حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    قيوح يشرف على تدشين المركز اللوجيستيكي "BLS Casa Hub" بتيط مليل    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقوق الإنسان تسمو فوق الديموقراطية
نشر في هسبريس يوم 30 - 10 - 2011

أثير النقاش منذ مدة حول مسألة الديموقراطية بالمغرب بين مجموعة من التوجهات الفكرية السياسية والثقافية أسفر عن بعض الديناميكية وتبادل الآراء. وبغض النظر عن كون كل طرف متمسكا بآرائه، فإن الغائب الأكبر عن الحوار كان هو موضوع حقوق الإنسان. وقد غرقت أطراف الحوار في السجال حول مفهوم الديموقراطية وسبل التغيير وضرورات المرحلة، بينما لم يلتفت أحد إلى مسألة حقوق الإنسان بالإنتباه الذي تستحقه. ويبدو أن الكثيرين من السياسيين والمثقفين ينظرون إلى مسألة حقوق الإنسان على أنها "كلام جمعيات ونشطاء" فقط، أي أنه لا مكان لها في السياسة وتنظيم المؤسسات.
نحن نعلم أن أصحاب اليسار العلماني يتبنون حقوق الإنسان بشكل كامل لا جدال فيه، إلا أنهم يفشلون في كل مرة في لفت الإنتباه إليها، ويغرقون في مستنقع "تحديد ماهية الديموقراطية" وكيفية التخلص من دولة الفساد والإستبداد. فيتحول الحوار إلى ضباب كثيف يتفق فيه الجميع على لعن الفساد والإستبداد وهجاء المخزن وعلى مدح الديموقراطية وتعداد فضائلها، ولكن دون أن يتضح للناس أن حقوق الإنسان هي البديل المضاد لفكر الإستبداد والخضوع.
أما أصحاب اليمين الإسلامي الذين نعلم شدة ارتباكهم واضطرابهم في مسألة حقوق الإنسان، فينجحون في صرف النقاش عنها تماما ونقله إلى ضباب الآلية الديموقراطية ومحاربة "الفساد والمفسدين" والدفاع عن "الخصوصيات" و"الثوابت"، حيث المجال خصب للعنتريات البلاغية والكلمات الحماسية. أما في الحالات القليلة التي تتم فيها مواجهتهم بمسألة حقوق الإنسان فيكون ردهم إما بالهروب إلى الأمام باقتراح "تأجيل النقاش إلى فترة لاحقة" و"ضرورة التلاحم في المرحلة الحالية"، وإما يكون بهروبهم إلى الوراء بإشهار ورقة "الخصوصيات" و"الخطوط الحمراء" وأن "الشعب لن يفرط في ثوابته"...إلخ.
الديموقراطية هي آلية لتدبير التعدد والإختلاف:
هناك تعريفات كثيرة للديموقراطية، ولعل أقربها إلى الصواب (أي إلى العقلانية ومبادئ حقوق الإنسان المترتبة عنها) يمكن أن نلخصه في أن: الديموقراطية هي آلية لتدبير الإختلاف في الآراء والمصالح بأقل الأضرار الممكنة مع صون حقوق كل الأطراف.
وفي سياق الحكم وتدبير الدولة (في صيغته الأكثر شيوعا) نترجم التعريف السابق كالتالي: الديموقراطية هي تطبيق برنامج الأغلبية مع حفظ حقوق وحريات الأقلية والأغلبية.
حقوق الإنسان هي المبادئ التي تضمن التعدد والإختلاف:
وإذا كانت الديموقراطية هي الآلية، فحقوق الإنسان هي العقلية. إنها المبادئ التي عليها تتأسس الممارسة الديموقراطية بل ويتأسس عليها أي سلوك فردي أو جماعي أخلاقي سليم بوجود الدولة أو بعدمه.
الديموقراطية هي الآلة والأداة أما حقوق الإنسان فهي البرنامج ودليل الإستخدام.
الديموقراطية هي الجسد والمادة أما حقوق الإنسان فهي الروح والحياة.
الديموقراطية أشكال وأنواع أما حقوق الإنسان فهي نوع واحد:
يمكن تطبيق مبادئ حقوق الإنسان عبر مجموعة من الصيغ والممارسات داخل وخارج المؤسسات والأنظمة الديموقراطية. ولا يمكن الزعم بأن حقوق الإنسان يمكن تطبيقها عبر نظام وحيد بعينه. ومن بين بعض التطبيقات الممكنة لحقوق الإنسان في تدبير الشأن العام:
-الديموقراطية التمثيلية Representative democracy: وهي أكثر أنواع الديموقراطية شيوعا وهي تتلخص في أن الشعب يختار دوريا عددا من ممثليه في البرلمان والسلطة التنفيذية والقضاء لكي ينوبوا عنه في تدبير الموارد والثروات وإدارة المؤسسات وحماية حقوق الإنسان. حيث أن الأغلبية المنتخبة تتولى عادة أمور البلاد نيابة عن الشعب بينما تنشغل الأقلية بالمراقبة والنقد نيابة عن الشعب أيضا.
-الديموقراطية التوافقية Consensus democracy: وهذا النوع من الديموقراطية هو تنويع من تنويعات الديموقراطية التمثيلية، إلا أنها تتميز عنها بتراجع أسلوب الصراع السياسي بين الأقلية والأغلبية وتعويضه بالتوافق والحكم الجماعي والأخذ بأكبر عدد ممكن من الآراء وإشراك الأقلية المنتخبة في الحكم أو في السياسات الكبرى.
-الديموقراطية المباشرة Direct democracy: هنا يتخذ أفراد الشعب القرارات والخيارات بأنفسهم ولا ينتخبون من يمثلهم. ويكون اتخاذ القرارات عبر استفتاءات دورية منتظمة أو تجمعات أسبوعية أو شهرية على مستوى البلديات مثلا. أما المؤسسات العمومية فتنحصر وظيفتها في تنفيذ ما يقرره الشعب. ولا يحق لها اتخاذ أية قرارات كبرى دون الرجوع إلى استفتاء الشعب.
-اللاسلطوية Anarchism: اللاسلطوية ترفض وجود الدولة وأي شكل من أشكال المؤسسات والقوانين السلطوية رفضا تاما. اللاسلطوية تفترض أن الناس قادرون تمام القدرة على العناية بأنفسهم وتدبير أمور حياتهم والتعاون فيما بينهم بدون الحاجة إلى وسيط (الدولة) أو إلى مؤسسات عمومية سلطوية أو إلى دفع الضرائب.
-النظام اللامركزي أو الفدرالي Federalism: النظام الفدرالي يتبنى عادة الديموقراطية التمثيلية ولكنه يتميز بتقليص سلطات مركز الدولة إلى أدنى حد ممكن وإعطاء أقصى حد ممكن من السلطات والصلاحيات للمناطق والمدن التي تملك برلماناتها وحكوماتها ومحاكمها. فلسفة هذا النوع من الحكم هي أن الشعب لا يحتاج إلى وصاية المركز ولا إلى أوامره وأن السكان المحليين أدرى بمصالحهم.
أما حقوق الإنسان فلا توجد فيها أنواع ولا أصناف، فهي مبادئ كونية موحدة ليست لها نكهات ثقافية أو فلكلورية كما هو الحال مع أنظمة الحكم. فالحق في الحياة والحرية والأمن والفكر والرأي والتعبير والمعتقد والتدين والتنقل والتجمع والتملك والخصوصية وتكوين أسرة والتعليم والعيش الكريم هي حقوق متطابقة في أذهان كل الحضارات والشعوب. ولا يوجد شعب يفسر الحق في العيش الكريم أو الحق في حرية التعبير مثلا تفسيرا مختلفا عن بقية الشعوب.
الديموقراطية بدون حقوق الإنسان تؤدي إلى الديكتاتورية والتسلط:
الديموقراطية المبنية على حقوق الإنسان تؤدي عادة إلى تأسيس نظام حكم حر ديموقراطي يطبق برنامج الأغلبية ويحمي حقوق وحريات مجموع الشعب. إلا أن التاريخ يحفظ لنا نماذج من دول تحولت إلى ديكتاتوريات عبر صناديق الإنتخابات، أي عبر الآلية الديموقراطية. والسبب في ذلك الإنحدار ليست الآلية الديموقراطية نفسها، وإنما السبب كان دائما هو ارتخاء الوعي بحقوق الإنسان وضعف وعي الشعوب بحقها في الحرية أو جبنها عن الثورة والعصيان ضد سوء استخدام السلطة مما يؤدي إلى تراكم الممارسات السلطوية وتحولها إلى نظام استبدادي استعبادي مقدس. إذن فكلما ضعف الوعي بالحرية وحقوق الإنسان قويت شوكة الإستبداديين والفاشيين والإنتهازيين وسهل عليهم حكم الشعب واستعباده. وكثيرا ما يسوغون حكمهم بمسرحيات ديموقراطية أو بشرعيات دينية أو عرقية. وكثيرا ما نجد أعتى الأنظمة الديكتاتورية حريصة على استخدام مصطلحات "الديموقراطية" و"الجمهورية" في شعاراتها ودعاياتها وقوانينها وأسمائها الرسمية. فالإسم الرسمي لكوريا الشمالية هو "الجمهورية الديموقراطية الشعبية الكورية" وكوبا هي "الجمهورية الكوبية" وسوريا هي "الجمهورية السورية" ولكن هذه الدول الثلاث ما هي في الحقيقة إلا أنظمة ملكية دكتاتورية يتم تداول الحكم فيها بالتوارث العائلي مثل أية مملكة تحترم نفسها!
وأشهر مثال على الإطلاق في خروج الدكتاتورية من رحم الإنتخابات هو وصول الحزب النازي الألماني إلى السلطة بعد فوزه في الإنتخابات بنسبة 44% عام 1933 ووصول أدولف هتلر إلى الحكم بشكل قانوني 100%. لقد كان الشعب الألماني قادرا في كل لحظة على العصيان والإطاحة بالنظام حينما تبين له الوجه الحقيقي للحزب النازي، ولكن ذلك لم يحدث لأن الشعب كان مرعوبا من آلة القمع الجهنمية وغافلا عن حقوق الإنسان ومبادئ الحرية والمساواة، ومخدرا بالشعارات المزيفة والدعايات المتقنة، خصوصا وأن الحزب النازي نجح في خفض نسبة البطالة إلى 0% بفضل تشغيل كل الشباب العاطل في الجيش الألماني العرمرم ومصانع السلاح.
المثال الثاني هو فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الإنتخابات البلدية الجزائرية عام 1990 بنسبة 54% وفوزها في الدورة الأولى من الإنتخابات التشريعية عام 1991 بنسبة 48%. لعب الإسلاميون كعادتهم على المشاعر الدينية لدى الشعب وساعدتهم الأزمة الإقتصادية والسخط العام على فساد النظام وتسلطه وحرب الخليج. أعلن الإسلاميون عن رغبتهم في تأسيس دولة دينية تطبق الشريعة ورفضوا مظاهر الحضارة الحديثة (الإختلاط، عمل المرأة، الفن...). وتراوحت مواقف الزعماء الإسلاميين بين القبول بالآلية الديموقراطية (عباسي مدني) واعتبار أنه "لا ديموقراطية في الإسلام" (علي بلحاج). لم يستسغ جنرالات الجزائر صعود أي منافس سياسي قوي يزاحمهم في الحكم ورفضوا السماح بتأسيس دولة دينية وألغوا نتائج الإنتخابات وتم اعتقال الإسلاميين بالآلاف. فانطلقت الحرب الأهلية وأعمال التقتيل الإرهابي الشنيع التي لم يسلم منها حتى الرضع والأطفال والنساء الحوامل والتي ارتكبتها الجماعات الإسلامية المسلحة وربما بعض عناصر الدفاع الذاتي والأمن والجيش الجزائري.
المثال الثالث هو وصول رجال الدين إلى السلطة في إيران على ظهر الثورة الإيرانية عام 1979 وتأسيسهم لدولة دينية بوليسية ذات نظام انتخابي مسيطر عليه لا يسمح إلا لمؤيدي أيديولوجيا النظام بالمشاركة في الإنتخابات، ويمنع الأيديولوجيات والتوجهات الأخرى من المشاركة والتعبير عن الرأي.
نستنج من كل هذا أن الآلية الديموقراطية الإنتخابية لا تحمي الشعب من شبح الدكتاتورية والفاشية والتسلط والفساد إلا حينما تكون مؤسساتها مبنية على مبادئ حقوق الإنسان، وحينما يكون الشعب مستعدا للدفاع عن حقوق الإنسان ورافضا للمساومة حولها جملة وتفصيلا في أوقات الرخاء والشدة على السواء.
حقوق الإنسان في حد ذاتها نفي مطلق للدكتاتورية والتسلط:
حقوق الإنسان ليست شيئا فيزيائيا ملموسا. لا يمكن أن نجدها في البرلمان أو في صناديق الإقتراع أو محروسة في قلعة عسكرية. وإنما هي قيم وسلوكات ومبادئ عقلانية إنسانية بسيطة واضحة لا لبس فيها ولا غموض توجه طريقة تعامل الإنسان مع المجتمع وخصوصا مع من يختلف معهم. وحقوق الإنسان ليست مرتبطة بمصالح نسبية أو فئوية ولا بمؤسسات ولا بأديان ولا بثقافات وإنما هي مبادئ إنسانية مطلقة تنطبق على كل إنسان في كل زمان ومكان.
ولاشك أن حجر الزاوية في حقوق الإنسان هي: الحرية. فهي أصل كل المبادئ والحقوق الأخرى. إن حرية وحقوق أي إنسان تنتهي حيث تبدأ حرية وحقوق أخيه الإنسان.
كل دولة تحترم حقوق الإنسان هي بالضرورة دولة حرة ديموقراطية:
لا توجد في العالم دولة تحترم حقوق الإنسان إلا وتمتلك نظاما مجتمعيا مزدهرا. ويظهر لنا جليا أن الإلتزام بحقوق الإنسان يؤدي مباشرة إلى تأسيس أنظمة ديموقراطية أو مجتمعية حرة وناجحة.
حقوق الإنسان ليست اختراعا يخص حضارة بعينها وإنما هي نتاج لمساهمات كل الحضارات الإنسانية بدون استثناء. واليوم يسود انطباع خاطئ بأن حقوق الإنسان "شيء" أوروبي أمريكي، لسبب بسيط هو أن تلك البلدان سبقت إلى تبني حقوق الإنسان في مجتمعاتها وأنظمتها الديموقراطية ومازالت تطبق تلك المبادئ بشكل أفضل من معظم بقية مناطق العالم. حينما نذكر "الدول الديموقراطية" أول ما يتبادر إلى الذهن: أوروبا وأميريكا. ولكننا ننسى أن اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والهند وبوتسوانا وجنوب أفريقيا دول حرة ديموقراطية تضاهي أميريكا وبريطانيا وألمانيا وهولندا في الديموقراطية والإلتزام بحقوق الإنسان.
كل دولة لا تحترم حقوق الإنسان هي بالضرورة ليست دولة حرة ديموقراطية:
لا توجد دولة منتهكة لحقوق الإنسان تمتلك مؤسسات ديموقراطية حقيقية. ونلاحظ بكل وضوح أنه كلما كانت مواقف دولة ما من حقوق الإنسان سلبية أو مراوغة وقوانينها منتهكة لحقوق الإنسان كلما كانت مؤسساتها أقل ديموقراطية وعدالة. فدول إيران وروسيا وباكستان والجزائر والمغرب هي بعيدة كل البعد عن الديموقراطية والعدالة والحرية لأنها تنتهك حقوق الإنسان، وذلك رغم وجود انتخابات منتظمة فيها وهامش من حرية الصحافة والتعبير. وقلة احترام حقوق الإنسان فيها يجعل تلك الإنتخابات و"المظاهر الديموقراطية" روتينا فارغا من المضمون.
أما دول تركيا وإندونيسا وماليزيا مثلا فرغم أنها سائرة على الطريق الصحيح وجادة في تطبيق حقوق الإنسان فهي ما زالت لم تكمل مشروع دولة حقوق الإنسان. ولذلك فمؤسساتها الديموقراطية ما زالت تعاني من بعض النقائص والعيوب بسبب عدم تطبيقها الكامل لحقوق الإنسان، حيث يوجد بها بعض التضييق على الأقليات وعلى حرية المعتقد والتعبير.
من يرفض حقوق الإنسان يرفض الديموقراطية والمساواة:
حقوق الإنسان لا تؤخذ إلا كاملة. إنها مسألة مبدأ. أما الإستثناءات والتحفظات فتفتح الباب على مصراعيه لرفض أي حق من حقوق الإنسان أو "إعادة النظر فيه" (تحت مبرر حماية الأمن الوطني أو الأمن الروحي أو هيبة الدولة) وبالتالي تفتح الباب على مصراعيه للشروع في تأسيس دولة الإستبداد المبنية على مؤسسات تحرس "الإستثناءات" و"التحفظات" و"الخصوصيات" و"الخطوط الحمراء" وتقنن طريقة تفكير الناس وتعبيرهم وحياتهم.
الحوار حول الديموقراطية والمساواة يبدأ وينتهي بحقوق الإنسان:
إن الإمتحان الحقيقي لمن يتكلمون حول الديموقراطية والحرية والمساواة والعدالة هو موقفهم من حقوق الإنسان. اِسألهم عن موقفهم من حقوق الإنسان وستعرف فورا نوع الحكم التي يريدون تأسيسه.
اِسألهم عن ما إذا كانوا يقبلون بحقوق الإنسان كاملة غير منقوصة كما متعارف عليها عالميا بين الشعوب الحرة المتحضرة في إطار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أم أنهم يراوغون هنا وهناك ويقيمون الإستثناءات والتحفظات عليها، وستعرف فورا نوع الديموقراطية التي يريدون.
أما الحوار حول الديموقراطية ومؤسساتها وآلياتها وميكانيزماتها وآفات الفساد والرشوة واللصوصية والإغتناء اللاقانوني الفاحش فهو (رغم أهميته) حوار متشعب لا رأس له ولا رجلين. إنه بلا بداية ولا نهاية. هذا الحوار الآن يعالج التفصيلات الجزئية التافهة مثل كيفية تنظيم الإنتخابات، أو كيفية التوعية ضد الرشوة، أو كيفية حماية المِلك العام، أو السلوكات اللاديموقراطية داخل الأحزاب والنقابات، أو استعمال المال في الإنتخابات، أو طريقة إعداد اللوائح الإنتخابية، أو قضية تحكم وزارة الداخلية في اللعبة الإنتخابية، وكيفية منع الدولة واللوبيات الإقتصادية من التأثير في الإنتخابات...إلخ. لا يمكن للحوار حول الديموقراطية أن يكون فعالا دون أساس فكري صلب يتمثل في مبادئ حقوق الإنسان.
وكل مظاهر فشل النظام (التزوير، القمع، الفساد، الكذب، استغلال المِلك العام...) إنما هي أعراض ناتجة عن المرض الأصلي المتمثل في فساد منظومة القيم السائدة لدى الشعب والدولة. فتزوير الإنتخابات واستعمال المال هي أعراض ناتجة عن مرض نقص الوعي بحقوق الإنسان مما يؤدي إلى سيطرة النزعة السلطوية لدى رجال الدولة وظهور أعراض الخضوع للسلطة والمال لدى الشعب. ولا تنفع محاولة علاج تلك الأعراض المرضية بالوعظ والصراخ واستصدار القوانين (التي يتقن الجميع التكيف معها والقفز عليها)، وإنما يجب علاج المرض الأصلي (وليس الأعراض) باستئصال أورام منظومة القيم الفاسدة السائدة لدى الدولة والشعب، وتعويضها بمنظومة قيم حقوق الإنسان.
دكتاتورية الأغلبية ودكتاتورية الأقلية:
ما معنى الدكتاتورية؟ الدكتاتورية هي إملاء الأوامر والنواهي على شخص أو شعب ونزع حريته وإرادته جزئيا أو كليا. الدكتاتورية يمكن أن تمارس من طرف شخص واحد، أو من طرف جماعة أو فئة معينة، أو من طرف أجهزة الدولة، أو من طرف أغلبية عددية، أو من طرف أقلية عددية توفرت لديها وسائل القوة التي تلغي تأثير التفوق العددي لدى الأغلبية.
مهما كان من يمارس الدكتاتورية (سواء كان شخصا أو حزبا أو دولة) فإن طبيعة الدكتاتورية لا تتغير. إنها اعتداء على حقوق الإنسان واغتصاب للحرية. ولا يشفع للأغلبية حينما تمارس الدكتاتورية وتنتهك حقوق الإنسان أنها أغلبية، بل إنه عذر أقبح من ذنب. فمن مسؤوليات القوي أن يعترف بحقوق الضعيف كاملة غير منقوصة لا أن يسحقه بسبب أنه ضعيف!
لا يوجد فرق بين دكتاتورية الأغلبية ودكتاتورية الأقلية فكلاهما ينتهك حقوق الإنسان. إن حقوق الإنسان ليست مجالا للمساومة السياسية ولا للتأويل المؤدلج ولا للموازنة العددية، لأنها قيم مطلقة مملوكة لكل إنسان فرد، وهي غير قابلة للتأميم أو المصادرة أو الإحتكار أو المساومة.
مشكلة الكثيرين هي أنهم يخلطون بين حق الأغلبية في تنفيذ برنامجها السياسي أو الإقتصادي وبين حق كل الشعب في الإحتفاظ بحرياته وحقوقه الإنسانية كاملة غير منقوصة. إن أي برنامج سياسي يمس بحريات وحقوق الإنسان الفردية أو الجماعية، ما هو إلا برنامج دكتاتوري استبدادي بقناع ديموقراطي.
حقوق الإنسان أسمى من الديموقراطية:
نستنتج مما سبق أن حقوق الإنسان هي قيم ومبادئ معنوية كونية مطلقة مملوكة لكل إنسان. أما الديموقراطية فما هي إلا تطبيق من تطبيقات حقوق الإنسان. ولهذا فإن حقوق الإنسان هي التي يجب أن نأخذ بها وحدها في بناء الدولة الديموقراطية، وهي التي نرجع إليها كلما ظهر خلل في بنية الديموقراطية ومؤسساتها.
ولهذا فإن حقوق الإنسان تسمو فوق الديموقراطية من حيث الدرجة ومن حيث الطبيعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.