يُتْمٌ إضافي يعيشه الغناء العربي، بعد موت الفنانة الكبيرة وردة الجزائرية، وردة الكل، وردة الفن الرفيع. الطبيعة منكسة، وعناصرها طُرًا في حداد، لبسن السواد، وانْكَمَشنَ مبهوتات فيما يشبه الذهول. لقد نزل الخبر صاعقا، وهوى من حالق كمثل حدأة اندفعت كالسهم عموديا جهة ظل يركض، فانشق المربع المترب، وتوزع بددا، وتمزغ أشتاتا، فيما استمر الظل ظلا، والصمت الرهيب سيدا. حدث كالفجاءة، حط طائر الموت الأسود على صفصافة الغناء مهراقة الخضرة دوما، فامتص نسغها، واستف ماءها، وتركها إلى ضمور ويباس. فَمَنْ للفضاء يصدح فيه مغردا موقعا أجمل الألحان، بأعذب صوت، بعد أن أخرس الموت قيثارة الشجن؟ وَمَنْ للغناء الجميل، والطَّلَّة البديعة، والتناسق الساحر، والجوس البديع، السلس والقوي بين المقامات والسلالم النغمية من سيكا إلى بياتي إلى نهاوند، من له، يضبطه، ويشيع فيه السحر والشهق، وسمو الروح، وسموق التنغيم والترديد، والترخيم؟ قدمت الكبيرة وردة من باريس في نهايات منتصف القرن الفائت، إلى القاهرة، وقد تمرنت في عاصمة الأنوار على التبديع: (بالمعنى الفني الإيجابي)، وتقليد أساطين الفن والغناء والطرب، أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان وفريد الأطراش وعبد الحليم حافظ. وعلى رغم مواتاة الشروط الذاتية والموضوعية لها، فلم يكن الأمر سهلا ولا يسيرا وهي تضع ا لخطو على أول الدرب الصعب والطويل والبعيد، إذ كانت مصر- كما لا يخفى- تعج بالفنانات الكبيرات، اللواتي تَرَكَّزْنَ، وترسخن، وحققن المكانة المبتغاة، وتبوأن المقعد المشتهى، وعانقن الشأو المنشود. يتعلق الأمر بالسيدة العظيمة أم كلثوم، والساحرة الكبيرة اسمهان، والفنانة العميقة الوديعة والعذبة نجاة الصغيرة، والمغنية الفارهة الرخيمة، فايزة أحمد والأخاذة الفاتنة ليلى مراد والبديعة الهائلة سعاد محمد، علاوة على الكبيرتين اللبنانيتين، فيزور الملائكية، وصباح الشحرورة المغردة. ومع ذلك، شقت وردة للوردة أرضا، وقلقلت ترابا، ونثرت سمادا وتعهدت غراسها بالحدب والماء والشمس والسهر، لتتلع الرأس زاهيا ملتمعا، بين الرؤوس، قصدت الأزاهير، والأصوات العذبة الشجية التي تدير الرؤوس، وتجعل الخلق يسهر جَرَّاها ويختصم. هكذا، تلقفها بالعناية اللازمة –كمثل فرخ زغب الحوصلة يُخَافُ انكساره- فنانون كبار، دانت لهم قطوف دوالي الفن والغناء، كرياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب ومحمد الموجي، وكمال الطويل وبليغ حمدي (زوجها السابق)، وصلاح الشرنوبي. ولنا أن نذكر أغاني ترددها الملايين، صنعت مجدها، ووضعتها إلى جانب الكبيرات المذكورات آنفا: أَكْذِبْ عليك – اسمعوني- العيون السود- خليك هنا خليك- طب وأنا مالي- كلموه سألوه... ولنا أن نشير في الآن ذاته – إلى الشعراء المصريين الكبار الذين كتبوا لها هذه الأغاني الرائعات المترفات وهم أولاء الذين كتبوا أيضا –لمحمد عبد الوهاب ولأم كلثوم، ولنجاة الصغيرة، ولعبد الحليم حافظ، ولفايزة أحمد، ولسعاد محمد، وليلى مراد وهدى سلطان، إلخ. إنهم عبد الوهاب محمد – ومرسي جميل عزيز، ومأمون الشناوي، ومحمد حمزة، وحسين السيد، وعبد الرحمان الأبنودي، من دون أن ننسى الملحِّنين الكبار الذين روضوا جموح صوتها الجميل بحسب وصف الموسيقار محمد عبد الوهاب. فصاروا به إلى التنغيم والتوقيع العذبين مماشاة لمنحنياته،ومراقيه، وتموجاته، ودنوه وعلوه، وصعوده وانْبساطه وفق المراتب والحالات والمقامات والخامات و"الميازين". غير أن انطلاقتها الحقة، ونقطة التحول في حياتها الفنية أو قل: ميلادها الحقيقي كفنانة ذات سطوة صوتية فاتنة، وَأَسْرٍ سحري، وعذوبة مغدقة، ما مكنها من وضعها الاعتباري كمطربة عربية كبيرة، ولفت الانتباه إليها، كان تأديتها لأغنية "أوقاتي بْتِحْلَوُّ.. تحلو معاك" فيما يقول المؤرخون الفنيون، وذلك في العام 1979، وهي الأغنية التي برع في تلحينها، وأبدع في بنائها وتوزيعها الميلودرامي الهرموني والتطريبي، الموسيقار سيد مكاوي. وكتبها الشاعر العامي الزجال الكبير عبد الوهاب محمد : أوقاتي بتحلو .. تحلو معاك وحياتي تكمل برضاك وبحس بروحي .. بوجودي من أول ما بكون وإياك... إنها الأغنية التي هيأتها الأقدار لتكون الإنطلاقة الواثقة لوردة في عالم الغناء والفن، ومن ثمة ، تحقيق الذروة والنجومية. وإلا فلو أن الموت أمهل سيدة الطرب : أم كلثوم وتعامى عنها بعد 1975، لكانت غنتها، طالما أن مكاوي كان أعدها لها ، وانتوى أن تغرد بها . ثمة ما يُنْتَسَجُ في خفاء، ويتحين الفرصة أو الحين، ليكون من نصيب كِيتْ أو كيتْ، من دون أن ننتظره، أو أن نعمل على أن يأتي، أو نتحايل لِنَحُوزَهُ، كي نصنع به ما نخافه ينفرط من بين أيدينا، ما لم نفتح العين واسعة على المجريات، وعلى ما يتوارى، وينحجب وراء سُدُلٍ ليست لنا يد فيها. كيف جاءت، كيف انسدلت؟ كيف اعترضت السبيل أو انزاحت؟ ذلكم هو السؤال ! وردة الكبيرة، الفواحة بالأريج والعطر، هي الآن في ذمة الغيب، ما يعني ذمة التاريخ والأسطرة. ولئن كان جسدها –كما ستكون أجسادنا- منذور إلى التذرر في التراب، والانعجان بالعناصر، والبكتيريا، والدقائق المعدنية والنباتية المتحجرة والفتيتة، فإن روحها حلقت وهي ترفرف بيضاء خالية من كل سوء، خضراء كعصفور الأسطورة، زرقاء لا زوردية كالأحلام العذبة البعيدة، ذهبية كسنابل أبريل في مراعي الحس والعشق والحدس. رُوحٌ وَرْقَاءُ ذات جمال مخصوص وَتَمَنُّعٍ. ستبقى وردة الجزائر، وردة الكل، أيقونة وأميرة الغناء العربي، خالدة، مخلدة الذكر، والاسم والصفة، ما دام صوتها يصدح، مالئا البيوت، والأمصار، والأفضية والأماكن والأزمنة، مالئا القلوب، بأشجى وأعذب الألحان، وأجمل الشعر، وأرق، وَمُونَقِ الكلام. مرددة صباح –مساء بالعذوبة، والغضبة الجميلة التي لم تكن تتقنها إلا هي: -اسمعوني. -خليك هنا – خليك. وها نحن –أيتها الرائعة- نودعك، أنت التي ما ودعت أحدا، ما ودعت حبيبًا جفا وقسا، أَلَمْ تقولي؟ : بَوَدَّعَكْ وَبَوَدَّعِ الدنيا معك جرحتني، قتلتني وغفرت لك قسوتك بودعك من غير سلام ولا ملام.. ولا كلمة مني تجرحك وداعا وردة الساكنة وجداناتها أيها الحيية دائما، وعلى رأي أغنيتك الرائعة "رُوحْ عَدِّ حَبَّاتْ المطر" سنروح –امتثالا لأمرك الغالي- لنعد حبات المطر، ونلملمها قطرة.. قطرة سقيا لك، ورحمة عليك، ومحبة منا غامرة من دون ضفاف.