يجمع علماء اجتماع الإعلام الجماهيري والمتخصصون في البرمجة التلفزيونية على حصر الوظائف الأساسية لهذا الجهاز في الإخبار والتعليم /التثقيف والترفيه /التسلية. وعادة ما يتم وضع البرامج والفقرات في إحدى هذه الخانات / الوظائف خصوصا عندما يتعلق الأمر بقناة عامة مفتوحة أمام الجمهور العريض وتقوم بتقديم خدمة عمومية. وإذا كانت القنوات الموضوعاتية المتخصصة قد استأثرت بإحدى هذه الوظائف أو توسعت فيها وركزت على أحد أبعادها ومحاورها، فإن القنوات العمومية العامة في المغرب و العالم العربي من اللازم عليها وضع سياسات برمجية تراعي مبادئ التوازن والمساواة وعدم ترجيح كفة وظيفة على أخرى، حتى وإن كان الضغط الاشهاري و المالي بدأ منذ مدة يفرض على المسؤولين اختيارات لا تكون بالضرورة ملائمة للخدمة العمومية ولمصلحة الجمهور. بيداغوجيا تلفزيونية: وإذا ما ألقينا نظرة على ما يجري في بعض القنوات العمومية الغربية، يطالعنا النجاح الكبير للقناة التربوية الخامسة التي استطاعت أن تكسب جمهورا فرنسيا وفرانكوفونيا عريضا، وتميزت بمهنيتها وكفاءتها العالية في ما يمكن تسميته بيداغوجيا الإعلام التلفزيوني. ذلك أنها استطاعت الجمع بين المهنية الإعلامية المتمكنة من لغة الصورة ومتطلبات تبليغ الرسائل السمعية البصرية، وبين تحقيق الوظيفة التعليمية التثقيفية عبر خريطة برامجية متنوعة تمس مختلف الفئات العمرية والسوسيو مهنية. وهنا يظهر البون الشاسع بينها وبين قنوات تربوية مصرية على الخصوص تبت عبر القمر الاصطناعي النيل حيث يفاجئنا بؤس التبليغ السمعي البصري وفقر ضبط العلاقة مع المتلقي حتى نظن أنفسنا أمام كراسي دراسية منقولة مباشرة أو مسجلة فقط، أو حوارات طويلة ومملة لا تنجح في كسب ثقة المتلقي. كذلك شان القناة الرابعة المغربية ضعيفة المشاهدة و شبه المنفية في" الهوتبورد" أو التلفزة الرقمية الأرضية التي عرفت فشلا ملحوظا في إقبال المشاهد المغربي عليها. إن التعليم- التثقيف كوظيفة تلفزيونية تتطلب مهنية عالية ومجهودا كبيرا للنجاح في زرع بذور إعلام سمعي بصري متخصص. موت الكتاب...نفي التثقيف يعتبر التثقيف إحدى الوظائف الأساسية للإعلام السمعي البصري. وإذا كانت التلفزات الغربية تولي لهذا الجانب أهمية كبرى في برامجها وتبذل مجهودات كبيرة لتقديم الثقافة بلغة سمعية بصرية مقبولة، فإن تلفزاتنا العربية لم تجد بعد طريقها لإنزال الثقافة المنزلة الإعلامية التي تستحقها. وإذا أخذنا الكتاب مثالا لحضور الثقافي في التلفزة المغربية، فإن الدارس لن يجد عناءا كبيرا في ملاحظة حضوره المحتشم أو الموسمي أو السريع في برامج مهمشة داخل الشبكة البرامجية. وإذا أضفنا إلى ذلك ضعف حضور الكتاب داخل النسق التربوي والتعليمي المغربي، فإننا إزاء موت غير معلن لعلاقة المغربي بالكتاب سواء من خلال التربية أو الإعلام. إن علاقة الإنسان المغربي بالكتاب قد أصابها فيروس قاتل منذ البدايات الأولى للتمدرس، حيث يصير الكتاب المدرسي عبئا ثقيلا وواجبا إجباريا ممقوتا.. من ثمة، نجد فئة قليلة من التلاميذ والطلاب الذين ينسجون علاقات إيجابية ومثمرة مع الكتاب الثقافي الخارج عن أسوار المقررات الإجبارية. كما أن كيفية تقديم الكتاب للأطفال من طرف المدرسين تحتاج إلى إعادة نظر جذرية قد تعود أسبابها إلى العلاقة السلبية لهؤلاء المدرسين بالكتاب قبل تلامذتهم وطلابهم ! ولعل إحدى المداخل الأساسية لتطبيع علاقة التلفزة المغربية بالكتاب هي تقديمه بلغة سمعية بصرية مقبولة، تخاطب المتلقي تلفزيا، وفي فترات يكثر فيها الإقبال على المشاهدة التلفزيونية. إن أهم رسالة ينبغي صياغتها هي أن الكتاب جزء من الحياة، وبالتالي إبراز أهمية حضوره وتفاعله داخل نسق الحياة العادية للإنسان. و قد استعرضت في مقال سابق بعض مداخل تطوير حضور الكتاب في التلفزيون المغربي. التلفزيون والتاريخ يحسب لبعض القنوات العربية احتفالها بالتاريخ العربي خلال شهر رمضان الكريم عبر بث مسلسلات تنعت عادة بالتاريخية. وإذا كانت معظم القنوات تعرض خلال السنة مسلسلات توصف بالتجارية و/أو الاجتماعية تنحت من المعيش اليومي أو تقدم حكايات متخيلة تنزاح عن الواقع الحقيقي للمجتمعات العربية، فإن المسلسلات التاريخية (مشاهدتها وعرضها) هي بمثابة فرصة لتحريك مخزون الذاكرة وإعادة قراءة وتأويل التجارب السياسية والإنسانية القديمة. هكذا، تنفتح هذه المسلسلات على أسئلة الهوية وتشكيلاتها المتواترة والذاكرة الجماعية العربية الإسلامية وإعادة قراءة التاريخ أو استحضاره والاستلهام من تجاربه في مواجهة التحديات الآنية خاصة على الصعيد السياسي، كما تعيد طرح قضايا العلاقات المتشابكة و/أو المتأزمة بين الذات الجماعية والآخر المسيحي (سابقا) والغربي (حاليا). ومن المهم التأكيد على أن سيناريوهات هذه المسلسلات هي تأويلات "للواقع" التاريخي كما حصل، مع مزجها بمواقف/ مشاهد مخيلة لاعتبارات فنية درامية. من ثمة، تبرز ضرورة الحذر في التعاطي مع تلك التأويلات من خلال الوعي بنسبيتها وتاريخيتها حتى وإن استندت إلى أحداث ووقائع مشهود بصحتها ووقوعها فعلا. ذلك أن التباس ما هو حدثي بما هو أسطوري أو تأويلي أو إسقاط رغبات آنية على شخصيات أو أحداث سابقة... قد يوقع في تقديس بعض الشخصيات أو اعتبار الماضي/ ماضينا العربي الإسلامي كلا إيجابيا، مجيدا، صافيا، مطلقا... مقابل حاضر منحط يجب تغييره حتى يتطابق مع صورتنا عن تاريخنا. من هنا خطورة تعاطي التلفزة مع التاريخ، حيث إنها قد تساهم في تكريس إضفاء الطابع المطلق على الماضي وتجميله بالشكل الذي ينتج قراءات خاطئة لتاريخنا او يكرس قيما ثقافية سلبية. التلفزيون والرغبة المعلبة إن المداد الغزير الذي سكب من أجل تسويد الصفحات حول التلفزة: دورها، أثرها، إيجابياتها، سلبياتها... لن يتوقف نزيفه قريبا. لقد أضحت التلفزة كجهاز مادي وكحاجة متجددة من حاجات الإنسان المعاصر جزءا من المرجعيات الأساسية التي تشكل هوية الإنسان وتشيد آماله ومواقفه ورغباته وتخوفاته وحتى مصائره. وإذا ما نظرنا إلى علاقة المشاهد المغربي بالتلفزيون العمومي، نسجل تعزيز الرابطة السرية بن نوع من البرامج الترفيهية الفنية وفئة الشباب التي وجدت فيها خلاصا وسائطيا لتدبير الاستيهامات وتشكيل الأحلام وتفريغ الشحنات العاطفية والطاقات المعطلة... ذلك أن الجيل الجديد أو جزء منه على الأقل، لم يعد يجد ضالته في المدرسة أو الأسرة أو الصداقة أو المعرفة أو الهوايات التقليدية من مراسلة وسفر وجمع التحف والنوادر أو العزف على الآلات... بل التحق مباشرة بقطار الرغبة التلفزيونية المقدم في شكل ستار أكاديمي وأستوديو 2Mومسابقات أحسن مغني أو منشط أو التعرف على أسماء المطربين و عناوين الأغنيات وترشيح الكليبات المفضلة لتصدر قائمة العشرة الأوائل وما إلى ذلك. إن هذا الخزان الذي لا ينضب هو مصدر الرغبة، صانعها وحاميها، مبردها ومسخنها، وهو أفضل جهاز" لمراقبة تراب" الشباب المغربي (والعربي) والاطلاع على خريطة طريق آماله وآلامه وطموحاته وأوهامه المدعومة تجاريا عبر سباق الإشهارات و الثقة العمياء في ارتفاع نسبة المشاهدة. فهي إن كانت تعود بالنفع ماديا فإنها تساهم في تكوين أجيال هجينة مغتربة الهوية وضائعة في صحراء الليبرالية الجديدة. لقد انتهى زمن محكيات الأجداد وقصص وروايات الشباب.. وصرنا نعيش زمن الرغبة المعلبة التي ترعاها الآلة التلفزيونية. من ثمة، يسهم التلفزيون المغربي والعربي عموما في زرع بذور ثقافة القرن الحادي والعشرين في أشكالها الاستيلابية المتحالفة مع سدنة المعبد الجديد: العولمة.