"وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" يرتبط مضمون المجتمع المدني في الممارسة بالعمل التطوعي الذي يروم خدمة أفراد المجتمع في مناحي حياتهم الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والتوعوية، والتأثيرية خدمة للصالح العام، وحفاظا على تضامن المجتمع وتكافله. ويمكن للمجتمع المدني أن يكون مراقبا للمجتمع السياسي من خلال التوعية بمضامين المقررات السياسية المتبعة والنهوج المرتبطة بها، قصد إقدار المواطن على التعرف إلى حقوقه وواجباته، ومن تم إلجام الحقل السياسي والضغط عليه حتى لا يغدو المواطن قطيعا يساق من دون وعي بما يجب أن يكون مما ينبغي ألا يكون. ومن تم، يصبح صلاح الحقل السياسي رهينا بقدرة المجتمع المدني، من خلال منظماته غير الحكومية، على المراقبة والتعديل والتوعية والتنشيط والتعزيز والكبح. ينتظم المجتمع المدني مجموع المنظمات والهيئات غير الحكومية في شأن الحياة العامة ذات الصبغة التطوعية مطلقا، والتي لا تهدف إلى ربح مادي كيفما كان الحال، كما لا تهدف الوصول إلى مراكز القرار السياسي، بينما تظل اهتماماتها اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو دينية تخدم أفراد المنظمة أو غيرهم. ويتعلق المجتمع المدني أساسا بالمجتمعات الديمقراطية الحديثة، ويعتبر مقابلا للمجتمع السياسي الذي يسوس المجتمع عبر سلطتيه التشريعية والتنفيذية، فالمجتمع المدني يهم المواطن والمجتمع السياسي يتعلق بالدولة. ومنه، لا يمكن الحديث عن مجتمع مدني في حضن مجتمع قبلي لأن شروط بنائه غير واردة، كما لا يمكن الحديث عن مجتمع مدني في ظل حكم ديكتاتوري لا يؤمن بالتعددية والتدبير التشاركي في معالجة القضايا المجتمعية؛ إذا نخلص إلى أن المجتمع المدني هو مجموع المنظمات والهيئات التي تهتم بالحياة العامة داخل مجتمع ديمقراطي حداثي، وتشتغل إلى جانب المجتمع السياسي من خلال التدبير التشاركي في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها. ويمكن أن نشير إلى منظمات المجتمع المدني من قبيل جمعيات الرفق بالحيوان، وجمعيات حماية المستهلك، وجمعيات الدفاع عن حقوق النساء، وجمعيات حقوق الطفل، والجمعيات الرياضية، والوداديات، والتعاونيات الفلاحية والصناعية، وجمعيات المحبين، والجمعيات الثقافية، والاتحادات، والنقابات، والرابطات، والنوادي... تنبئ هذه المنظمات على التحول الذي عرفه المجتمع من مجتمع تقليدي محافظ يستطيع أن يلبي حاجاته الاجتماعية من خلال تدخل الأسرة أو العائلة أو القبيلة أو الفخدة أو الأفراد الذين يملكون رساميل رمزية يستطيعون من خلالها خدمة الصالح العام، وهم الذين كانوا يشكلون في المجتمع القبلي أهل الحل والعقد في الأمور الاجتماعية: منهم شيوخ الزوايا والفقهاء والعلماء وشيوخ القبائل وذوو الحظوة بين الناس. هؤلاء كانوا يقومون بمثل ما يقوم به المجتمع المدني في حياتنا المعاصرة. لكن التطور الذي يشهده المجتمع المنتقل من مركزية الجماعة إلى مركزية الفرد، ومن العائلة الممتدة إلى العائلة النووية، وفي نهاية تامة للنماذج التقليدية في الحفاظ على الحياة العامة، أصبح لا مناص للفرد في معالجة القضايا الاجتماعية من اللجوء إلى المؤسسة. ومنه، أصبح العمل التطوعي اليوم مؤسسيا تبعا لطبيعة المجتمع المعاصر الذي لم يعد يؤمن بالرساميل الرمزية للأفراد والأعيان الذين أشرنا إليهم في التأثير في الحياة العامة. ويرتبط المجتمع المدني أيضا بقدرة الأفراد على تجاوز حاجاتهم الخاصة إلى حاجات الآخرين، والمقصود بذلك قدرة عدد من الأفراد على خدمة الصالح العام بدل المصلحة الفردية عن طريق التطوع. لهذا تفترض هذه الغاية مجتمعا ديمقراطيا وحكامة جيدة يستطيع فيها كل فرد التعبير عن قدراته في خدمة المجتمع عبر المؤسسات الاجتماعية الكفيلة بذلك والتي يحضنها المجتمع المدني بالخصوص. فمن خلاله يتم التقليص من هيمنة الدولة على المؤسسات، لتترك فسحة للأفراد للمشاركة في الحياة العامة، حيث إن هيمنة الدولة على الحياة العامة هو نفي للمجتمع المدني، وتكريس للدكتاتورية، ونزع لقيم الحداثة والديمقراطية. وترجع أسباب اهتمام الدول العربية بالمجتمع المدني في الآونة الأخيرة واعتباره قاطرة للنمو إلى عدم قدرة الدولة نفسها من خلال مؤسساتها الحفاظَ على مؤشرات النمو، إذ أصبح باديا للعيان أن الدول لا تستطيع بالاعتماد على مواردها المخصوصة من ضمان التنمية الشاملة للحياة الاجتماعية، خاصة إذا عرفنا أن أسس مؤشر التنمية تحدد من خلال عناصر مهمة في النسيج الاجتماعي. يتعلق الأمر بالتعليم والصحة ومستوى الدخل الفردي، وهذه العناصر مجتمعة لا يمكن للدولة بتاتا أن تكفلها إلا من خلال التدبير التشاركي مع هيئات ومنظمات المجتمع المدني التي تستطيع بفضلها تجاوز معضلات التقييم السنوي لمؤشر التنمية، بالإضافة إلى هذه الأسس في تحديد مؤشر التنمية هناك معايير مضافة أخرى تعد سندا للحكم على مدى ديمقراطية الدولة وهي: احترام حقوق الإنسان، وحرية الصحافة، والمشاركة السياسية، وهذه العناصر لا يمكن الحفاظ عليها إلا بمشاركة فاعلة للمجتمع المدني لتعظيم قيم المواطنة الحقيقية الصالحة التي تسعى في خدمة الصالح العام بعيدا عن الإكراه الذي يمكن أن تحدثه الدولة إذا لم تستنجد بالمجتمع المدني في حل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتنموية تحقيقا لرفاهية أفراد المجتمع. تنطلق فكرة المجتمع المدني من مبدأ تام هو أن الإنسان غاية وليس وسيلة فقط، لذلك فأي تنمية مجتمعية سواء كانت مستدامة أو غير ذلك لا تأخذ بهذا المبدأ فلا يمكنها أن تبني مجتمعا مدنيا فعالا، والغائية الإنسانية تتطلب المشاركة والديمقراطية والتعميم والشورى والإيمان بالاختلاف وتجاوز النزعة الفردية، والانتقال من الدولة(السياسة الزمنية المحدودة) إلى الوطن(المجتمع المدني الممتد)، ومن الدولة إلى الأمة، ومن الأمة إلى الإنسانية جمعاء. إن غائية الإنسان لا يمكن أن يصل إليها إلا الإنسان وحده بفضل مواطنته وعمله التشاركي وحكامة مؤسساته، لهذا يغدو الإنسان وسيلة وغاية في الوقت نفسه، ومن تم تجتمع كل التنميات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها في تنمية التنميات أو التنمية البشرية التي تجعل الإنسان رأسمالا رمزيا يفوق كل الرساميل المادية عبر توعيته وفعاليته وتحقيق رفاهيته في جميع مجالات حياته العامة. ولعل هذه النتيجة الأخيرة تزكيها المجتمعات المعرفية كاليابان وكوريا الجنوبية وغيرها التي لم تعد تركز في تنميتها على الموارد المادية، لكن غيرت نهوجها الاقتصادية نحو الاقتصادات اللامادية عبر الاهتمام بالإنسان بوصفه قيمة معرفية مؤهلة للنهضة والتطور وطاقة معرفية تجعل من المعرفة نفسها بضاعة تباع تشترى، وتفوق قيمتها في السوق الدولية أضعاف ما تصل إليه المنتجات المادية. وتعتبر المقاربة التشاركية مدخلا مهما للاهتمام بالمجتمع المدني، حيث تساهم هذه المقاربة بتذويب الهوة بين الدولة والوطن، إذ ينتقل التدبير من العلاقة العمودية القهرية للدولة على المواطن، إلى العلاقة الأفقية التفاعلية المبنية على إشراك جميع المواطنين بحسب كفاءاتهم في تدبير الحياة العامة عبر الربط بين المجتمعين السياسي والمدني في مواجهة الوضعيات المستجدة، وتسمح المقاربة التشاركية في تفعيل قيم الديمقراطية والشورى والمواطنة الصالحة والثقة في المؤسسات. نخلص أخيرا إلى أن منظمات المجتمع المدني تقوم على أربعة مقومات أساس، وهي: -إرادة الفعل، ونقصد بها أن الفعل الاجتماعي المتعلق بهذه المنظمات غير قائم على الإكراه، بل على التطوع والحرية في الاختيار، غير أن هذه الحرية تبقى مشروطة بنسق العمل الجماعي، إذ تكون بعد الاختيار مبنية على المسؤولية والمحاسبة، وإلا سيصبح العمل التطوعي مُسَيَّبًا. -القدرة على الفعل: والمقصود بها أهلية الأفراد للقيام بالفعل بحسب كفاءاتهم داخل منظمات المجتمع المدني، وهي قدرة يمكن تقسيمها إلى: قدرة أساس، وقدرة مستعرضة، وقدرة ثانوية، فالقدرة الأساس تتمثل في تجاوز الأفراد لضرورات الحياة العادية، أي التوفر على الحد الأدنى للعيش، ثم الحيز الزمني، وأهلية القيادة، والتحلي بالمسؤولية والأمانة، والإيمان بالعمل التطوعي ونكران الذات. بينما القدرة المستعرضة، فتكمن في قدرة الفرد على الجمع بين مسؤوليات عدة، من دون أن يخل بإحداها، كمن يفرط في تغليب مصلحة العامة على مصالحه الفردية فيؤثر ذلك مثلا في أسرته وهلم جرا، كما تكمن هذه القدرة كذلك في تحمل مسؤوليات عدة داخل الهيئة التي ينتمي إليها، والقدرة على خلق حوار جاد ومشاركة فعالة مع الهيئات الاجتماعية الأخرى والمجتمع السياسي كذلك. بينما القدرة الثانوية فتكمن في تجاوز الأنانية والعمل وفق منهج أفقي يجعل العمل التطوعي نفسه عملا تشاركيا. -معرفة الفعل: والمقصود بها المعرفة الشاملة بشروط العمل التطوعي، ومعرفة نتائجه في الآن والمآل، ومعرفة الأهداف المتوخاة منه عبر وضع خطط عمل آنية ومستقبلية، والمعرفة تقتضي أن يكون العمل التطوعي من جنس اهتمامات الأفراد، وإلا سيكون تطفلا. فالجمعيات الرياضية مثلا ينبغي أن يديرها رياضيون، والتعاونيات الفلاحية يديرها فلاحون أو مهندسون فلاحيون...وهكذا. -وجوب الفعل: إن عمل المجتمع المدني تطوعي ابتداء، لكنه يصبح واجبا وطنيا(فرض كفاية) عند الاقتضاء والضرورة التي تمليها تنمية المجتمع وتحديثه. وهذا الفعل أيضا يصبح واجبا بمجرد أن ينخرط الفرد في هيئة من هيئات المجتمع المدني وفق المسؤوليات التي أنيطت به، بل إنه يحاسب على ما يفعل، وهذا الوجوب أساس نجاح المجتمع المدني في التنمية البشرية عموما.