"الزواج المختلط عملية حسابية لاحتمالات هي الأقل توقعا"، بهذه العبارة وصف الملك الراحل، الحسن الثاني، ذات مرة ظاهرة الزواج المختلط في معرضِ جوابه على سؤال تقدم به صحفيٌّ فرنسي، بيد أن الوقوع في شراك الهوى كثيراً ما يكبلُ تلك الحسابات، آذناً للقلوب أن تتحدد رغم الاختلافين الثقافي والجغرافي، ودون الأخذ في الحسبان لتفاصيل يختفي بها الشيطان حسب المثل الفرنسي. في هذا التحقيق الذي أجرته مجلة "ماروك أكتييل" عرضٌ لنماذج من قصص مغاربة حلقت قلوبهم إلى ما وراء الحدود، وبسطٌ للظاهرة من زاوية علم الاجتماع، سيما أن المسألة قد غدت تبرز بأرقام مهمة وسط المجتمع المغربي الذي كان المرء فيه إلى وقت قريب لا يجسر حتى على الاقتران بابنة البلدة المجاورة. من المؤكد أن الزيجات بين المغاربة والفرنسيين تحتل الصدارة بمعدل 5000 حالة زواج سنويا، بشكلٍ يوثق العرى التي وحدتنا ولا تزال تفعل منذ أمد طويل بفرنسا. علاوة على ذلك، تجدرُ الإشارةُ إلى أن الزواج المختلط ليسَ حكراً على الرجال. فما الذي يحفز يا ترى نساءًا ألغين الطابوهات من أمامهن على الارتباط بغير المسلمين ( من حيث الميلاد)؟ في تجاوزٍ لقاعدة شعبية مؤداها أن عدم تأبيد الاستعمار يقتضي تجنبَ الاقتران بفرنسيين؟ وحريٌّ بالذكر أن الروابط بين المغرب وفرنسا قديمة، وقد تم مد جسورها سلفاً منذ أجيال عدة. فالرعيل الأول من المثقفين الفرنكفونيين المغاربة أتوا بعدما أنهوا دراساتهم في الخارج إلى جانب ما جلبوا من أمتعة بحسناوات أجنبيات. وإن لم يعيشوا سعداء إلى حد ما، فقد أثمرت تلك الزيجات البنون. ومن جيل إلى جيل، تقوت النزعة حتى انزاحت أحكام مسبقة دئب على ترديدها قديماً، على سبيل الانتشاء. ليصبح الرجل الأجنبي والمرأة الأجنبية مرحباً بهما في الدائرة المغلقة للأسر الصغيرة بالمغرب كمظهر من مظاهر الضيافة الحاتمية. ليجد كل واحد منهم نفسهُ قد ألفى لدى الآخر ما لم يعثر عنه في المجتمع الذي ينحدر منه من قبيل: الجمال المختلف، أو الحرية، أوالعقل المنفتح، أو الغرابة أو قصة حبٍّ.. بكل بساطة. في المغرب، لا يتم الزواج بالفرنسيين فقط. فالتقارب الثقافي وتقاسم لغة واحدة ليست بالأسباب الوحيدة التي تحرك القلوب. إذ ان الزيجات المختلطة ذات طابع تعددي وديمقراطي. ونجدها من كل حدب وصوبٍ بين المغاربة والروس، أو المغاربة والإسبان، أو المغاربة والبولونيين، أو المغاربة والسنغاليين...ورغم أن الزواج بفرنسيين يبقى في الصدارة إلاًّ أنه أقل نجاحاً إذا ما قورن بالزواج بأفارقة خلافاً للأحكام الرائجة. رغم أن حالات الزواج بين مغاربة وأفارقة من جنوب الصحراء لا يتعدى خمس حالاتٍ كل عام. وعلى الرغم من التوتر السياسي بين المغرب والجزائر، تكللُّ الزيجات بين البلدين الحدوديين في الغالب بالنجاح لأن الحدود لم توضع إلا مؤخرا، والجنسية ليس من شأنها الوقوف عائقاً أمام تقوية أواصر العلاقة الزوجية. كما أن الشرق كان يشهد على زيجات كثيرة بين الوجديين وجيرانهم من الوهرانيين. إلى جانب ذلك، كانت الهجرة إلى فرنسا كفيلةً بتمتين الروابط بين الجاليتين المغاربيتين اللتين أحستا بوشائج القرابة في أرض الغربة. فالارتباط بجزائري شجاع ومستقيم كان يبدو مسألة حظوة. ليأتي في مقامٍ ثانٍ التونسيون والمصريون حسب عالم الاجتماع، حمادي بكوشي. فوزية وروبير.. لم يكن ليعن ببال يوسف، الصديق المشترك لروبير وفوزية، غداة تنظيمه حفلة عيد الميلاد بباريس في السابع عشر من سبتمبر عام 2002 أنه سيقلبُ حياة صديقيه رأساً على عقب. وكان الأصدقاء الثلاثة متعاونين مع شركة Paribas بالمغرب، وإن كان يوسف و روبير قد دأبا على تبادل الزيارات، فإن فوزية لم تكن لها أية صلة بروبير خارج إطار العمل. وقدغادر روبير الشركة عام 1989 بعد ثمانية أعوام من العمل بالمغرب عائداً إلى فرنسا، فيما ظلت فوزية إطاراً بنكيا بالبيضاء في الشركة المغربية للإيداع والقرض (SMDC)، "لم أكن راغباً في الذهاب إلى تلك السهرة" يقول روبير اليوم. ولم يكن يتصور كل من فوزية وروبير المطلقان آنذاك بأنهما سيتزوجان ذات يوم، وهما يقران أن القدر قد كتبَ عكس توقعاه. لم تمرَّ حفلة عيد الميلاد دون موعدٍ في اليوم الموالي، فبعد اتصالات ومواعيد "سرت الأمور بشكل مذهل" يقول روبير. وبعد تسعة أشهر اجتمعت العائلات والأصدقاء للاحتفاء بزفافهما. "تمنينا العيش معاً، تؤكد فوزية. إذ لم يكن من الممكن أن نعيش عشيقين خارج مؤسسة الزواج بالمغرب. ولأجل ذلك تزوجنا احتراماً للقانون، لكن ذلك تم عن حبٍّ بكل تأكيد". ترى فوزية أن مشكلة الزواج المختلط قد يكون مرده أحياناً إلى الدين، "فأنا أنتمي إلى ثقافة مسلمة بيد أنني لا أمارس الشعائر الدينية. وأعيش على الطريقة الغربية أكثر من عيشي على الطريقة المغربية، لكن ذلك لم يغير الشيء الكثير في حياتي" ويضيف روبير "لا أحد منا يمارس الشعائر الدينية" مؤكداً أنه رغم انتماء أحدهما إلى المسيحية والآخر إلى الإسلام إلا أن لديهما 'قيم الانفتاح والتعايش نفسها، وهي قيمٌ مشتركة بين الدينين". عادل وتزيفيتوميرا القيتُ بالنيجر الرجلَ الذي سيصبحُ ذات يوم زوجاً لي. كان عادل عام 2005 خلال الألعاب الفرنكفونية واحداً من بين أعضاء لجنة تحكيم مسابقة الرسم، قبل أن نلتقي مرات أخرى سيما بفرنسا. وفي 2007 كان على أن آتي إلى المغرب وأحضر أطروحة دكتوراه حول الفن المغربي، وقد بدت الفرصة ملائمة آنذاك لإيجاده مجدداً والارتباط رسميا. إنها قصة حبٍّ جميلة، لكن من الناحية الإدارية اعترضتنا عراقيل جمة، إذ يتعين علي أن أغادر التراب المغربي كل ثلاثة أشهر، لأننا لا نتوفر حتى الساعة على عقد زواج مغربي وليس بحوزتنا إلى عقد الزواج البلغاري، وقد بلغتُ درجةَ التفكير في مغادرة المغرب لو لم تحل المشكلة. لكن الأمر ليس بالواضح لأن لدى عادل التزاماته المهنية هنا، وهناك الأولاد أيضاً... من الناحية الثقافية، أقر أنني أجد بعض الصعوبات في التأقلم مع نمط الحياة المحلية. فخلال شهر رمضان مثلاً أضطر للإفطار بطريقة أو بأخرى، لأن الأكل أمام الناس يبدو محرجاً. كما أنني لا زلت أحاول التأقلم مع بعض العادات كعدم التزام الناس بالمواعيد بتأخرهم عن المجيء بساعة أو ساعتين. ولم يحصل وأن صدمت بمعية زوجي بصدمة ثقافية من ذلك القبيل. ولعل ذلك يرجعُ إلى كونه فنَّاناً، فالوسطُ الفني يتحدد بكونه فضاءاً مفتوحاً. أو ربما لأنه سافر كثيراً وعاش في الخارج...كنت أود ربط علاقة متينة بعائلته لأن جد مرتبطة بعائلتي لكن الأمر مختلفٌ. ولحسن الحظ أن دائرة الأصدقاء جد كبيرة ونشيطة، وهو ما يتيحُ لي قضاء العيد والأعياد الدينية وكأنني وسط العائلة. مع عالم الاجتماع، حكيم بكوشي: "المغربية تفضل البقاء في بلدها" كيف تنظرون اليوم إلى الزواج المختلط بالمغرب؟ الزواج المختلط آخذ في 'الدمقرطة' والتوسع ببلادنا، فخلال السبعينات والثمانينات كان الزواج المختلط حكراً على الرجال المغاربة الذين كانوا يتابعون دراساتهم في الخارج. وكانوا يتزوجون الفرنسيات على الخصوص، نظراً إلى كون فرنسا البلد المقصود آنذاك لمتابعة الدراسة، بالموازاة مع أسباب متصلة بالتقارب الثقافي، سيما الجانب اللغوي. ويأتي البلجيكيون في المرتبة الثانية، وبعدها الأمريكيون. ويعد معظم المنتمين إلى الفئة الأخيرة من ذوي المستوى الثقافي الجامعي، أو مهندسين معماريين، أو أطباء، أو أساتذة..وينطبق الأمر عينهُ على قريناتهم ما دام جلهم قد القتوا بمدرجات الجامعات. وينحدِرُ أولئك الشباب أساساً من وسطٍ ميسور، مع التأكيد أن البعض منهم ينحدر من أوساط متواضعة، لكن بفضل دراساتهم، ارتقوا إلى مرتبة أعلى. وكان عليهم أن يختاروا بشأن العودة إلى المغرب بجانب زوجاتهم اللائي لا يعرفن بطبيعة الحال الشيء الكثير عن الثقافة المغربية، ووطأت أقدامهن المغرب بحماس سائح يخوض مغامرة تتغيا اكتشاف الجانب الغرائبي في البلد، ورغم أن حلولهم بالمغرب تزامن مع سنوات الرصاص إلا أن ذلك لم يثنهم عن الاستقرار في المغرب. وبعد وصولهم صدموا بحقيقة غيرت جذريا الحياة الطلابية الناعمة التي عاشوها حتى ذلك الوقت. فحميمية الإقامة الجامعية اختفت لتفسح المجال أمام محاولات دؤوبة للانفصال. وقد اختارت الزوجات الصبر حتى يبلغ الأبناء سن الدراسات العليا، قبل أن يعدن إلى بلدانهن ليجد الرجال بالتالي أنفسهم وحيدين. وقد عمل الجيل الأول من الأزواج المختلطين في القطاع الإداري أكثر من عملهم في القطاع الخاص. منكفئين على أنفسهم في تجمعات أنشؤوها لأنهم لم يكونوا مغاربة كليا ولا أوربيين بشكل تام، وعاشوا اختلاطهم إلى حد كبير بشكل جيد يتعدى الجانب السيء في الأمر. ما الذي تغير منذ ذلك الوقت؟ كان الأزواج المختلطون في البداية مؤلفين من رجال مغاربة ونساء أجنبيات؛ وعليه يكون الرجال هم من سنوا ذلك المذهب. وعاشوا الثقافة المغربية بشكل اضطروا معه مثلاً للذهاب إلى المطعم إذا ما أرادوا أكلاً على الطريقة المغربية، كما لم يكن لدى الكثير منهم بهوٌ مغربي، ولم يكن استقبال الأم مثلاً ليتجاوز ثلاثة أيام في المنزل على سبيل المثال، واليوم مع دمقرطة الزواج المختلط، نساء كثيرات للغاية يقررن الزواج برجال من جنسيات مختلفة. لكن بين الجيل الأول وجيل اليوم مجموعة مغربية استطاعت تجاوز هوة كبرى. فقد رأينا عدداً كبيراً من النساء المغربيات يتزوجن بأجانب. ثم إن هناك موجة سيدات في مقتبل العمر ينحدرن من الطبقة المتوسطة (عاملات بوكالات الأسفار، وسكرتيرات) شرعن في الهجرة إلى الخارج عن طريق الزواج المختلط، وبناءاً عليه تكون المسألة قد أخذتْ منحىً مختلفاً. إذن فنحن نشهد في المغرب شكلا جديدا من اشكال الزواج المختلط عراباتها بالأساس نساء... بخلاف الرجال، نجد أن النساء يفرضن الثقافة المغربية في بيوتهن. كالطعام واللباس المغربيين. فهن في الغالب من يدرن العلاقة الزوجية. إذ يصبح الصالون المغربي لا محيد عنه وتأتي الأم لقضاء ثلاثة أيام قبل أن تمضي ستة أشهر مع ابنتها. وتعتمد جل المغربيات هذه المقاربة المؤثرة التي تجر أزواجهن للانغماس في عوالمهن. بيد أن من المغربيات من يفضلن العيش وفق نمط ثقافة الزوج. فيدخنن ويشربن على الطاولة...وأياًّ كان المستوى الثقافي للزوج، فإن المرأة هي التي تتحكم في شؤون البيت، وهذا الأمر واحد من بين الأسباب التي تجعلنا نرى بين الفينة والأخرى مغربيات يقترنَّ بغربيين قبل أن يأتوا للعيش في المغرب، أما بالنسبة إلى المغربي الذي يتزوج بأجنبية فغالباً ما يكون أفقه الذهاب للعيش في الخارج، بينما تفضل المرأة المغربية البقاء في بلدها. المجتمع آخذٌ في التطور، والزواج المختلط يأخذ أشكالاً أخرى...يبدو هذا بالأحرى شيئاً إيجابيا غير أن لهُ مخاطراً... لا يجب الوقوع في مغالطات، ف الزواج المختلط يأخذ أشكالاً أخرى، إذ ليست تلك الزيجات جميعها مبنية على حب. إذ هناك زيجات لا حب فيها و تبنى أساساً على صفقات. فبالقدر الذي قد تبدو به الفتيات متحفزات بفضل الوضعية المالية وانفتاح عقلية فرنسي في الأربعين من عمره أو أكثر، يلحُّ الفرنسيون من جانبهم على الزواج بتلك المغربيات بعد أسبوع من لقاء جمعهم بهن، وذلك للحصول على الأوراق في أقرب وقت ممكن. ونتيجة لذك؛ يتمُّ العرس المغربي دون أية مشاكل وإن كان إبرام العقد ثانية يجابهُ أكثر فأكثر بالرفض في القنصليات بدعوى تقدم سن الأزواج مقارنة مع عقيلاتهم إلا إذا كن أولات أولاد من أزواجهن. فالغرب يوصدُ بين الفينة والأخرى أبوابه أمام هذا النوع من الزيجات، لأن الزواج يعني مباشرة جنسية ممنوحة في ظرف سنوات، كما أن الغربيين المتزوجين بمغربيات والمستقرين في المغرب تحدوهم رغبةٌ لحذو حذو الإنسان المغربي بالتصرف بنزعة رجولية، فكما يغريهم دفءُ الثقافة المغربية تستهويهم الحميمية الغربية التي يودون حفظها بأي ثمن كان. وفي الختام، يجدون أنفسم يأخذون الجيد كما يأخذون السيءَ.