أولا:جدلية المسطرة والزرواطة(العصا) هندسة وتوظيفا ربما يبدو العنوان ممزوجا بشيء من الفكاهة والدعابة الثقيلة ،كمن يبكي في عرس ويضحك في مأتم ،خاصة وأنه يتناول مجازفة ،غير مضمونة سلامة الاستنتاج، في تناول الفكر السياسي والاجتماعي بالجمع بين المتقابلات والمتناقضات والرقائق والغلائظ مع حساب المسافات والمساحات التي تؤلف بينها أو تفصلها عن بعضها البعض... فهناك المسطرة وهي كما هو مشهور أداة للقياس الهندسي وضبط الزوايا والخبايا وتناول الخطوط العمودية والأفقية بدقة متناهية ،قد تفيد العقل وتنميه وتحسم الجدل حول الأرباع والأخماس التي تحدد عادة بالمعاينة العامية حيث الاختلاف ضروري والزيادة والنقصان قائم ولازم. هذه المسطرة من حيث قياسها قد تطول وتقصر بحسب طبيعة استعمالها والموضوع أو الموضع المخصصة لتوظيفها فيه.وهي إما ذات حجم رقيق أو هش ودقيق لحد الانكسار بمجرد محاولة اللي والطي أو الضغط اليسير على القمة أو القاعدة. لكنها مع هذا يمكنها أن تنتج لنا قوة بؤرية صلبة تهز الجبال ،حينما تستعمل في تحديد مركز الزوايا والمتواليات الهندسية وحساب الدائرات والأهرامات ،ابتداء من النقطة إلى آخر العمود... والمسطرة هنا – باختصار شديد- قد جاءت موصوفة بمصطلح عامي وشعبي له أثره النفسي وإيحاءاته السياسية والأمنية والتربوية الاجتماعية ،ألا وهي الزرواطة التي قد تعني بالعربية الفصحى: العصا لمن عصا، و توظف على عدة مستويات ولأغراض متفاوتة ،منها التوكؤ والاعتماد ومنها الترهيب والتأديب لتحقيق العدل بين بني الإنسان وأيضا بين بني الحيوان ،كما نص عيه القرآن الكريم مخاطبا سيدنا موسى عليه السلام:"ما تلك بيمينك يا موسى ؟قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى...". وعند مآرب أخرى قد يتفاوت طول وعرض العصا(الزرواطة)وامتدادها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا في تأدية وظيفتها للم شمل الأقاليم والجهات،لأن كل مأرب قد يختلف عن الآخر ،وهذه الاختلافات تتطلب توظيفا مناسبا من حيث الاستعمال، سيكون هدفه تحقيق تلك المآرب على وجه العدل والاتجاه الصحيح ،ولا يتأتى هذا إلا بمسطرة تحدد مسافة الاستعمال ودقته .بحيث لا يمكن توظيف الزرواطة القصيرة في موضع واسع ومديد أو مساحة شاسعة وفراغ بين وأكيد،وعلى العكس من ذلك فلا يكون استعمال الزرواطة الطويلة في مجال ضيق وحيز قصير لأنه سيكون إما إفراطا أو تفريطا إجرائيا وعدم مناسبة بين التوظيف ومحله ومقتضاه. والأنظمة السياسية أيا كان نوعها وأوجهها تقتضي توظيف هاتين الآلتين بالتلازم والضرورة ليتم الحكم على وجهه السليم بحسب تصور الحاكم ورغبته وانصياع المحكوم،إذ الحكم لا يسمى حكما إلا إذا مارس منطق الغلبة والقهر السلطاني ،كما كان يعبر عنه قديما،ومنطق الغلبة هذا يتطلب ضرورة عنصرين أساسيين في المعادلة وهما:الغالب والمغلوب،وبينهما تدخل المسطرة والزرواطة إما للاتكاء والاعتماد في توفير استمرارية حضور الحاكم ووظيفته ،وإما في الهش أو الردع ليبقى حكم الغلبة قائما ولا يدخل البلد في دائرة التسيب والفوضى الهدامة ... ثانيا:الأنظمة السياسية وتداخل الأغلفة الديمو- قتاتورية فسواء أكانت الديمقراطية هي النظام والاختيار أو الديكتاتورية فكلاهما يستعمل منطق الغلبة كقاعدة عامة ،لكن الفرق بينهما هو أن الديمقراطية توظف فيها الزرواطة على اختلاف الأشكال والأحجام وبمساطر متنوعة تنتهي كلها عند تحقيق الغلبة والقهر، ولكنها تبقى مع ذلك ذات هيبة مهزوزة وضعيفة الجدوى في عدة مواقف، خاصة إذا كان الفرق بين الأغلبية والمعارضة في الانتخابات ضئيلا أو أن الحكومات ذات طبيعة ائتلافية وتحالفات متناقضة لتحقيق النصاب في تولي زمام الحكم .إذ بقدر ما تأرجحت هذه الأغلبية بين الزيادة والنقصان فقد يكون استعمال المسطرة الزرواطية بحسبه ،ضعفا وترددا. لكن حينما تكون الأغلبية مطلقة فحينئذ تكشر حكوماتها عن أنيابها وتسعى لتمديد طول وعرض الزرواطة المستعملة لديها فتنقلب الديمقراطية المزعومة إلى دكتاتورية مقنعة تتصرف بغير إرادة الشعب ولا رغبته أو ومراعاة لمصالحه وأحواله المعيشية من تقشف وخصاصة،لأن الحكم قد أصبح يعرف استفرادا وانتهازا لقصر فترة الرئاسة والتولي من أجل استهلاك ما يمكن استهلاكه على أوسع نطاق وأبشعه ،وأهدره للمال العام وكذا للتاريخ والرأي العامين. كل هذا تحت مزاعم الحفاظ على مبادئ الجمهورية أو الحرية والديمقراطية كحصان طروادة وشماعة يعلق عليها كل إجراء فاشل وانتهازي ،والتي هي في حقيقتها ليست سوى حماية لمصالح الجهاز الحاكم وراء الظل ،والذي لا يمكن رؤيته ولا مقاومته ولا يمكن تخطي عتبته،ولكن يجب التسليم له كما يسلم الأغبياء لخفاء الجن وترهيبهم للإنس ،وهذا ما يمكن الاصطلاح عليه بحكومة الجن السياسي في النظام الديمقراطي.إذ مثلا في فرنسا يكون دائما الرجوع إلى عهد نابليون ومبادئ الثورة ،التي قد لا يرضى عنها الكثير من الفرنسيين أنفسهم،وأسس الجمهورية السادسة والخامسة وهكذا رجعية ،كما قد تفرض على الشعب قوانين حماية السامية ومعاقبة المعادين لها وحماية الأساطير الصهيونية حول الهولوكست بقمع الحريات الفكرية والبحث العلمي المخالف لتلك الموروثات ،كما حصل مع الفيلسوف المسلم الراحل رجاء غارودي وغيره،وكما يحصل مع قضايا الحجاب ومضايقة مطاعم الأطعمة الحلال وغيرها،وافتعال قضايا الهجرة والجنسية... ،بل قد يتخذ الرئيس بإيعاز من حكومة الجن السياسي قرارا بالحرب المخالف تماما لحرية الشعوب والدول في اتخاذ قراراتها بنفسها كما تزعم مبادئهم الجمهورية،وذلك لتحقيق أهداف شخصية أو تطلعات استعمارية وإمبريالية محضة ضد دولة صغيرة كليبيا مثلا أو ساحل العاج أو ما يحومون حوله من تهديد لسوريا وغيرها من بلدان عربية وإفريقية وآسيوية ...من دون الرجوع إلى مجلس الشعب ولا حتى التأني ومشاورة رؤساء الأحزاب وزعمائهم في بلدانهم. وأيضا، كنموذج لتهلهل القيم الديمقراطية عند الغرب وتزعزع المسطرة الزرواطية لديهم ما حدث مؤخرا من شغب ببعض مدن بريطانيا وأمريكا أيضا ،حيث وظفت الزرواطة بأقصى ما يمكن ،ولما لم تنفع الدفعة الأولى تقرر التهديد باستدعاء الجيش المدجج بالسلاح لاستعمال الزرواطة الغليظة التي لا تبقي ولا تذر وتدمي و تبكي على غرار الدكتاتوريات العامة، خطوة بخطوة وشبرا بشبر، من أجل الانفراد بالقرار والتمهيد للأغلبية المقبلة بالدجل السياسي ومزاعم ضبط الأمن والحفاظ على المصالح العامة.وحتى إن سقط هذا الحزب الحاكم فقد يصعد الحزب الآخر تحت دعم نفس حكومة الظل ودعم الجيش الذي هو ليس من الديمقراطية في شيء ،لأن جهازه لا ينتخب وأركانه لا تتبدل إلا لماما.وبهذا تتحقق نظرية ابن خلدون بأن"من طبيعة الملك الانفراد بالمجد" وهو في هذا الباب يؤسس لتآكل الأغلبية الائتلافية المكونة من أحزاب متعددة والتي كان يعبر عنها فيما قبل بالعصبيات كما يقول عنها:":وذلك أن الملك إنما هو بالعصبية ،والعصبية متألفة من عصبيات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى فتغلبها وتستولي عليها،حتى تصيرها جميعا في ضمنها...وتلك العصبية الكبرى إنما تكون لقوم أهل بيت ورياسة فيهم ،ولا بد أن يكون واحد منهم رئيسا لهم غالبا عليهم،فيتعين رئيسا للعصبيات كلها لغلب منبته لجميعها"المقدمة المكتبة العصريةص155. كما أن مكيافيللي قد ذهب في الباب الثالث من المطارحات إلى القول تطرفا -حيث لا نتفق معه في تعميم الوصف- :"أشار جميع كتاب السياسة ،عبر التاريخ الطويل إلى أن التاريخ حافل بأمثلة تقيم الدليل على أن من الضروري لمن يعد لجمهورية وتعلن فيها نظما ،أن يفترض أن جميع البشر خبثاء،وهم دائما على أهبة لاستخدام خبث نفوسهم حين تواتيهم فرصة خاصة لذلك .إن البشر لا يفعلون أي خير أبدا إلا بالضرورة ،ولكن هناك حيث تتوفر الحرية ،وحينما يمكن أن تكون لدينا فوضى ،يمتلئ كل شيء في الحال بالاضطراب وعدم النظام".الأمير ص8،دار الآفاق الجديدة. ثالثا:تأرجح العدالة بين الديمقراطية والدكتاتورية وهكذا فإن الديمقراطية لم تعد تمثل العدالة في صورتها المثالية ولا النسبية ،وإنما هي غلبة وأصباغ تطلى بها واجهات الحكومات للوصول إلى مصالحها الحزبية أو الفئوية والخوصصة الرأسمالية،حيث تكريس الطبقية الاجتماعية والتفاوت المادي واحتكار الاقتصاد وتأجيج العنصريات لكسب الأغلبية بالإعلام المزيف على حساب الأغمار والرعاع من الشعوب المغفلة أو المضطرة افتقارا لتقبل هذه الشعبذة السياسية بحكم الواقع والظروف. يقول طه حسين عن تداخل زرواطة الديمقراطية مع الدكتاتورية:" ثم عرفت الإنسانية نظاما من نظم الحكم ظنت أنه من خير النظم وأرقاها وأقومها وأمثلها وأجدرها أن يحقق العدل السياسي والاجتماعي بين الناس ،وهو هذا النظام الذي يرد إلى الشعب أمور الشعب يصرفها كما يشاء ويدبرها كما يجب ،ولكن الإنسانية جربت هذا النظام فنالت به قسطا من العدل ،ولم تنل العدل كله،بل لم تنل به من العدل إلا أيسره وأهونه شانا،فلم يتح للناس إلى الآن أن يتفقوا على رأي ولا أن يجتمعوا على هوى،و لا أن تتحد لهم كلمة أو يلتئم لهم شمل ،وهم من أجل ذلك يردون أمر الشعب إلى الشعب في ظاهر الأمر ثم لا يصنعون من ذلك شيئا في حقيقة الأمر،يستفتون الشعب في أمره ،فإذا كان الاختلاف أنفذوا أمر الكثرة وأهدروا أمر القلة ،وأتاحوا بذلك للكثيرين أن يستذلوا الأقلين ،أو أن يحكموهم على غير ما يريدون،ولو قد ضمن للأكثرين أن يحكموا أنفسهم وأن يحكموا الأقلين لكان هذا النظام مقاربا للعدل مباعدا للظلم المنكر إلى حد ما ،ولكن الأكثرين لا يحكمون بأنفسهم،ولا سبيل إلى أن يحكموا بأنفسهم،فهم يكلون أمر الحكم إلى ممثلين لهم يختارونهم لذلك اختيارا ويكلفونهم بذلك تكليفا، يخلص هذا الاختيار في نفسه من العنف والإغراء ،ومن الرغب والرهب،ولا يخلص،ولكن ليس من شك في أن هؤلاء الممثلين الذين تكل الكثرة إليهم أمور الحكم،ناس من الناس،فيهم القوة وفيهم الضعف،وفيهم الشدة وفيهم اللين،وفيهم القناعة وفيهم الطمع،وفيهم الإيثار وفيهم الأثرة ،فهم معرضون لأن يجوروا عن القصد،وينحرفوا عن الطريق ،ويحملوا أنفسهم ويحملوا الناس معهم على غير الجادة ،ويتورطوا كما تورط الملوك المستبدون ،وكما تورطت الأرستقراطية المستأثرة ،وكما تورط الطغاة المستعملون ،في الظلم والجور"الفتنة الكبرى،إسلاميات منشورات دار الآداب ج1ص663-634. هذا هو التوصيف الواقعي للديمقراطية والديمقراطيين والذين قد لا يختلفون عن الدكتاتوريين إلا بالمسطرة الزرواطية وأساليب استعمالها بحسب الأغلبية والقرب أو البعد من الاستفراد بالملك. وإذا كانت الديمقراطية في علاقتها بالعصا وضبط الأمور من أجل تحقيق الاستقرار والصالح العام قد تصيب وتخطئ عند استعمال الزرواطة واختلال المسطرة عند القياس فإن الأولى أن تستعمل زرواطة واحدة على مسافة شاملة لكل الاحتمالات فتصيب دائما الهدف من حيث الضبط وتحقيق الاستقرار.وهذه هي الدكتاتورية بصورتها السلبية حينما تصبح زرواطة محضة من أجل الغلبة والقهر ،لكن حينما تكون زرواطة ممزوجة بميزان العدل وتحقيق الضروري من مستلزمات الحياة ومقتضيات العمران فإنها قد تصبح أفضل بكثير مما نراه من زروطات قاصرة باسم الديمقراطية المؤدية إلى التسيب وسلب الهويات وتجاوز الأخلاق وطهارة الأعراق.ولقد عبر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عن الحكم والسبل إلى تحقيق التأديب واستعمال الزرواطة المناسبة له بقوله:"من لم يؤدبه الشرع فلا أدبه الله".ويعلق عليه بان خلدون بأن هذا القول جاء حرصا على أن يكون الوازع في الحكم والتعامل مع الأحكام لكل أحد من نفسه ويقينا بأن الشارع أعلم بمصالح العباد.وبهذا فكان هذا التأديب بديلا عن استعمال الزرواطة غليظها ورقيقها طويلها وقصيرها،مع العلم بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد استعمل كما هو مشهور عنه درة في التأديب وهي عود صغير لا يكسر ولا يؤلم، لكنه مخيف قد كان يهابه كبار القوم،بالرغم من تعليقه، لملازمته للحاكم النموذجي الذي كان يقيم العدل عمليا حينئذ ،ألا وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ناهيك عن أن الزروطات الديمقراطية في البلدان العربية وغيرها مما يسمى بدول العالم الثالث قد تقبع بدورها تحت زرواطة طويلة وعريضة هي التي تحدد لها مساطر استعمال زروطاتها الوهمية والضعيفة ،وذلك تحت تهديد ضربات الناتو والأحلاف الصهيونية والإمبريالية،وكفى بها هوانا من زروطات ومساطر لا تحترم قيمة الهندسة ولا الحساب الصحيح.إذن ففي النهاية ليس هناك سوى دكتاتورية واحدة وبأسماء مختلفة مستعارة،وهذه هي طبيعة الحكم ومقتضياته نحو المجد والاستفراد ،إذا لم يضبط بضابط الشرع والأخلاق ،كما نظر له ابن خلدون وغيره من حكماء العالم في باب السياسة والمجتمع...