمنهجية تشاركية في إعداد مدونة الأسرة    38 قتيلا ونجاة 28 آخرين في حادث تحطم طائرة أذربيجانية بكازاخستان    هزيمة جديدة للمغرب التطواني أمام الجيش الملكي تعمق من جراح التطوانيين    إدارة الأمن تسلح عناصرها بالأمن الجهوي بالحسيمة بجهاز متطور لشل الحركة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    وكالة المياه والغابات تعزز إجراءات محاربة الاتجار غير المشروع في طائر الحسون    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    قيوح يعطي انطلاقة المركز "كازا هب"    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    ترامب عازم على تطبيق الإعدام ضد المغتصبين    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    مهرجان جازا بلانكا يعود من جديد إلى الدار البيضاء    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤمن بين عدو مجاهر وبطانة منافقة مندسة

العقل هبة الله تعالى للإنسان، به تميز عن غيره من الكائنات في الأرض، وبه عرف ما سُخر له من الكون، وبه ضبط قواعد الخطأ والصواب أقوالا وأفعالا وتصرفات، ومقاييس العلوم لغة ومنطقا وفلسفة وطبا وفلكا وذرة وهندسة وما سواها، فطوَّر الحياة في الأرض لمعاشه تنمية وإعمارا، وارتاد آفاق السماء استكشافا لآياتها واستقراء لمجاهلها، قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ فصلت 53.
قال الله تعالى: ﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) ﴾
لقد كان للعقل فضل كبير في ترتيب البيت البشري وتمهيده وتسخيره، وتأسيس نظم معاييره المادية والمعرفية، وهو بذلك نعمة من الحق سبحانه، وهبها وأعان بها، وليس من الحكمة الإعراض عنه أو الانكفاء إلى الغباء والبلادة والتقليد، قال تعالى: ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾ الأنعام 97/98.
غير أن لهذا العقل مجالا محدودا لا ينبغي تجاوزه، وميدانا لا ينبغي الخروج عنه، هو الكون المادي الفسيح، اكتشافا واختراعا وتسخيرا، والنشاط الفكري المتنوع الذي يعتد فيه بالأدلة والمقابلات والمقارنات والنتائج والمقاصد والغايات، ويعتمد فيه على أدوات المعرفة السليمة ملاحظة وتحليلا وتجربة واستدلالا واستقراء واستنباطا وتجريدا وتعميما.
أما مجال الغيب فإنه عصي عن العقل، استأثر الله تعالى به، ولم يجعل لارتياده من سبيل إلا القرآن الكريم وما تبينه منه السنة النبوية، على أن يقبل المرء عليه واثقا بنصوصه عند تلقيها، مسلما بها بعد فهمها وعاملا بمقتضاها عند استيعابها. فإن حاول العقل بغير القرآن أن يتجاوز عالم الشهادة، ليقتحم مجالا غير مجاله ويخوض بحرا غير بحره أو لججا لم يخلق لخوضها، تعطلت أدواته المعرفية وكلَّتْ، وفقدت معاييره القياسية قيمتها ومصداقيتها وانقلب إليه الفكر والنظر خاسئين حسيرين. من ذلك مثلا أننا عندما نسمع قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ الرعد 1، وقوله مستهينا بالكثرة الكافرة المحجوبة عن قيم الغيب والإيمان: ﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾ المائدة 100، ثم قوله: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ البقرة 249، أو: ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ آل عمران 126، أو نسمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( طوبى للغرباء )، فقيل له: ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال:( ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) [[1]]، لا يملك العقل المادي المحدود إلا أن يحار مستغربا عاجزا عن الفهم، مستبعدا كل انتصار للقلة على الكثرة أو الضعف على القوة، لتعارض ذلك مع سنن الكون المادية في الحياة الدنيا.
إلا أن هذا القصور من العقل البشري تتداركه آيات الوحي إذ تقدم للإنسان معايير أخرى للنصر والهزيمة وسننا لصراع الحق والباطل مرتبطة بقيم إيمانية لا يرقى رقيها إلا الذين ينظرون بنور الله ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ النور 40. ولئن كانت قواعد المنطق المادي والتدبير العقلي وقيم التكاثر في المال والعتاد والإعداد تقتضي غلبة الباطل القوي على الحق الضعيف، فإن مقاييس الغيب الرباني والحكمة الإلهية الشاملة تقتضي هزيمة أهل الكفر والعصيان على كثرتهم لارتباطهم بالضعف المطلق، وغلبة أهل الإيمان والحق والطاعة على قلتهم لارتباطهم بالقوة المطلقة قوة الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ البقرة 165، وقال: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ الحج 40، وقال:﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ الصافات 171/173.
إنه الموقف نفسه الذي يتلامح في الذهن المادي عند قوله تعالى في آخر آيات الدرس السابق:﴿ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ آل عمران 110، فيخيل له أن الأكثرية الفاسقة لا بد أن تتألب على الفئة المؤمنة القليلة فتغلبها وتقضي عليها، ليس في مقاييس المنطق المادي إلا هذه النتيجة وهذا المصير، لكن الوحي الكريم يبادر إلى تسفيه هذا التصور ونبذه، ويفتح للمؤمنين آفاقا أخرى يَنشَقُون نسائمها ويُريحون عبقَ أريجها، آفاقا من نصر كتبه لهم رب العزة تعالى على ضعفهم وقلتهم، مادامت خيريتهم قائمة بحق، إيمانا وتقوى وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، ومسارعة في الخيرات، وذلك بثلاث بشارات تطمئن القلوب وتثبتها على الحق، نزل بها الروح الأمين على النبي صلى الله عليه وسلم، أولاها قوله عز وجل:
﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ﴾ والضرر في هذه الآية الكريمة هو الشر الذي يؤلم الإنسان ساعة وقعه ويبقى له أثره السيئ في النفس أو الجسم أو تبعات الدنيا، أو يؤدي بالأمة إلى هزيمتها وهدم كيانها وإهدار كرامتها وتحكم الأعداء فيها. ومنه قوله عز وجل: ﴿ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرّ ﴾ الأنبياء 84، وقوله: ﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّه ﴾ يونس 12. أما الأذى فهو المكروه اليسير والشر الخفيف الذي يؤلم ساعة وقعه ثم ينتهي، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ البقرة 264، وفي الحديث الصحيح ( الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول لا إله إلا الله ).
والآية في مجملها طمأنة للقلة المؤمنة وتهدئة لروعها مما قد توقعه في النفوس كثرة اليهود وعداوتهم وشدة بأسهم مالا وسلاحا، وما ملأ قلوبهم من حسد وحقد ومكر، وما تأجج في صدورهم من غيظ على المسلمين عقب إسلام بعض سادتهم، من أمثال عالمهم مخيريق [[2]] وحبرهم عبد الله بن سلام مع جميع أهل بيته.
والمعنى أن هذه الكثرة الفاسقة من أهل الكتاب التي ناصبت المؤمنين العداء لن تضرهم ضررا بليغا يتجاوز الأذى، وإنما هو البلاء اليسير ينالهم بالقول الفاحش تكذيبا أو تشكيكا في العقيدة أو نشرا للشائعات أو تخذيلا ومحاولة شق للصف ورد عن الدين. فإن حاولوا أن يرتفعوا من الأذى إلى الضرر الحقيقي لم يتمكنوا ولم يفلحوا وكان مآلهم الهزيمة، وهي البشارة الثانية التي عقب بها عز وجل إذ قال:
﴿ وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ﴾ يفرّون منهزمين بذلة وصغار، وقد حدث ذلك في واقع الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصراعه مع يهود الجزيرة في خيبر وقينقاع والنضير وقريظة، وكانوا لقوتهم وشدة بأسهم يقولون له:" يا محمد إنك ترى أنَّا قومُك ولا يغرنَّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمَنَّ أنَّا نحن الناس ". ولئن كان السياق في هذه الآية الكريمة متعلقا بانتصار الجيل الأول من المسلمين في حربهم مع اليهود، فإن الأمر كذلك أثناء جهاد الصحابة والتابعين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشام والعراق وفارس وإفريقية، وإقامتهم فيها أمر الإسلام عزيزا منتصرا. قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ آل عمران 12، وقال:﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ القمر 45.
أما البشارة الثالثة فهي قوله تعالى:
﴿ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ ولم يُجزَم الفعلُ في هذه الجملة لأن الكلام مستأنف وليس معطوفا على جواب الشرط الذي هو ﴿ يُوَلُّوكُمُ ﴾، إذ لو عُطِف عليه فكان مجزوما لتغير المعنى، ولزم تقييدُ هزيمتهم بمقاتلة المسلمين، بينما هم لا ينصرون دائما على التأبيد، قاتلوا أم لم يقاتلوا. فإن انتصروا على الأمة الإسلامية حينا من الدهر فلما أخلت بشروط الخيرية، دخولا في الحرب على غير منهج الله، وتقصيرا في العمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإعراضا عن الدعوة للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بأسباب النصر.
إن اليهود لن ينتصروا أبدا على الأمة الإسلامية ما وفت بشروط خيريتها، وهم يحملون معهم أسباب الهزيمة منذ عصوا الرسل وقتلوا الأنبياء، وحاقت بهم اللعنة، وكتب عليهم بها الصغار المقيم والذلة الدائمة، لذلك عقب تعالى بقوله:
﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾، و" الضرب " لغة يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة، ثم يستعار ويحمل عليه مجازا، من ذلك "ضَرَبَه": إذا أوقع به الضرب، وضرب في الأرض: إذا سافر للتجارة أو الجهاد، ومنه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ﴾ آل عمران 156، ومنه أيضا "ضَرَب الدراهمَ ": إذا طبعها وصاغها على شكل خاص.
أما قوله تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾ فمعناه أنهم طبعوا على الخنوع وألصقت الذلة والقهر بهم كما تطبع السمة على الدرهم فلا تفارقه.
﴿ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ﴾ حيث ما وجدوا أو ظُفِرَ بهم، وهو حال تقرر على اليهود في أقطار الأرض قبل البعثة النبوية، ولم تكن لهم منعة إلا في المدينة وخيبر إذ استوطنوهما انتظارا لمجيء محمد صلى الله عليه وسلم وقد وجدوا صفاته في التوراة ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ﴾ البقرة 89. قال الحسن:" جاء الإسلام والمجوس تجبي اليهود الجزية، وما كانت لهم منعة إلا بيثرب وخيبر، فأزالها الإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض " .
ثم استثنى الحق سبحانه من أحوال ذلتهم ومهانتهم حالتين فقال:
﴿ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ﴾ والحبل في هذه الآية هو العهد، وفي الكلام محذوف تقديره: ضربت عليهم الذلة فلا نجاة لهم منها إلا في حال اعتصامهم بعهد من الله، أو عهد من الناس. وقد عاشوا دهرا تحت الذمة في الدولة الإسلامية، فكان الغدر شيمتهم والخيانة طبعهم، منذ العهد الذي أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم في وثيقة المدينة، وأمَّنهم به على أموالهم وأعراضهم ودمائهم وحقوقهم المدنية، ثم تداولتهم بعد ذلك ذمم الناس شعوبا وأمما، وهم يعتصمون حاليا بحبل الغرب المسيحي، منه يستمدون الحماية والدعم.
﴿ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ ولفظ "باء" من أصل البواء وهو المكان المستوي، يقال: بوأت له مكانا أي سويته فتبوأه ونزله، ومنه باء إلى الشيء يبوء بوءا: رجع، ومن المجاز: باء بذنبه أقر به واستحقه واحتمل عقوبته المساوية له، كما ورد في نهج البلاغة من كلام الإمام علي رضِي اللّه عنه: "فيكون الثواب جزاء والعقاب بواء". ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ أي: منزل صدق ومستقرا طيبا في الأرض المقدسة، فلما عتوا عن أمر ربهم بوأهم منزل غضب وسخط وقال سبحانه:﴿ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ أي: استحقوا غضبه عز وجل وانصرفوا به.
﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾ وأصل المسكنة لغةً من السكون، وهو ثبوت الشيء بعد تحرك، يقال: استكان الرجل إذا تطامن وسكن خانعا لغيره، والمسكنة التي ضربت على بني إسرائيل صفة تلزمهم لا يرفعها عنهم الناس أبدا، وهوان ذاتي أُلُبسوه، وصغار في تركيبتهم النفسية لا يفارقهم وليس لهم منه فكاك.
ثم شرع الحق سبحانه يبين حيثيات حكمه عليهم بهذا المصير المخزي واستحقاقهم هذا العذاب المقيم في الدنيا والآخرة فقال:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ لقد كان سبب هذا الخزي الذي حل بهم والغضب الإلهي الذي حاق بهم هو ما ارتكبوه طيلة تاريخهم في حق الرسالات التي بلغتهم فجحدوها وكفروا بها، والأنبياء الذين أُرسِلوا إليهم فكذبوهم وعصوهم وآذوهم وقتلوا بعضهم، واعتدوا على من آمن بهم. وهو سبب عام يؤدي إلى النتيجة نفسها لدى كل أمة فعلت فعلهم وارتكبت آثامهم، وتنبيه بذكره في هذه الآية للأمة الإسلامية وتحذير لها من المصير نفسه إن لم تتمسك بدينها ولم تقم بما نيط بذمتها من دعوة إلى الخير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ووفاء بعهد الله، قال تعالى:﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ محمد 38، وقال صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفس محمد بيده لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المنكر ولتأخذُنَّ على أيدى المسيء ولتأطرُنَّه على الحق أطرًا أو ليضربَنَّ اللهُ بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم )[[3]] ، أي كما لعن بني إسرائيل.
وبعد أن بين عز وجل مآل أهل الكتاب الذين جحدوا الرسالة وأصروا على الكفر والعدوان عاد باستثناء طائفة منهم لم يسيروا سيرتهم، ولم ينهجوا نهجهم ولم يضلوا ضلالهم، طائفة عرفت الحق واتبعت صراطه، آمنت بالله ربا وبالكتاب وحيا منزلا وبمحمد نبيا ورسولا خاتما، وبالإسلام منهجا للحياة، طائفة وصفها تعالى بقوله:
﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ وهم مَن أسلم مِن أهل الكتاب، كعبد الله بن سَلام وأسَد بن عُبَيْد وثعلبة بن سَعْية وأسَيد بن سعْية وغيرهم من نصارى نجران والحبشة، نزلت فيهم هذه الآيات وشهدت بأنهم ﴿ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ﴾ طائفة دخلت في الإسلام، وقامت بحقه في النفس عبادة وتهجدا بالذكر والتلاوة والصلاة، وفي المجتمع أمرا ونهيا ودعوة إلى التوحيد والخير.
إنه الإنصاف المطلق والرحمة الربانية الشاملة، لا يستوي لديهما المحسن والمجرم قال تعالى:﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ القلم 35/36، وقال:﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ هود 24. لقد انضمت هذه الطائفة من أهل الكتاب إلى ركب الإيمان فحسن إسلامها، ونهضت بتكاليف الخيرية وشروطها، إيمانا بالله واليوم الآخر وما يؤدي إليه من تصور رشيد متكامل:﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ﴾ ويساهمون في بناء المجتمع وترشيده وحمايته ﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾، ويبادرون إلى كل خير يزكون به أنفسهم وأعمالهم وأمتهم:
﴿ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ والسرعة لغةً تقليلُ الزمن بالنسبة لأي حدث، وتعني الإقبال بأناة على ما ينبغي عمله، وهي منزلة وسطى بين العجلة والإبطاء المذمومين، لأن العجلة مظنة الخطأ ومجانبة الصواب، والإبطاء مظنة التقصير في أداء الواجب، والمرء لا يدري متى تدركه الموت فيلقى ربه مقصرا. لذلك كانت المسارعة في الخير دليلا على تمكن الإيمان من القلب، وفرط الرغبة في القيام بأمر الله، لأن من أحب شيئا بادر إليه وآثر الفور على التراخي في القيام به، قال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ الأنبياء 90، وقال صلى الله عليه وسلم: ( اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك ).
ثم عقب تعالى بما يكشف منزلة هذه الفئة المؤمنة عنده، ومآلها بين يديه، ونصيبها من الأجر والثواب يوم القيامة فقال:
﴿ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ الصالحين لحمل أمانة الدعوة، وإمامة البشرية والاستخلاف في الأرض بما يصلحها ويعمرها، ويملأها خيرا وبرا وعدلا وتعاونا رشيدا بناء، لما تحلوا به من الصفات الست المذكورة آنفا وهي: الإيمان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات. لقد كان أول جزائهم أن بوأهم الله تعالى بهذه الآية الكريمة درجة عالية، هي درجة ﴿ الصَّالِحِينَ ﴾ التي سألها نبيه سليمان عليه السلام بقوله:﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ النمل 19، وكتبها رب العزة تعالى لعباده المطيعين فقال:﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ النساء 69.
ثم عقب على ذلك بذكر ثواب أعمالهم في الآخرة فقال عز وجل:
﴿ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ وقد قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو بكر بالتاء: ﴿ تَفْعَلُوا ﴾ و ﴿ تُكْفَرُوهُ ﴾، وحجتهم أن الآية خطاب للحاضرين، تابعة لقوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ... ﴾ أيها المخاطبون. وقرأها حمزة والكسائي وحفص وخلف بياء الغيبة، عائدة إلى أمّة قائمة في قوله تعالى قبلها ﴿ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ﴾ يليها ﴿ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ﴾، أي وما يفعلوا من خير فلن يعدموا ثوابه، بل يشكر لهم ويجازون عليه, لأنه عز وجل يعلم حال المتقين ونواياهم وأعمالهم، ومقدار ما يستحقون من ثواب، لا يضيع أجر من أحسن واتقى: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾.
ولما وصف عز وجل من آمن من الكفار بهذه الصفات الحسنة وذكر ما أعده لهم من الجزاء والثواب أتبع ذلك بوعيد أضدادهم المتمسكين بالكفر والجحود، ليجمع بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ويتضح الفرق بين القبيلين فقال سبحانه:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾ والمقصود بهذه الآية الكريمة جميع فئات الكفار، مشركين وأهل كتاب، وكانوا كلهم يفتخرون بكثرة الأموال والأولاد، ومنهم أبو جهل الذي كان معجبا بكثرة ماله وأبو سفيان الذي أنفق على المشركين في بدر وأحد، واليهود الذين كانوا يُكَثِّرون أموالهم بالربا والمتاجرة بالأحكام الشرعية يشترون بها ثمنا قليلا.
أما لفظ"الإغناء" في قوله تعالى: ﴿ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ ﴾ فمعناه الدفع وسد الحاجة، أي إن الذين كفروا بالله ورسوله لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا ولو يسيرا من عذاب الله يوم القيامة. وليس لهم يومئذ من مصير إلا النار ﴿ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ يلازمونها خالدين فيها كملازمة المرء لصاحبه.
إن أولادهم لن تهمهم إلا أنفسهم في ذلك اليوم العسير:﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ عبس 34/37. أما أموالهم التي أنفقوها في الدنيا فلن تجدي نفعا:
﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾. وسواء أنفق الكفار هذه الأموال في أوجه الخير خاصها وعامها، أو تقربا من العباد أو رب العباد، وهم لوحدانية الله جاحدون، فلن تقبل في الآخرة، يمحق الكفر ثوابها ويعصف الشرك بأجرها ويبيده ﴿ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ﴾ كما تبيد ريح فيها ﴿ صِرٌّ ﴾ أي برد شديد حارق ﴿ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾ زروع قوم ظالمين عاقبهم الله بحرقها وإبادتها، كما هو حال أصحاب الجنة ﴿ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم ﴾ القلم17/ 20. كذلك يحرق الكفر ثواب الأعمال في الآخرة لأنها لم تكن على منهجه سبحانه، قال الحق تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَه ﴾ النور 39.
ثم بين تعالى عدل ما عوملوا به ومسؤوليتهم عما حاق بهم فقال:
﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾. لقد ظلموا أنفسهم إذ لم يؤمنوا ولم يتوجهوا بأعمالهم إلى الحق سبحانه، وذلك منهم الشرك الأكبر ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ لقمان 13، فكانت النار جزاءهم ومثواهم، عدلا تاما مطلقا لا ظلم فيه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ يونس44.
لقد بين الله تعالى في صدر هذه الآيات الكريمة عاقبة ولايته لخير أمة أخرجت للناس، وهي النصر الدائم الذي كتب لها ما وفت بشروط الخيرية وعملت بها، ومآل أعدائها المجاهرين بالكفر والجحود، خلودا في النار لا نصير لهم ولا شفيع من مال أو ولد يوم القيامة. إلا أن أعداء آخرين أشد خطرا عليها وأعظم وأنكى، أعداء من المنافقين الذين اخترقوا الصف الإسلامي وتلبسوا بلبوسه خداعا ومكرا، ينبغي الحذر منهم واجتنابهم وعدم الركون إليهم أو الاستعانة بهم على أي شأن خاص أو عام، لذلك نبه الحق سبحانه وتعالى إلى شرهم بعد أن فصل الحديث عن الكفار المجاهرين وتعهد بكف شرهم فقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ والبطانة لغة من"البطن" وهو خلاف الظهر، يقال: بَطَّنَ ثوبه بثوب: إذا وضع تحته بطانة من ثوب آخر، وجعل له ظِهارة وبِطانة. قال تعالى: ﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَق ﴾ الرحمن 54، وبطانة الرجل وليجته وخاصته الذين يستأمنهم على أسراره ويستشيرهم فيما يعرض له، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: هو له مداخل ومؤانس ومستشار. وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالا، ومن يُوقَ بطانةَ السوء فقد وُقِيَ ). ولما ولَّى الفاروق عمر رضي الله عنه أميرا على البحرين كتب يقول له:"وأبْعِد أهلَ الشر وأنْكِرْ أفعالهم ولا تستعنْ على أمر من أمور المسلمين بهم "، ولما وَلِيَ الإمام علي رضي الله عنه الخلافةَ كتب إلى واليه على مصر مالك بن الأشتر يقول له:"إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، من شاركهم في الآثام فلا يكونَنَّ لك بطانة، فإنهم أعوان الأثَمَةِ وإخوان الظَّلَمَة".
لقد نهى الحق سبحانه في هذه الآية الكريمة عن اتخاذ غير المؤمنين بطانة تؤتمن أو يركن إليها، وعن الثقة بأعداء الدين كفارا مجاهرين ومنافقين حسدة، لما علمه من خبث سرائرهم وعدوانية نواياهم وشدة غشهم وبغضائهم، وقد كان رجال من المسلمين يصافون بعضا منهم للقرابة أو الحلف أو الجوار أو الرضاع أو المتاجرة، فحذر رب العزة تعالى من ذلك وذَكَر مبررات النهي موجزة في ثلاث علل أولاها:
﴿ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ﴾ ولفظ "يألونكم" من أصله اللغوي "أَلَا، يألو" في الأمر، إذا قصر فيه، والخبال هو الشر والفساد. والمعنى أنهم لا يقصرون في محاولة إفساد أمر المسلمين، ولا يترددون في تدميرهم وبث الغوائل لهم، ولا يتركون جهدا يبذلونه لإلحاق الشر والأذى والفتنة بالمجتمع الإسلامي.
والعلة الثانية هي أنهم:
﴿ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ﴾ الود هو المحبة، والعنت هو المشقة الشديدة والحمل على المكروه، أي: يتمنون لكم كل ما يعنتكم ويشق عليكم. قال صلى الله عليه وسلم: ( إن شرار عباد الله من هذه الأمة المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت ) وهي صفة أخرى للبطانة الفاسدة التي تتلبس بالمرء وتحيط به وتتمنى له كل ما يشقيه ويهلكه.
والعلة الثالثة أن صدورهم مملوءة ببغض المؤمنين والحقد عليهم، قال تعالى:
﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ وبغضهم للمؤمنين لا يكاد يخفى، تكشفه زلات ألسنتهم وملامح وجوههم، ونصائحهم المشوبة بالغدر والختل والتضليل كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ محمد 30، أما ما تكن صدورهم من الغيظ والحسد والضغينة فأكبر من ذلك بكثير.
هذه ملامح غير خفية وعلامات واضحة تكشف حقيقة المنافقين وما يملأ قلوبهم من كراهية وما في أعمالهم من مكر، بينها رب العزة تعالى للمومنين وأرشدهم إليها كي يكتسبوا المناعة مما يكيده أعداؤهم كفارا مجاهرين وبطانة فاسدة: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.
ثم أقبل رب العزة بعتاب ولوم للمؤمنين الذين يتخذون بطانة من الكفار والمنافقين يلقون إليهم بالمودة ويكشفون لهم أسرارهم ودخائلهم فقال:
﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ ﴾ ها أنتم الذين ﴿ تُحِبُّونَهُمْ ﴾ بسبب ما بينكم وبينهم من علاقات اجتماعية وتحبون لهم الخير وتودون لهم الإسلام، وتثقون بهم فتكشفون لهم خاص أسراركم وأحوال المسلمين معكم، ﴿ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ ﴾ لأنكم مسلمون، ولأنهم يحسدونكم ويودون لكم الهلاك ويتمنون عودتكم إلى الكفر، ولا يثقون بكم وينقلون ما يعرفون عنكم إلى أعدائكم، ولئن أظهر لكم بعضهم الإسلام مداهنة ومصانعة فإن الكفر مستقر في قلوبهم، ولئن أكننتم لهم المحبة فقد كذبوكم الود واتخذوكم في ما يضمرون أعداء.
إن العلاقة العقدية بينكم وبينهم مقطوعة مبتوتة، أنتم أخذتم الإسلام إيمانا وإحسانا ﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ﴾ عقيدة وشريعة وسلوكا حميدا، وهم يكفرون به جملة وتفصيلا، وإنما يظهرون لكم الإيمان خداعا ونفاقا، فإن خلوا بأنفسهم أو بأوليائهم أطلقوا لمشاعرهم أعِنَّة الحقد ولألسنتهم أزِمَّةَ البهتان والنميمة والوشايات الكاذبة المغرضة ﴿ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ﴾.
إن الإحسان إلى هذا الصنف من المنافقين الحاسدين لن يطهر قلوبهم من الغيظ، والتودد إليهم لن يشفي قلوبهم من الحقد، والقرب منهم مفسدة لدينكم ومجتمعكم، فأبعدوهم عن مجالسكم واحجبوا عنهم أسراركم وأخباركم، وإن غضبوا لابتعادكم عنهم واستبطانكم الصالحين من المؤمنين دونهم فليقل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه: ﴿ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ﴾ أي: ليس أمامكم وقوة الإسلام تتضاعف وأهله يكثرون، إلا أن يشتد غيظكم فيشقيكم ويلازمكم حتى تدرككم الموت حنقا، لقد نبأنا الله بأسراركم وأخباركم وما تكنونه لنا في صدوركم من حسد وحقد وما تبيتونه لنا من مكر وكيد: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾.
ثم يتغلغل الوحي إلى عمق مشاعر المنافقين ظاهرها وباطنها، يكشفها للمؤمنين زيادة في التحذير والتنبيه، فيقول الحق تعالى:
﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾ والمس إحداث صلة ولو خفيفة بين شيئين، أي: إنهم لشدة حنقهم يستاؤون لمجرد خير بسيط تنالونه. فما بالكم والنصر حليفكم في كل موقف والقلوب تقبل على دينكم من كل فج، والعقيدة تجمعكم وتوحد صفكم وتؤاخي بينكم.
﴿ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ﴾ وإن ينلكم بلاء في مال أو ولد أو معركة يفرحوا، ويتمنوا أن يكون قاصما لظهوركم. وهذا منتهى الحقد والحسد والغيظ، لأن المصائب قد تجعل العدو راحما أحيانا، ولكن البطانة الفاسدة المنافقة لا مدخل للرحمة إلى قلوبها.
إنها صورة متكاملة لنموذج بشري ممسوخ الفطرة في كل عصر ومصر، إن غَلَب قَتَل، وإن غُلِب تذلَّل، يصوب رأيك إن أخطأت، ويخطئه إن أصبت، حزنه يوم فرحك، وفرحه يوم حزنك، يصدق كل بهتان سمعه عنك، وينكر كل فضل علمه فيك، يخونك في السر ويظهر المودة والإخلاص في العلن، فهو الخيانة تسعى في الأرض، والخذلان لكل مؤمن في الدين والنفس والعرض، وليس للمؤمن العاقل إلا أن يصدق فيه ملامح الظاهر قبل انكشاف البواطن والسرائر، ولحن القول قبل تصريحه بالعبارة والفعل، أما وقد نزل التحذير من السماء فكشف السمات بالاختصار والتطويل والإيجاز والتفصيل، فلم يبق لصادق إلا أن يحرر ولاءه لخالقه والمؤمنين، ويختص بالاستبطان والمودة والثقة عباد الله الصادقين، ويكون من كل خائن على حذر فلا يستنيم له، ولا يشركه في أمره، امتثالا لأمر الشارع الحكيم الذي خاطب فيه صفته العاقلة تنبيها وترشيدا بقوله:﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، وخاطب فيه صفته الإيمانية إيجابا وتكليفا بقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ﴾ الممتحنة 1. وليس للمؤمن إن امتثل لتوجيهات ربه ومراشد عقله إلا أن يطمئن، فما كيدهم إلا أذى لا يتجاوز الغمز واللمز وعض الأنامل غيظا في خفاء، لن يضره ما صبر واتقى، فهو في كنف الله وولايته وحمايته، وهو تعالى عليم بما يكيدون محيط بما يعملون: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.