هيمنت في السنوات الأخيرة على مجموعة من الشاشات العربية أعمال وبرامج تلفزيونية تحاكي ما يبثه التلفزيون الغربي، خاصة في أوربا وأمريكا، ما يطرح أسئلة كثيرة بخصوص ذلك الاختيار الإعلامي من جهة، وعن ذائقة الإبداع التلفزيوني لتلك المؤسسات من جهة ثانية، ويدفع إلى التساؤل عن إمكانية عجز المُنْتِج العربي عن إبداع وإنتاج برامج داخلية خالصة الشكل والمضمون، تستطيع خلق التفرد والإقناع، وتلتحق بمسار المنافسة في زمن الوسائط التفاعلية، ناهيك عن مجموعة من القضايا الأخرى التي تتناسل تارة للدفاع عن ذلك التوجه الإعلامي، وتارة أخرى لرفضه والدعوة إلى "مراجعته". وسنحاول في هذا المقالة أن نقف على هذا التوجه الجديد/القديم الذي طبع العقدين الأخيرين، وشكل تراكما لعدد كبير من الإنتاجات التلفزيونية التي تستدعي الدراسة والتحليل، ليس من منطلق أنها فعل إعلامي جديد، وإنما للوقوف عند آثارها لدى الجمهور. فهل يمكن اعتبار "استنساخ" البرامج التلفزيونية خاصية عربية أم ظاهرة عالمية؟ وما دور شركات الإعلان والدعاية في الترويج لهذا النمط من الأعمال التلفزيونية؟ ألا يعتبر ذلك استجابة طبيعية لرغبات الجماهير وميولاتهم؟ وما هي أبعاد ذلك على مستقبل الإنتاج الداخلي للتلفزيونات العربية؟ نجوم بين المنصة والشاشة يعكس التلفزيون بالدول العربية، دون تعميم، حالة مستمرة من التأثر والانبهار بإبداعات الإعلام الغربي، (الأمريكي والأوربي بالخصوص)، في الجوانب الشكلية المتعلقة بإعداد وتقديم المواد السمعية البصرية، وتأتي في مقدمتها برامج الواقع والسلسلات الوثائقية، ما حذا بالشاشات العربية إلى أن تولي وجهها صوب "نظيراتها" في الضفة الأخرى بصيغ متعددة، سواء بالاستنساخ، أو الترجمة. وفي كل اختيار تتفاوت نسب النجاح والإخفاق، وترسم، تبعا لذلك، تمثل الآخر في الذهنية العربية، وتحاول عَكْسَهُ في المجال التلفزيوني. ومن أهم تجليات ذلك الاستثمارَ المالي الكبير في البرامج الترفيهية والغنائية ذات الطابع الاجتماعي، استنادا إلى مرجعية الطفرة الجماهيرية التي شهدتها مجموعة من القنوات العربية مع بداية العقد الماضي. ونستحضر تجربة بث النسخة العربية لبرنامج "ستار أكاديمي"Star Academy"، وذلك بعد إعادة إنتاجه وعرضه، قبل ذلك، في برامج تلفزيونية لقنوات غربية، خاصة الأمريكية والإنجليزية والهولندية، ما دفع إدارات البرمجة الثقافية للشاشات الصغرى العربية، بعد تلك التجربة، إلى أن "تتوسل" المشاهدَ عبر استضافة نجوم الغناء والدراما، والفنون عامة، لإنجاح شبكة برامجها. ولا شك أن القنوات العربية في الشرق كانت السباقة إلى خوض تجربة إعادة إنتاج برامج الواقع الغربية، مقارنة مع تأخر مثيلاتها بشمال إفريقيا، بسبب الإمكانيات المادية التي تملكها بالدرجة الأولى، خاصة الخليجية منها، بالنظر إلى العلاقة الثقافية بين أقطار الشرق العربي والدول الأنجلوساكسونية، التي اشتهرت أكثر بقوة إعلامها مقارنة مع الدول العربية التي ترتبط جغرافيا وتاريخيا وثقافيا بالشاشات الناطقة بلغة "موليير". فما هي، إذن، مظاهر التوفيق والإخفاق في جعل البرامج التلفزيونية الغربية أوراقا شفافة لإعادة إنتاج عشرات الساعات من التصوير داخل الفضاءات الضخمة لكسب ثقة المشاهد العربي؟ ألا يعد ذلك تعبيرا عن انحباس الإبداع والخلق لدى منتجي المؤسسات التلفزيونية العربية؟ وهل من دور للإعلام الجديد في انتشار البرامج "المستنسخة"؟ ألا تعتبر النسب المرتفعة لمشاهدة تلك البرامج مؤشرا على نجاحها؟. عناوين مُقْتَرَضَة لجمهور وَفِيٍّ إن مشاهدة البرامج التلفزيونية الغربية ومقارنتها مع "النسخ" العربية تبين أن الأخيرة تأخذ شكلين في التقديم، إما شراء حقوق البث الأصلية "Acquisition" وترجمتها والتعليق عليها باللغة العربية أو العامية، مع الحفاظ على مضمونها، وإما الاعتماد على الفكرة والتصور الأصليين، لكن بتغيير (من) و(ماذا) الأصليين (وقائع وقضايا غربية)، كما هو معمول في برنامج "ET بالعربي" الذي تقدمه قناة "MBC4"، ويعرف متابعة مهمة من طرف من الجمهور العربي. أما في المغرب فبلغ عدد مشاهدي حلقة برنامج "رشيد شو" بالقناة الثانية "2M"، لمساء يوم الجمعة 02 دجنبر 2016 "3.587.000" مشاهد، أي بنسبة "49.9%"؛ بينما وصلت في الأسبوع الموالي، 09 دجنبر 2016، "45.9%"، بما يوازي "3.801.000" مشاهد، ليفوق هذا الرقم ما تم الوصول إليه في الحلقة الأخيرة من الشهر نفسه، أي يوم 23 دجنبر، ويبلغ "4.155.000"، بنسبة "50.40%". وإذا انتقلنا إلى برنامج "ماستر شيف"، الذي قُدِّم "البرايم" الأخير له بالقناة نفسها في شهر دجنبر الماضي، نلفي أنه يقارب نِسَبَ متابعة برنامج "رشيد شو"، إذ بلغت نسبة مشاهدة حلقته لمساء يوم الجمعة 02 دجنبر 2016 "3.587.000" مشاهد، بنسبة "49.9%". فيما كانت قد تعدَّت حلقة يوم 29 دجنبر من السنة الماضية (2015) ذلك الرقم، إذ قُدِّرَ عدد مشاهديها ب4.795.000، بما يعادل نسبة 57.3%. وذلك حسب معطيات "المركز المهني لقياس مشاهدة التلفزة"، المعروض اختصارا ب"CIAUMED". إن ملاحظة وتحليل نسب مشاهدة هذين البرنامجين، على سبيل المثال لا الحصر، يؤكد استمرار هذه الأنواع من الإنتاجات الإعلامية في استقطاب عدد مهم من المشاهدين الأوفياء، والذين يحافظون بتلك المواد على موارد المؤسسات التلفزيونية التي تمتلك حقوق بثها، ما يحقق استمرار ذلك الاختيار، ويضمن دوام الموارد المالية، على اعتبار أنه يجلب للقناة المزيد من عروض الإعلانات؛ فيخرج تسجيل البرامج من صيغتها التلفزيونية "الواقعية" إلى ما يشبه الصناعة "الفرجوية" التي يتداخل فيها كل من الطرب والغناء بالترفيه، والتفاعل الرقمي ب"الغرافيك"، والمسابقات بالدعاية والإشهار، دون نسيان مركزية المقدم والمنشط التلفزيوني في كل ذلك. وجدير بالذكر، في سياق استنطاق أرقام نسب مشاهدة البرامج بالقنوات العمومية بالمغرب، أن المادة الأكثر مشاهدة على القناة الثانية المغربية "2M" خلال السنتين الأخيرتين (2015 و2016) هي المسلسل التلفزيوني التركي "سامحيني"، الذي يبث على الدعامة المذكورة منذ سنة 2013. جدول يمثل رصدا لنماذج بعض البرامج التلفزيونية العربية "المستنسخة": برامج الواقع والجرس الثقافي يضع الكاتب والإعلامي التونسي "عامر بوعزة" فكرة استنساخ البرامج التلفزيونية في سياق ثقافي عام يحكم الاختيارات الإعلامية للمنتجين العرب، وهو "سياق العولمة الثقافية التي كانت نتيجة منطقية لتفوق النموذج الثقافي والاجتماعي الأمريكي في العقود الثلاثة الأخيرة بعد انهيار التوازن الكلاسيكي بين معسكرين لكل منهما قيمه وتصوراته". ومن ثمة "لم يعد العالَمُ قرية صغيرة كما قيل من ذي قبل، بل أصبح نسخا مكررة من نموذج واحد مصدره الأصلي مجتمع الطبقة المتوسطة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، في المأكل والملبس والعادات والثقافة وأفانين الفرجة. وهذا الاستنساخ الملحوظ في الأشكال التلفزيونية هو امتداد طبيعي لاستنساخ النموذج والعجز عن الابتكار وصياغة نماذج مستحدثة تليق بالهوية الشخصية والخصوصية الثقافية"، يضيف "عامر". وبشأن تأثير ذلك على الهوية والخصوصية المحلية للأقطار العربية، بعدما أضحت تلك البرامج جزءا قارا وثابتا في شبكات البث التلفزيوني الناطق بالعربية، وتجاوزت إمكانية اعتبارها قضية جديدة، أكد محاورنا أن "تلفزيون الواقع أصبح الشكل الأكثر انتشارا في القنوات العربية، رغم أنه قد لا يكون بالضرورة مناسبا للمجتمعات العربية المحافظة. وهكذا فُرض على هذه المجتمعات التخلي عن محافظتها واستقبال نمط فرجوي جديد يقوم على التعري وهتك الأسرار والحرمات". لكن، ألا يعد هذا الرأي فيه الكثير من القسوة على جزء ليس باليسير من المشاهدين للتلفزيون العربي، والذين يعدون بالملايين، أمام كساد برامج التثقيف والتوعية؟ أم أن ذلك جزء من تهميش مقصود مرتبط بما هو إداري وسياسي بالدرجة الأولى!! وفي صيغة أقرب إلى الإصرار على خطورة البعد الثقافي في البرامج التلفزيونية المستنسخة، يؤكد "عامر" أن "الاستنساخ في المادة الثقافية وجزء كبير منها يمر اليوم عبر الفرجة والصورة التلفزيونية أساسا، وهو علامة مَرَضِية تكشف مدى التبعية التي يتخبط فيها الخطاب الثقافي العربي، لاسيما والقلاع التقليدية للمعنى الإبداعي تتهاوى الواحدة بعد الأخرى دون بدائل تليق بهذه الانهيارات"، وزاد: "كل شاعر كبير يترجل عن صهوة تجربته مثلا هو قلعة أخرى من قلاع الإبداع تهوي وتترك مكانها لأشخاص عابثين، يستطيعون في برامج سخيفة الاستحواذ على مشاعر الناس وعقولهم بسرعة غريبة". بالمقابل، لماذا نُحَمِّل المنتج التلفزيوني مسؤولية البياض الذي أنبته المثقف العربي، وسمح، كما يقول محدثنا، بالاستخفاف بمشاعر وعقول الناس؟ ألم تسمح الوسائط الجديدة بالنشر والتفاعل والتواصل مع المتلقي بمختلف شرائحه ومستوياته الفكرية والثقافية والاجتماعية؟ أعتقد أن ما يتم تكريسه من اختيارات إعلامية، تخص البرامج الترفيهية المحتكرة لأعلى نسب المشاهدة بالتلفزيون العربي، هو جزء من اختيار حر وإرادي من طرف المنتج التلفزيوني العربي، وسعي مشروع من جهته إلى إنتاج مادة إعلامية وعرضها في "سوق" حرة ومفتوحة على العالم الافتراضي، استطاعت استقطاب شريحة واسعة من الجمهور. لهذا فإن مسؤولية الرقي بالذوق الفني وإشاعة حس الجمال في الصورة السمعية البصرية يتحملها الجميع، على اعتبار أن المفاهيم التقليدية للجغرافيا الثقافية قد تم تكسير حدودها المادية، وانتقلت، مع الإعلام الجديد والتفاعلي، إلى أشبه بمكتب لإصدار البلاغات الرسمية. *كاتب وباحث متخصص في الدراما والإعلام