كلما انكشف عداء العلمانيين المغاربة للإسلام وشريعته لوَّحوا بأنهم مسلمون، وأن عداءهم موجه للإسلاميين الذين يقرؤون الإسلام قراءة وهابية متشددة، ويفرضون على الناس فهما وحيدا للدين، ونمطا خاصا للتدين، بينما الإسلام المغربي إسلام وسطي معتدل، لا مكان فيه للنقاب ولا للتعدد ولا لقطع يد السارق ولا لجلد الزاني العازب ولا يعترف برجم الزاني المحصن ولا بسائر الحدود، والمغاربة دائما كانوا متسامحين مع اللواط والسفور، ويقبلون بالآخر مهما كانت ديانته، ولم يكونوا قط يعترفون بالتزمت والتشدد الذي استورده السلفيون الوهابيون من بلاد الحجاز...، إلى غير ذلك من الكذب الصراح على المغرب تاريخا ودينا وهوية، وعلى المغاربة شعبا وحكاما وعلماء، حتى إنك لتحسب أن المغاربة قوم لم يعرفوا قط إسلاما ولا عقيدة. وليس يهمنا في هذه الكلمة أن نرد على ترهات العلمانيين وادعاءاتهم ولا عن كذباتهم وافتراءاتهم، ولا عن إسلامهم الخاص جدا، الذي إن أردت أن تبحث عن تعاليمه، فلن تجدها لا في قرآن ربنا ولا في سنة محمد بن عبد الله رسولنا صلى الله عليه وسلم. إلا أنك إذا فتشت حولهم ستجد هذا الإسلام الخاص جدا في كتب مثل كتب محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهما، حيث لا يبقى من الإسلام لا ركن ولا شرط ولا أصل ولا فرع، ولا كبيرة ولا صغيرة، ففي مراجعهم تخلط المذاهب الأربعة بمذاهب الباطنية والملاحدة، وتصبح مواقف الحشاشين والقرامطة وآراؤهم، كمواقف الحنابلة والمالكية وآرائهم، فتخرج بعد البحث المضني من بين ركام الأحداث المكذوبة والسياقات المقطوعة والأخبار الزائفة والروايات المفتراة صفر اليدين متعب العينين كليل العقل. أما إذا كنت ضعيف النظر قليل البضاعة واعتمدت خلاصاتهم ونتائج بحوثهم، فإنك تصبح من الذين لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فيستوي عندك الكافر والمسلم، والزاني والمحصن، ويتماثل في نظرك المقدس والمدنس، والإله والمعبود، ويتداخل في سلوكك الحلال والحرام، ويتماهى في قناعتك الطهر والعهر، ولا يبقى أمامك سوى "الحرية" بمعنى التسيب والانفلات من تكاليف رب العالمين، و"العقلانية" بمعنى الإلحاد وإنكار الغيب جملة، وإن أنت آمنت بإله فهو إله عاجز تقر له بالخلق وتسلب منه الأمر. فتعالى الله عما يقول العلمانيون علوا كبيرا. وبالرجوع إلى مطالب العلمانيين وسلوك عامتهم نرى أنهم لا يتركون أمرا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا خالفوه وصدوا الناس؛ عنه كالحجاب والعفة وموالاة المؤمنين، ولا نهيا إلا أتوه وأمروا الناس بارتكابه؛ كالزنا والربا والقمار وشرب الخمر والتبرج، آمرين بالمنكر ناهين عن المعروف. فهل بعد هذا تبقى هناك حقيقة لإسلام العلمانيين؟ إلا أن ما يهمنا في هذه العجالة ليس إثبات إسلامهم أو نفيه، بل ما يهمنا هو أن نستبين أن الصراع الذي يطفو على السطح كل مرة في شكل معارك بين العلمانيين وباقي المغاربة خصوصا العلماء والدعاة إلى الله عز وجل، ينبئ عن حرب بين مرجعيتين متناقضتين تناقضا يستحيل معه الجمع بين الانتماء إليهما معا، كأن يقول الإنسان: أنا علماني مسلم أو مسلم علماني. فما هي أهم خصائص هاتين المرجعيتين: المرجعية الأولى: مرجعية تؤمن بنظرية الخلق وما يتفرع عنها من مقتضيات إيمانية مثل: أ- الإيمان بخالق للكون مهيمن عليه مستحق للعبادة، خلق الخلق وأمرهم بالاستجابة لأمره، لقوله تعالى: "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" الأعراف. ب- الإيمان بالأنبياء والرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله بعثهم بشريعته ليحكم الناس بها لقوله تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" البقرة. ج- الإيمان بتطبيق الشريعة الإسلامية وأنها مُصلحة لكل زمان ومكان، وأنها حاكمة غير محكومة، وأنها فوق كل الشرائع والقوانين لقول الله تعالى: "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" المائدة. د- الإيمان أن الإنسان خلقه الله حرا إلا من عبودية الله، ولا يتحقق تحرره من عبادة كل المخلوقات إلا إذا حقق العبودية لله الخالق وحده، لقوله تعالى: "قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" غافر. والإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. فالمؤمنون بنظرية الخلق يؤسسون تصورهم للكون والإنسان والحياة وفق مقتضيات إيمانهم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، ومن هذا المنطلق يحددون مواقفهم في الصراع مع العلمانيين حول قضايا الحرية الجنسية وحرية الاعتقاد وكل القضايا المتعلقة بالحريات الفردية والعامة، وكذا قضايا الأمة مثل قضية القدس وفلسطين، والتطبيع مع الصهاينة. أما المرجعية الأخرى فتؤمن بالفصل بين السماء والأرض ويؤسس أتباعها تصورهم للكون والإنسان والحياة وفق نظريات مادية وفلسفات بشرية يحكم معتقداتها الفصل بين الدين والحياة العامة، لذا فهم يعتبرون الدين والتدين شأنا فرديا لا دخل له في أمور الدولة ولا يصلح أن يكون أساسا للتشريع أو الحكم، وأن الدين والقيم والأخلاق هي من خلق البشر، وأن الإنسان خلق حرا من كل شيء، ولأنه بطبعه اجتماعي لا يستغني عن بني جنسه، فهو محتاج لكي ينظم أمور عيشه إلى وضع قوانين يلزم بها نفسه، وما دامت هذه القوانين تحتاج إلى من يفرضها على الجميع فقد قررت الجماعة أن تتنازل عن بعض حقوقها للحاكم حتى يدبر أمورها وفق ما ترتضيه هي، لا وفق ما يحلو له. وحتى من يقر من أتباع هذه المرجعية بوجود إله خالق، لكنه يؤمن به إله عاجزا عن التدخل في الكون، فهو يؤمن بوجوده وجودا شكليا، حيث ينفي عنه القدرة عن تدبير الكون وتصريف أموره، ويعتبر هذا الكون مستقلا عن خالقه لا يخضع لأمره ولا لنهيه، بل أوكل هذا الخالق الكون للإنسان ومنحه الحياة فيه، ينظمها كيف يشاء دون أن يحتاج إلى تدخل غيره فيه ولو كان هذا المتدخل خالق الكون نفسه. وأيا كان أتباع هذه المرجعية -سواء من يثبت وجود الله تعالى بالنحو الذي ذُكِر أم من ينكر وجوده أصلا- فهم يعتقدون أن الدين والأخلاق والقيم كلها أمور من وضع البشر، أو أنها لا تتعدى العصر الذي شرعت فيه، فهي محكومة به وبظروفه وليس لها طابع الاستمرارية (تاريخانية النصوص)، وترتب عن هذا الاعتقاد أمران: أ- نسبية أحكام الدين والأخلاق والقيم ومِن ثَم فإنها خاضعة للتطور، فما كان اليوم حقا قد يصبح غدا باطلا، وما كان خيرا قد يصبح في قابل الأيام شرا، وما كان عيبا ومستقبحا قد يصير بفعل التطور جيدا ومستحسنا، مثل العري والزنا واللواط والسحاق، وزواج اللواطيين والسحاقيات، وشرب الخمر والمخدرات، واتخاذ المحصن عشيقة والمحصنة عشيقا، فكل ذلك كان عند الدول الغربية وشعوبها مستقبحا يعدونه من المعاصي والموبقات، فلما اتبعوا هذه المرجعية وفصلوا بين الدين والحياة العامة، صارت كل هذه القاذورات داخلة في الحرية الشخصية، فسنت لها القوانين لتنظيمها وحماية مقترفيها، وبكل غباء وبلادة يفضل العلمانيون في بلادنا السير على خطاهم، ويطالبون الدولة والشعب بإقرار المطالب نفسها دون مراعاة لأحكام الدين ولا لهوية المسلمين. ب- عدم إلزامية الدين والأخلاق والقيم إلا للفرد وبمحض اختياره، ولا سبيل لفرضها على الجماعة، وبهذا يُفصل بين الدين والدولة وبين الشريعة والسياسة، فينفصل الدين والشريعة عن قوة السلطان الموجب لحكمهما، ويفقدان خاصية الإلزام، ثم يصبح التحاكم إليهما مستحيلا لوجود قانون وضعي استعاض الناس به عنهما. فمن خلال ما سبق يتبين أن المرجعيتين متناقضتان، وأن الإسلام الذي يتحدث عنه العلمانيون إسلام بدون مضمون لا حقيقة له على أرض الواقع، ومن ثم يدرك القارئ أن تهمة الإسلام الوهابي، إنما يقصد بها الإسلام التطبيقي المشابه للإسلام المعمول به في بلاد الحرمين، بلاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والذي يتفق الجميع أنه يخالف الإسلام المعمول به اليوم في المغرب، لكن التاريخ القريب يخبرنا أن هذا الإسلام الوهابي يشبه إلى حد كبير الإسلام الذي كان معمولا به في المغرب طيلة خمسة عشر قرنا إلا قليلا، ولم يتوقف العمل به إلا قبيل مجيء العلمانية الفرنسية على دبابات الجنرال ليوطي وجيوشه. والمؤسف أن هذه الجيوش العلمانية الغازية لم تخرج حتى انتهت من علمنة الدولة: إدارة وتشريعا وتعليما واقتصادا، وقتلت في سبيل ذلك مئات الآلاف من أجدادنا وآبائنا، لكن الأكثر أسفا والمستفز حقا، هو أن نرى اليوم العلمانيين ورثة ليوطي يصرون على حماية إرث سلفهم، ويعملون دون رادع لاستكمال علمنة الشعب المغربي لكن:"وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" يوسف. * مدير جريدة السبيل