رمضان ليس كباقي شهور السنة (الهجرية طبعا). شخصيا أشعر به كائنا حيا، وضيفا حقيقيا من بني البشر، أو على الأقل مثل بعض الطيور التي تغيب عنا أحد عشر شهرا لتعود من جديد لتجديد أو بناء أعشاشها مثل طيور السنونو واللقالق والزرزور، و"الجوش"، كما أن رمضان يشبه كثيرا مواسم "التبوريدة" التي تُنظم في بعض المناطق المغربية كل سنة، وكم كنا نشتاق ونحن صغارا إلى زيارتها لنستمتع بالخيل والبارود؟ كانت مواسم عفوية، لا تحتاج إلى شركة للتواصل، أو "منادجر"، مثل بعض المهرجانات الممسوخة التي مهما فعل أصحابها تظل ممسوحة من ذاكرتنا وبدون روح، مهما استقطبت من نجوم ساطعة في سماء الفن، لسبب بسيط جدا، يكمن في كونها مهرجانات تعاني أزمة مكان، ذلك لأن موقعها الطبيعي في عواصم مثل دبي أو واشنطن أو باريس أو مونتريال، عوض عاصمة المملكة الإدارية التي لا زالت إلى غاية كتابة هذه الأسطر، تغرق في "عرارم" القمامة، وتحيط بها أحزمة الفقر المكونة من دواوير مثل "الكرعة" و"الحاجة" و"المعاضيض"، أو ما يسمى بمثلث بيرمودا، ناهيك عن دوار "الدوم"، و"جبل الرايسي"، وهي الأحزمة التي ينطبق عليها المثل العربي القائل "إن للاسم شيء من المسمى". وبمناسبة الحديث عن فصل المقال فيما بين "سيدنا" رمضان ومدينة الرباط من اتصال أو انفصال، لا زلت لحد الآن، رغم امتثالي الحرفي لمقولة المطرب الشعبي الراحل الشيخ إمام "حزر فزر، شغل مخك"، محاولا البحث عن سبب نعت المتهاونين في ما يتعلق بشؤون الدين، ب"مسلمين الرباط"، الذين بمجرد سماعي لهذا النعت القدحي لا أعرف لماذا أتذكر بسرعة فائقة، مثلا دارجا يقول "بْحَال صْلاة القُياد، الجمعة ولَعْيَادْ"، ولا أفهم من ذلك كله، في إشارة إلى دعاة "الإسلام - لايت"، يعني أن بعض الناس يولون اهتماما كبيرا لمظاهر الدين، ويهملون الجوهر. ولا ألقي هذا الكلام عل عواهنه، لأنني لست من المتشددين في الدين، فأنا- والعفو من هذه الأنا- أومن إيمان العجائز-كما تمنى عند احتضاره العالم المسلم الفخر الرازي- بالحديث النبوي الشريف الذي رواه الشيخان رحمهما الله تعالى "إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ ". ولهذا، تكاد تجدني، شبيها بذلك الرجل الذي أسلم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما عرض عليه أفضل الصلاة والسلام، أركان الإسلام الخمسة، تعهد "خونا فالله" بألا يقوم إلا بفرائض الدين ولن يزيد عليها نافلة واحدة، من نوافل الصلاة والصوم والحج والزكاة، بل قد تجدني في كثير من الحالات أقل من هذا الرجل "الله يسمح لينا، وخلاص"، ربما لأنني عاشرت طويلا "مسلمي الرباط"، وانطبق علي المثل "من عاشر قوما أربعين يوما سار مثلهم"، من السيرورة والصيرورة معا. لهذا، أنتظر باشتياق، كغيري من المسلمين (ضمنهم طبعا، مسلمي الرباط)، ضيفا عزيزا يُسمى رمضان، لكي أستدرك من خلاله، ما فاتني من فضائل، ولأكفر عن بعض الخطايا التي يقترفها لساني السليط، وأصابعي التي لا تكف عن الضرب على لوحدة المفاتيح ل"تحرير"، صكوك اتهام ضد رؤساء الجماعات، وزعماء الأحزاب السياسية، ومدراء المؤسسات العمومية والخصوصية، وبعض النواب البرلمانيين النائمين على مقاعد البرلمان الوثيرة، وبعض الوزراء والمسؤولين المتنطعين الذين يمشون مشية الطاووس، ويرفضون الإدلاء بأي تصريح أو توضيح وكأنهم حالفين فالكسكاس، و"مقرصين من تحت الطبلة". وبمناسبة، حلول "رجل" كريم يُدعى "رمضان"، ظهرت قبل سنتين "أقلية" أطلقت على نفسها لقب "مصايمينش"، (بزعطة) تطالب بفتح المطاعم والمقاهي في نهار رمضان، والسماح لأتباع هذا المذهب الجديد بممارسة حقهم في الأكل والشرب والتدخين في الشارع. وبعيدا، عن كون الملف المطلبي لهذه الأقلية، مشروعا أو غير مشروع، أهمس في آذان عناصرها التي لا تريد سماع سوى "تبقبيقة لكويميلة"، (وا الدراري، كونو رجال وقولو لينا ماشي مصايمينش، قولو مقادرينش على الصبر ساعات قليلة في اليوم، إوا عولنا عليكم، بكريييييي لتحرير الصحراء، وسبتة ومليلية"، أو على الأقل صرع العفاريت والتماسيح التي تحدث عنها رئيس الحكومة، سيما وأن رمضان فرصة مواتية لصرع تلك المخلوقات، و"تقييدها" في سلاسل وأغلال مثل الجن. لا يمكن مُعارضة من يدافعون عن الحريات الفردية، لكنهم عندما يقولون بأنه ليس من حق الدولة أن تتدخل في تصرفات الشخص ومعتقداته، وسواء كان يتقي الله أم يعصيه ويؤمن به أم يكفر فهذا ماليس من شأن أحد، طالما لم يلحق ضررا بالآخرين، وهذا الشرط الأخير-كما كتب الزميل فوزي منصور اليوم على حائطه بالفايس بوك- هو ما لايستوعبه بعض دعاة الحرية الفردية. فعندما يدعو من يحب أن تشيع الفاحشة في المجتمع، ومن يفطر في العلن في رمضان، ومن يعلن إلحاده ويدعو الناس إليه علنا، هؤلاء لايمارسون حريتهم الشخصية، وإنما يستفزون المجتمع ويلحقون الضرر به، ومن حق المجتمع أو السلطة الممثلة له أن تقوم بمنعهم لكي يحمي المجتمع نفسه من "السيبة"، وهناك فرق بين ممارسة "الحرية" في السر ، والدعوة إلى نشر الرذيلة في المجتمع. الفرق كبير وشاسع، مثل الفرق بين رمضان وباقي شهور السنة، "قل هل يستويان؟" ذلك لأن رمضان كائن حي، ينزعج من "حداثيين" ينكدون عليه فرحة العودة من ديار الغربة الباردة، لنفسح الطريق، رافعين شعار "صايمين إيمانا واحتسابا". إلى أن يدق على أبوابنا بعد ساعات قليلة، يمكنني توديعكم، مازحا بعبارة "رمضان مرسي" بدل "رمضان مبارك" (بعد مرور سنة على إسقاط نظام حسني مبارك)، وكل عام والوطن الإسلامي بأزهى ربيع، بدون شك سيكون ضيفنا جد مسرور، لكنه سيدخل في حالة كآبة وحزن، بسبب تأزم الوضع بأرض الشام، لأنه كائن حي، يرى ويسمع ويتكلم ويحس أيضا، فاللهم لطفك يا رب. [email protected]