للمرة الثانية على التوالي دعا مجلس الأمن في قراره رقم 2044 الصادر في 25 أبريل الماضي حول قضية الصحراء المفوضية العليا للاجئين إلى إجراء إحصاء للسكان بمخيمات تندوف ، و هو ما يترجم اهتمام المجموعة الدولية بالأبعاد الانسانية في هذه المخيمات بعد 37 سنة من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان ، لكون هذه المخيمات تحولت مع مرور الوقت الى سجن مفتوح خاضع لنظام عسكري صارم يعمل على منع حرية التنقل و حرية التعبير و ممارسة مختلف أشكال التعذيب و الترهيب و الاضطهاد. أبعاد إحصاء سكان مخيمات تندوف: مما لا شك فيه أن تأكيد مجلس الامن على احصاء سكان مخيمات تندوف يستجيب لضرورة انسانية ملحة بالنظر الى معاناة المحتجزين في هذه المخيمات ، في غياب تام لأبسط شروط الكرامة الانسانية. و من تم لا تختزل عملية الاحصاء في مجرد كونها عملية تقنية و لكنها تنطوي على ثلاثة أبعاد أساسية: البعد الأول ذو طابع انساني يتجلى في كون ضبط عدد اللاجئين يعتبر آلية لتمكين المفوضية العليا للاجئين من تقديم المساعدة الانسانية للمقيمين في المخيمات بناء على تقديرات متحكم فيها بما يكفل تلبية الحاجيات الحقيقية للمستفيدين . فغياب احصاء هؤلاء المحتجزين لا يسمح بتحديد الحاجيات الإنسانية بكيفية دقيقة مما يساهم في تبذير موارد المفوضية العليا لشؤون اللاجئين نتيجة لتحويل المساعدات الإنسانية الدولية ، التي تم تقديمها على مدى سنوات عديدة لمخيمات تندوف على أساس أرقام تم تضخيمها لأغراض مختلفة . وأمام انعدام تعداد رسمي لسكان المخيمات سبق لكل من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين وبرنامج الغذاء العالمي سنة 2005 تقدير عدد هؤلاء السكان في 90 ألف شخص وهي تقديرات مبالغ فيها مقارنة مع مختلف التصريحات الصادرة عن العائدين من تندوف الى أرض الوطن و التي تجمع على أن هذا العدد لا يتجاوز على أكبر تقدير 50 ألف شخص ، بينما تدفع كل من البوليساريو و الجزائر بأن هذا العدد يتجاوز 164 ألف شخص. البعد الثاني ذو طابع سياسي و يتجلى في كون عملية الاحصاء تسمح بتحديد الأشخاص ذوي الأصول الصحراوية و الأشخاص المنتمين لبلدان أخرى و يقيمون في المخيمات ، و هو ما يساعد المفوضية الأممية على القيام بدورها المؤسساتي، المتمثل في فتح حوار فردي مع الأشخاص ذوي الأصول الصحراوية حول مدى رغبتهم في البقاء بها أو الإلتحاق بالمغرب، أو الإستقرار في دولة أخرى خارج تندوف.ومن شأن هذه العملية أن تفتح المجال لخيارات سياسية جديدة لحل النزاع في احترام تام لارادة المعنيين بالأمر. البعد الثالث ذو طابع قانوني و يرتبط بما تتيحه عملية الإحصاء من امكانيات لتحديد العدد الحقيقي للسكان الذين تتم المطالبة باسمهم بتقرير المصير، ومن تم فهذه العملية تشكل مدخلا قانونيا ضروريا لضمان ممارسة حق تقرير المصير لكونها تمكن من معرفة الحجم الحقيقي للمطالبين بهذا الحق، ومن شأن عملية الاحصاء أن تساهم في الالتزام بممارسة هذا الحق من خلال التعبير الحر عن إرادة كل شخص في إطار عملية الاستجواب الفردي من طرف المفوضية الأممية، كما تسمح هذه العملية بتوفير حماية دولية فعلية لسكان المخيمات، والزام الجزائر باعتبارها البلد المضيف للاجئين بتحمل المسؤولية الدولية عن حماية هؤلاء اللاجئين و ذلك طبقا لمعاهدة 1951 حول اللاجئين ، و هو ما يعبر عن وعي مجلس الأمن بإجماع أعضائه باستحالة الإبقاء على مخيمات تندوف خارج إطار القانون الدولي. وإذا كانت كل هذه الأبعاد تبرز مدى أهمية احصاء سكان مخيمات تندوف وهو ما أدركته المجموعة الدولية وعبرت عنه بالإجماع في قراري مجلس الأمن سواء في السنة الماضية أو في هذه السنة، فان الجزائر لازالت تحلق خارج السرب و ترفض عملية الاحصاء دون تبرير مقبول، محاولة بذلك الاستمرار في مناوراتها السياسية لتوظيف النزاع في خدمة مصالحها الاستراتيجية في علاقتها بالمغرب، و بمجرد اصدار قرار مجلس الأمن تحركت الآلة الجزائرية في المنطقة لإقامة مخيمات جديدة في تندوف لإيواء أشخاص جدد يتم استقدامهم اما من مناطق جزائرية أو من بلدان افريقية مجاورة ، و ذلك بهدف تضليل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين و التأثير على عملية الاحصاء في حالة الضغط من أجل تنظيمها، وما تتجاهله السلطات الجزائرية هو أن الاستمرار في هذه المناورات سيتحول الى قنبلة موقوتة بالنسبة لأمن المنطقة ، يصعب عليها التحكم في الوقاية من أخطارها. خلفيات الرفض الجزائري: تتجلى هذه الخلفيات ليس فقط في الحرص على استمرار النزاع الذي افتعلته في المنطقة منذ أكثر من 37 سنة لخدمة أغراض ضيقة عفى عنها الزمن، ولكن كذلك لاستمرار حالة الغموض فيما يخص أعداد المقيمين بالمخيمات فوق ترابها، فهي لا ترغب في حصر هذه الأعداد حتى لا يتم الكشف عن تناقضات أطروحتها الخاذعة القاضية بالدفاع عن حق تقرير المصير. فكيف تروج على مدى 37 سنة لهذه الأطروحة وهي لا توفر ضمانات ممارسة هذا الحق لمواطنيها ؟ و أهم مظهر لغياب هذه الضمانات تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، وهاهي الانتخابات التشريعية الأخيرة تواجه بسيلا من الانتقادات بسبب ما عرفته - حسب المعارضة الجزائرية - من تزوير على نطاق واسع دون اعتبار لرياح الديمقراطية التي تعرفها المنطقة. فالجزائر تعلم ان العدد الحقيقي للمقيمين فوق ترابها في مخيمات تندوف لا يتعد بالكاد 50 ألف ، أكثر من ثلثهم جزائريون أو ينتمون الى دول مجاورة ، و من المؤكد أن الاقتصار على هذا العدد للدفاع عن أطروحتها سيشكل لها حرجا كبيرا ، لذلك فإنها طالما رفضت احصاء هؤلاء و لم تتردد في تضخيم عدد سكان المخيمات ، و منذ مدة طويلة و هي تروج لما قدره 164 ألف شخص حتى تعطي لدعايتها السياسية حول اللاجئين فوق ترابها تعاطفا دوليا ، و هو ما تمكنت من تحقيقه على مدى سنوات ماضية مستغلة في ذلك الوضع الدولي المتوتر. الى ذلك يضاف توظيف تضخيم عدد سكان مخيمات تندوف لدى المنظمات الانسانية لتتم مراعاتها في عمليات توريد المساعدات الانسانية ، هذه المساعدات التي تعرف تلاعبات كبيرة وفق عدد من التقارير المتخصصة. فحسب تقرير للمكتب الأوربي لمحاربة الغش يعتبر الهلال الأحمر الجزائري المستفيد الرئيسي من تحويل المساعدات الانسانية الموجهة لسكان مخيمات تندوف ، كما يستنتج هذا التقرير الاتجار في هذه المساعدات في دول مجاورة لفائدة قيادة البوليساريو و عدة جهات جزائرية. و أضاف هذا التقرير بأن الدولة الجزائرية تفرض رسوما على جزء هام من المساعدات يتم تحصيلها لفائدة خزينتها . كما أن المنظمة الأمريكية Teach Children International أكدت في أحد تقاريرها أن قيادة البوليساريو تقوم بتحويل المساعدات الانسانية الموجهة لمخيمات تندوف قبل وصولها الى هذه المخيمات ، من بينها 5 مليون دولار تبرعت بها هذه المنظمة على شكل مواد غذائية و أدوية و مواد أخرى ، و تبعا لهذه الخروقات أوقفت هذه المنظمة مساعداتها للمخيمات المذكورة منذ 2005 . ومن الملاحظ أن نهب المساعدات الانسانية و تحويل عائداتها لحسابات خاصة في اسم قيادة البوليساريو أو قياديين في الدولة الجزائرية على حساب الأطفال و النساء و العجزة و غيرهم من المحتجزين يدفع بالجزائر الى الاستمرار في تعنتها الرافض للاستجابة للقرارات الأممية الخاصة بإحصاء سكان المخيمات الموجودة فوق ترابها . ان هذا التعنت يتجاهل التحولات التي عرفتها المنطقة بفعل تداعيات الربيع العربي و ما ترتب عنها من اطاحة بالأنظمة الاستبدادية خاصة نظام القدافي الذي ساهم بكيفية مباشرة في افتعال نزاع الصحراء بتنسيق و تعاون مع النظام الجزائري. مخيمات تندوف قلعة خلفية للإرهاب في منطقة الساحل اذا كانت الجزائر لا زالت لم تشملها رياح التغيير رغم حالة الاحتقان السياسي و الاجتماعي التي تعرفها فانه لا يمكن لذلك أن يحجب على القيادة الجزائرية حقيقة الوضع في المنطقة ، صحيح أن التغيير بالجزائر شأن داخلي و مسألة خاصة بالشعب الجزائري ، و لكن ما يثير التساؤل هو استمرار الجزائر في استضافة مخيمات فوق ترابها بذريعة أنها تؤوي لاجئين يطالبون بممارسة حق تقرير المصير ، في حين أن الحقيقة على خلاف ذلك. فعلى مدى 37 سنة تمكنت المجموعة الدولية من اكتشاف الحقيقة و أصبحت الدعاية الجزائرية عاجزة عن تصريف مغالطاتها رغم الأموال الباهظة التي تنفق في سبيل ذلك على حساب البطالة و الفقر و العيش الكريم للمواطن الجزائري. فمن المؤكد اليوم أن الجزائر تتستر فوق أراضيها على مخيمات أصبحت بشهادة الجميع بؤرة للفساد و لمختلف أنواع الجريمة بما في ذلك المخذرات و التهريب والاتجار في الأسلحة فضلا عن التلاعب في المساعدات الانسانية، بل أنه بعد انهيار نظام القذافي أدى انتشار الأسلحة على نطاق واسع في منطقة الساحل الى تورط قوات البوليساريو في عمليات القاعدة في الغرب الاسلامي ، و هي القوات التي دعمت القدافي في صراعه ضد الثوار، وهاهي بعد ذلك أصبحت تستعمل المخيمات قاعدة خلفية لأعمال ارهابية واسعة النطاق. وأمام خطورة الوضع بهذه المخيمات أصبح من غير الجائز استمرارها خارج القانون الدولي ، و هو ما تجاهله كريستوفر روس باعتباره المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في نزاع الصحراء. فعوض أن يقوم بمبادرات جريئة و مبتكرة لمعالجة الوضع الانساني في مخيمات تندوف ومن تم الوقاية من مخاطر تهديد الأمن والسلم في المنطقة، فانه اهتم في تقريره الأخير بقضايا جانبية كشفت عن عدم التزامه بالحياد اللازم مما دفع المغرب الى سحب ثقته منه. وفي انتظار تعيين خلف له فانه لا بد من التأكيد أنه تفاديا للمخاطر المحدقة بالمنطقة بات من اللازم تضافر الجهود الدولية عبر تحالف دولي لمواجهة الأخطار الارهابية بالمنطقة لصعوبة ذلك على كل دولة بمفردها، فلا يمكن لافتعال نزاعات اقليمية ، مهما كانت المبررات، أن يحجب عن المجتمع الدولي المخاطر المهددة للأمن والسلم خاصة عندما تتحول هذه النزاعات الى ستار لانتشار كل أشكال الجريمة المنظمة كما هو الحال بالنسبة لنزاع الصحراء . وفي هذا الاطار لا بد من تعامل المجموعة الدولية مع قضية مخيمات تندوف بالجدية اللازمة وذلك بالانتقال من مجرد دعوة الجزائر إلى إحصاء سكان هذه المخيمات الى تعبئة الجهود لفرض هذا الاحصاء و العمل على اعادة توطين اللاجئين في دول أخرى حسب ارادتهم، وهو ما من شأنه أن يضع حدا ليس فقط لمأساة المحتجزين ولكن كذلك لقلعة خطيرة للإرهاب وللجريمة المنظمة. * نائب برلماني