ليس من المصادفة أن يرتبط تقدم الأمم وازدهارها بمدى تقدم مستوى البحث والتطوير العلمي والتكنولوجي بها، فهو أبعد ما يكون عن مجرد وسيلة لتطوير المعارف التقنية و تفعيل النبوغ البشري. ذلك أن هذا البحث يشكل أرضية مؤسسة لمدى تملك الأمم من وسائل إنتاج المعرفة و بالتالي توفير الشرط الموضوعي لتأهيل وسائل الإنتاج و على رأسها المقاولة سواء كانت فلاحية أو صناعية أو خدماتية. من ناحية أخرى، لا يمكن تناول موضوع البحث و التطوير العلمي دون استحضار المعنيين به من أساتذة و باحثين و مهندسين. في هذا الإطار يمكن أن نتساءل، بشكل خاص، عن أي دور للمهندسين في هذا الميدان، علما أن مسألة البحث و التطوير العلمي لا يمكن أن تحقق الآمال المرجوة دون إشراك و انخراط فعال لهذه الفئة. لكن، وقبل الوقوف على كيفية تفعيل دور المهندس في ميدان الابتكار و التطوير لابد من التذكير بالدور التاريخي للعلوم الهندسية في تقدم المجتمعات البشرية. فقد كان للهندسة و للمهندسين عبر التاريخ دورا محوريا في تشييد صرح الحضارة الإنسانية، لدرجة أنه من الصعب رسم ملامح التطور الإنساني بعيدا عن تطور العلوم الهندسية. فإذا كان من الأكيد أن التقدم البشري هو في النهاية نتيجة تراكمات معرفية على مجموعة من الأصعدة الثقافية و الفكرية و القانونية و الاجتماعية و الاقتصادية و العلمية ، إلا أنه يمكن الجزم أن المنتوج الهندسي هو في المحصلة ثمار التقدم البشري على هذه الأصعدة كافة. فالمهندس هو الذي يترجم محصلة النظريات العلمية و التقنية إلى مسائل و أدوات ذات تطبيق مباشر يهم الحياة اليومية للناس. و هنا بالضبط يكمن الفرق بين المهندس من جهة، و من جهة أخرى العالم أو الباحث في الفيزياء أو الكيمياء أو غيرهما من العلوم الدقيقة. فبفضل التكامل بين العالم الباحث و المهندس تمكنت الإنسانية من تحقيق هذا التطور الذي نشهده اليوم منذ الحضارة البابلية و الصينية مرورا بالفرعونية واليونانية والعربية الإسلامية والأوربية، فحضارة اليوم التي تعرف تألقا منقطع النظير و قطيعة كبرى مع كل ما سبق، بفضل كم هائل من الابتكارات والاختراعات في الميدان التكنولوجي والمعلوماتي وميدان الاتصالات فضلا عن الفروع الكلاسيكية للهندسة من فلاحة وميكانيك وكهرباء وهندسة مدنية. وطنيا، يواجه النسيج الاقتصادي الوطني ضعف ارتباطه بالبحث والتطوير العلمي وعدم استيعابه لأهمية الدور الريادي للمهندس في هذا المضمار. ذلك أن التمكن من اقتصاد المعرفة ومستوى أدنى من البحث والتطوير العلمي أصبحا محددا أساسيا لتنافسية المقاولة، وبالتالي وسيلة ناجعة لتقوية الاقتصاد الوطني وضمان التنمية المستدامة. وبالرغم من ذلك، سيكون من الإجحاف التغاضي عما راكمه المهندس المغربي في سبيل وضع المغرب الحديث على سكة التقدم العلمي والتكنولوجي. وفي هذا الصدد يمكن الجزم أن هذا المهندس تمكن من أداء جزء أساسي من مهمته، حيث أن الشأن التقني و الهندسي الوطني تدبره أطر محلية تشرف على الأغلبية الساحقة من القطاعات الحيوية، من الهندسة الزراعية إلى المناجم والتعدين (على سبيل المثال: العملاق الوطني للصناعة الفوسفاطية يديره أطر و مهندسون جميعهم مغاربة)، إلى قطاعات البناء و التشييد و الصناعة والتكنولوجيات الحديثة. فما يلمسه المواطن العادي في حياته اليومية من مظاهر التطور و الحضارة ما هو في الحقيقة إلا نتاج لهذا المجهود المتواصل. فالمغرب و منذ فجر الاستقلال استشعر أن بناء الدولة الحديثة يتطلب تأهيل أطر هندسة وطنية قادرة على المواكبة، فكان تأسيس المدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط سنة 1959، في عهد الحكومة الوطنية التي ترأسها الأستاذ عبد الله إبراهيم، و بعدها توالت المجهودات على مختلف الأصعدة، خاصة في الجانب المتعلق بمدارس التكوين، و الذي أخذ موخرا بعدا جهويا بعد أن كانت مدارس التكوين في وقت سابق مقتصرة على مدينتي الرباط و الدارالبيضاء. إلا أن هذا المجهود المبذول من طرف الدولة و مختلف الفاعلين يصطدم بالكثير من الصعاب التي تحد دور المهندس من إمكانية الاضطلاع بأدواره عموما و بتلك المرتبة بالبحث و الابتكار خصوصا، مما يفوت فرصة تاريخية لضبط إيقاع التقدم التكنولوجي و المعرفي الوطني على نظيره بالبلدان المتقدمة. و هنا نسجل أن هناك على الأقل تحديان أساسيان أمام الهندسة الوطنية يتوجب رفعهما: _ التحدي الأول: هو امتلاك رؤية و خارطة طريق لما نريده من الهندسة و من الأدوار التي نتوخاها منها. و هو تحد لا يمكن التقدم على دربه دون التوفر على أداته التنظيمية و هي هيئة وطنية مشرفة على المسألة الهندسي. _ والثاني : هو كيفية تبييئ العلم و التكنولوجية و امتلاك ناصية الإبداع و الابتكار للمرور من مرحلة الاستهلاك التكنولوجي إلى مرحلة الإنتاج و التطوير. هنا يتضح أنه بالإضافة إلى تحدي بلورة رؤية حول الهندسة و التي ترتبط بمطلب إنشاء هيئة وطنية للمهن الهندسية على غرار التجارب العالمية، هناك التحدي المرتبط بتبييئ الهندسة، و الذي يرتكز بالأساس على مجهود الإبداع و الابتكار في الميدان الهندسي. فهذا الجانب من البحث العملي التطبيقي يجب أن يحظى بدعم أكبر من طرف الدولة التي لا تساهم حاليا إلا ب 5.6 مليار درهم في مجهود البحث و التطوير أي % 0.73 في المئة من الناتج الوطني الخام ( مقابل %2.33 في البلدان المتقدمة و %4.25 في الكيان الصهيوني و % 2.21 في فرنسا). لذلك فنجاح مهمة المهندس في ميدان الابتكار و التطوير العلمي مرتبط برفع الرهانات التالية: - توفير إطار قانوني مشجع للبحث الهندسي عبر إخراج الإطار الجديد للأستاذ الباحث و بخلق إطار مهندس باحث و عبر تمكين ميدان البحث الهندسي خصوصا و البحث العلمي عموما من ميزانية أكبر. - خلق شراكات بين مدارس المهندسين و المقاولات لخلق الدينامية اللازمة لربط الابتكار بحاجيات حقيقية لدى المقاولات الصناعية و غيرها. فالمطلوب هو تصحيح الوضع الحالي بجعل مدارس المهندسين تدعم مجهود البحث و التطوير التي تقوم بها المقاولات بدل العكس. كما يتطلب تشجيع الطلبة المهندسين على خلق مشاريعهم الخاصة و المبتكرة - تعزيز التكامل و تكاثف الجهود بين مدارس المهندسين للاستفادة من التجارب و الخبرات و لخلق دينامية وطنية في هذا الإطار، و كذا الانفتاح على التنظيمات و الهيئات الهندسية التي يمكن أن تشكل إضافة نوعية في هذا المجال. - تعزيز وسائل التحويل التكنولوجي عبر التنصيص على حد أدنى من نسبة الأطر الوطنية في إدارة مشاريع الشركات الأجنبية ذات المواصفات التكنولوجية العالية ( مشروعTGV رغم ما يمكن أن يرتبط به من نقاش، و مشاريع الطاقة الريحية و الشمسية نموذجا). فانخراط المهندسين المغاربة في هذه المشاريع سيمكن من الارتقاء بمعارفهم من جهة، و من جهة أخرى الانفتاح على آخر التقنيات على الصعيد العالمي مما يسمح بمواكبة التطورات التكنولوجية و المعرفية بشكل عملي و آني. وبالتالي يمكن أن نخلص إلى أن المغرب كون و لايزال الآلاف من المهندسات و المهندسين في جميع المجالات العلمية و التكنولوجية، وهي طاقات جبارة لا يتم استغلال إلا النزر اليسير من إمكانياتها. و في هذا الصدد من شأن الالتفات لها و فسح المجال أمامها لأداء الأدوار التي يقوم بها نظرائهم في الدول المتقدمة، أن يفتح أمام بلادنا مجالا رحبا للإبداع و التطوير، بما يمكننا من استثمار أمثل لأهم ثروة وطنية وهي ثروة مادتنا الرمادية الثاوية في عقول أطرنا الوطنية. *مهندس وباحث وفاعل في الميدان الهندسي