تمر أعمال اللجنة العليا لإصلاح المنظومة القضائية هذه الأيام بأجواء مشحونة بعدما خيمت حالة من التوتر الشديد بين مكوناتها. و توخيا للدقة، فالتوتر لم يحل بين مكونات اللجنة، و إنما بين الوزارة الوصية عليها و المسيرة لأعمالها، و بين أحد الأعضاء و هو السيد النقيب حسن وهبي من جهة، و بين الوزارة و هيأة مهنية من خارج الهيأة و هي نادي القضاة، من جهة أخرى. و إذا كانت هذه التوترات قد أثارت استياء عاما نظرا لتناقضها مع الاتجاه التوافقي الذي نشأت اللجنة في ظله، و لما قد تحمله من عراقيل لعملية "الإصلاح" المنشود في بداياتها الأولى، فإنها قد نبهتني إلى بعض الأبعاد الخفية في المقاربة الموجهة لمشروع الإصلاح، و التي من شأنها أن تساعد على استشراف مآله. أول ما يثير الانتباه في هذا الأمر هو أن النقيب حسن وهبي الذي تم تعيينه بصفة شخصية من طرف جلالة الملك قد انسحب من اللجنة بصفته رئيسا لجمعية هيآت المحامين. و قد أعلن في وسائل الإعلام، بعد بيان الجمعية، أن هذه الأخيرة قد انسحبت من اللجنة العليا للحوار الوطني. فهل كانت الجمعية عضوا في اللجنة؟ أم أن النقيب حسن وهبي قد عين فيها بصفته ممثلا للجمعية؟ من حهة ثانية، بعدما تشدد نادي القضاة في انتقاد تشكيل لجنة الحوار الوطني لعدم تمثيله فيها، أعلن انسحابه من جلسات الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة. فموقف النادي إذن هو موقف مؤسساتي للاحتجاج على عدم تمثيله بهذا الاعتبار، و ليس على عدم تمثيل القضاة بشكل عام. و هو ما يلتقي مع موقف جمعية هيآت المحامين في إعادة طرح سؤال طبيعة تكوين لجنة الحوار: هل تكوين تمثيلي أم شخصي؟ و ما هي الآثار المحتملة لذلك؟ إذا عدنا إلى الخطاب الملكي بمناسبة تنصيب اللجنة، و إلى التصريحات الرسمية المرافقة له، فإننا تنبين أن إنشاءها تم عن طريق تعيينات شخصية ذاتية. أما التمثيل المؤسساتي فهو لم يكن معيارا رئيسيا، بأدلة أربعة: الأول أن اللجنة ضمت شخصيات لا تمثل أية جهة؛ و الثاني أنها ضمت شخصيات مسؤولة عن مؤسسات لم يعرف عنها الاهتمام بمسألة القضاء، أو لا تربطها بها علاقة ظاهرة؛ و الثالث أنها ضمت شخصيات تنتمي إلى مؤسسات معينة لكنها لا تملك أية صفة تمثيلية فيها؛ و الرابع أنها قد استدعت من نفس المؤسسات أشخاصا متعددين. لكن التصريحات المشار إليها ظلت تؤكد على أن الهاجس التمثيلي كان حاضرا في اختيار الأعضاء. و هو ما يجعلنا نتساءل عما إذا كان يكفي استحضار الاعتبار التمثيلي بشكل ثانوي لنجزم بصواب عملية التشكيل و قدرة اللجنة على الاضطلاع بالمهام الموكلة إليها. إن اعتماد أسلوب التعين الشخصي و اعتماد أسلوب التعين التمثيلي سبيلان مختلفان ينطلقان من تصورات متباينة و يقودان إلى مآلات متباعدة، مما يمتنع معه قبول الخلط بينهما. يبدأ التفاوت على مستوى منهجية العمل المعتمدة أولا: ما الذي نريده؟ لجنة خبراء تعد أرضية عمل بطريقة علمية، ثم تدير نقاشا عموميا مسؤولا عبر تبقي رؤى مختلف المكنات الوطنية المهتمة من متخصصين و معنيين (أفرادا و هيآت)، ثم صياغة تصور تركيبي يرفع إلى السلطات المختصة لترجمة مقترحاته إلى تشريعات؛ أم لجنة "تمثيلية" تتولى باسم الفعاليات الممثلة فيها إعداد رؤية توافقية داخلية، ثم تعرضها على العموم للنقاش أو الإقناع. فأما أن تكون هذه اللجنة لجنة خبراء، فذلك بعيد كل البعد عن تركيبتها، رغم حضور بضعة أشخاص معروفين بكفاءاتهم العلمية. و أما أن تكون هيأة تمثيلية، فذلك غير متحقق، سواء على مستوى التشكيل أو على مستوى طرقة عملها. فهل يمكننا أن نتصورها هيأة مختلطة؟ لا أعتقد أن ذلك ممكن! و السبب أن منهجي العمل في الحالتين مختلفان تماما. إذ يعتمد عمل الخبراء على الاجتهاد الشخصي القائم على التشخيص العلمي للمعطيات، واستشراف الآفاق و صياغة الأهداف و وضع المقترحات في إطار من النقاش الموضوعي الجاد، بعيدا عن المزايدات السياسية. أما عمل اللجان التمثيلية للهيآت المهنية والمؤسسات المدنية و الإدارية، فإنه يقوم على استقبال تصورات الجهات الممثلة، و مقارنتها، و تركيبها بهاجس توفيقي، فيكون عملها بعيدا بما فيه الكفاية عن المنهج العلمي، و خاضعا لمنهج التدافع السياسي و الضغوطات المتبادلة و التحالفات الجانبية، نظرا لتعدد الأهداف و المشاريع بتعدد المتدخلين. لذلك، فإن الزعم بإمكانية الجمع بين السياسي و العلمي في عمل هيأة واحدة، إنما هو وهم محض. و نحن إذا نظرنا في سياق عمل اللجنة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، فسوف نرى مقدار الحيرة التي تطغى عليه، كما نستطيع تفسير الحرج و الضيق اللذين يطبعان تدبير الوزارة الوصية للخلافات و التوترات التي تبرز بين الفينة و الأخرى. لأن اجتماع السياسي (بالمعنى العام) و العلمي في مكان واحد لا ينتج عنه سوى كثرة الكلام و الاجترار. و حين يتعذر تجاوز ذلك إلى خلاصات جدية و مؤسسة، فإننا نعود إلى العموميات و التفيهق، و نتبنى من النتائج أمورا لم تكن بحاجة إلى "أوراش" و لا إلى مهرجانات و لا إلى لجان عليا. و بمعنى آخر، يفشل المشروع.. لا قدر الله! صحيح أن المشروع قد انطلق فعلا، و بدأت اللجنة أشغالها. لكن، لا بأس من التريث و الحكمة في سبيل إنجاحه. و وزير العدل قد عرف طيلة مسيرته بشجاعته و جرأته على الصدع بما انتهت إليه قناعته من دون مواربة. و لذلك فإني أسأله أن يعيد تقويم المسار، حتى و إن تطلب ذلك تغيير أجندة اللجنة. فبعض التأخير خير من عدم الوصول. إن ما نحتاجه فعلا هو أن نعود لنبدأ من البداية، عبر فتح أبواب الإدارات التابعة لوزارة العدل و وزارة الداخلية، من محاكم و سجون و شرطة قضائية و إدارية و مديريات مركزية أمام البحث العلمي الرصين، سواء في إطار البحوث الأكاديمية أو لجان بحث متخصصة، لإعداد دراسات لمختلف الأبعاد المؤسساتية و الوظيفية لمرافق العدالة ببلادنا، و إعلان تلك الدراسات أو على الأقل وضعها رهن إشارة العموم. فبهذه الطريقة سوف نتمكن من وضع أيدينا على الحقائق الثابتة و تشخيص النقائص و العلل بشكل صحيح، و سنفتح السبيل أمام إصلاح عقلاني متبصر. لأنه قد ثبت لدينا جميعا أن "حملات" و "مبادرات" و "انتفاضات" الإصلاح لا تصلح شيئا، و أن الأوراش التي تشرع مباشرة في المعالجة دون تشخيص ناضج لا تنتج سوى ارتجالات عقيمة. *أستاذ بكلية الحقوق بالدارالبيضاء