أولاد حارتنا: في رائعة نجيب محفوظ " أولاد حارتنا"- وقد قرئت قراءات متعددة ،أشهرها تلك التي خولت، لهذا الروائي الفذ، نيل قصب السبق العربي ،والدخول إلى نادي حملة وسام نوبل- تبدو الشخصية الأكثر حضورا ،هي بالضبط الأكثر غيابا ؛وهنا قمة الإبداع الروائي. إنها شخصية الجبلاوي،المتواري عن الأنظار داخل حصنه ؛يتحكم في الأحداث كلها ،بطريقته الخاصة،لكن دون أن يتحكم فيه أحد. كلما ألحت علي جريدتنا "هيسبريس" ،كموضوع للتفكير،إلا واستحضرت شخصية الجبلاوي. من يختفي وراء الشاشة ؛بكل هذا النجاح الإعلامي الرقمي؟ من يقرأ المواضيع ،فيجيزها أو يرفضها؟ هل هي لجنة منتصبة لقراءة مختلف المواضيع ؛حتى العميقة منها ؟ هل نجاحها يعود لخط تحريري ذكي ،أم لعدم وجود هذا الخط أصلا؟ أتساءل فقط ، وأنا أعرف – كما نجيب محفوظ- أن الجبلاوي يعطي الانطباع بأن كل الأحداث المتعاقبة على الحارة لا تهمه في شيء؛ في حين أنه حاضر- أو مستحضر- في كل تفاصيلها. لا أعتقد أن هيسبريس،المنفتحة على جميع الكتابات،والمشتغلة على جميع التفاصيل الإعلامية، ستعترض على أن تكون هذه المرة موضوعا للكتابة؛دون أن تكون موضوعا للنقد. ثم ارتقت الحارة إلى عاصمة رقمية: وهي كذلك باعتبار معدل الزوار اليومي ؛وقد قيل ،من طرف ذوي التخصص،أنه لا يقل عن الخمسمائة ألف زائر ؛ ومعلوم أن كل هذا العشق الرقمي لاتتمتع به في المغرب غير المواقع ذات الحضور العالمي الكاسح ،وعلى رأسها محركات البحث المشهورة، ومواقع التواصل الاجتماعي. وأنا لا أتوقف هنا عند هذا الرقم ،الذي يفتخر به كل كتاب هيسبريس،ويبدو لي أنني واحد منهم؛لكي أعتبره نجاحا وكفى؛بل أتساءل عن هذا المسار الحضاري الذي نجد أنفسنا ببابه ؛والذي نعيشه واقعا مفتوحا على غد، قل من يغامر بتوقع ما يحبل به؛لتسارع إيقاع التحول. لم أكن أفهم تمام الفهم ما كان الدكتور المهدي المنجرة ،شافاه الله، يعنيه بالضبط حينما كان يتحدث في مستقبلياته عن اقتصاد المعرفة ،و عصر الثروة الرقمية، الذي لن تصمد فيه أبدا الا الشعوب الواعية بتخلفها ،والساعية إلى تجاوزه ،ضمن الأسرة الدولية المجلة للمعرفة. ان الثراء الذي ظل ،على مدى القرون الماضية،لا يتأتى إلا للجماعات والأفراد ، من خلال استثمار رؤوس أموال ضخمة ،بكيفية ذكية ،بات اليوم ممكنا بالمعلومة الرقمية فقط ،المبحرة عبر الشبكة ،والمستحوذة،فيها،على أكبر مساحة ممكنة ؛دون خيل ولا بارود؛ولا طائرة ولا غواصة. كل مجد غوغل مؤسس على جهد فردي لشاب طموح ،احتضنه مرآب العائلة؛بكل " ثروته" التي لم تكن تتجاوز ثمن الحاسوب الذي اشتغل عليه.ثم صار غوغل قارة سادسة ،أو قل كوكبا رقميا. ولم يسر هذا الشاب العبقري سوى على خطى شاب مثله ؛لعله ،في بداياته ،لم يكن يحلم أن يحقق كل ما تحققه ميكروسوفت الآن. لقد استوقفني كثيرا سلوك بيل غيتس وهو يتنازل عن نصف ثروته (أربعون مليار دولار) للأعمال الخيرية ،عبر العالم. لم أجد الا تفسيرا واحدا مقنعا؛يتمثل في تغير مفهوم الثروة ذاتها ،وتبدل سلوك الناس ازاءها بتبدل أساليب مراكمتها. ان من شأن تحصيل ثروات فلكية ،بأكبر قدر من الذكاء،وفي أقل وقت ممكن أن ينعكس حتما على ذهنية هذه السلالة البشرية ،حتى لا ترى المال بنفس النظرة التقليدية. ومن أروع ما قاله غيتس عن ثروته: آنا مدين بها للناس ؛وعليه فهي لهم. من هذه الزاوية نفهم لم حققت هيسبريس كل نجاحها ؛دون أن نعثر حتى على إشهار واحد لها، تستقطب به القراء الرقميين ؛العابرين في وميض عابر. لقد قيل بأنها ابتدأت برأسمال قدره ألفا درهم ،وهي مستقرة الآن على "دومين" تقدر قاعدته بملايين الدراهم. هل فهمتم شيئا في هذا الحساب؟ وقبله هل فهمتم شيئا بالنسبة للمحرك غوغل ، والولد غيتس؟ وحده الدكتور المنجرة بشر بهذا. عاصمة بأي مقياس؟ لا أعتقد أن الرباط تستقبل يوميا نصف مليون وافد عليها لأغراض إدارية. ولا أعتقد أن في العاصمة ،وفي الأقاليم، من المسؤولين، من يبدأ يومه دون إطلالة ، ولو قصيرة،على شريط أخبار هيسبريس؟ حتى رئيس الحكومة طلب من برلمانيي حزبه ،ذات يوم، أن يشتغلوا بدل ملاحقة أخبار هيسبريس. لا أعتقد أن من المسؤولين الكبار من لا يطمئن يوميا على وضعه الرقمي؛هل هو صاعد أم نازل في بورصة العاصمة الرقمية. وما من كاتب ،تنشر له هيسبرس ،إلا ويأسره مقاله ؛من حيث نسبة المشاهدة والتقييم وعدد التعاليق ومستواها. لقد جربت أن أنشر في هيسبريس – عدا مقالاتي- مطلبا حيويا لإعدادية بنيابة بركان ؛كان عدد من تلميذاتها مهددات بالتخلي عن الدراسة لعدم وجود حيز لهن بالداخلية ؛نشر الخبر ليلا ،مرفوقا بصورة الوزير السابق للقطاع ؛وفي الغد اتصل بي مصدر الشكاية، شاكرا مسعاي ؛وأخبرني أنه استدعي من طرف النائب الاقليمي، صباح النشر، ليخبر بأن المشكل حل. هل هي عاصمة أم لا ؟ لو قصدت وزارة التربية مباشرة لما وجدت من يهتم بمشكل تلميذات في إعدادية شرقية قصية. لكن أن تنشر هيسبريس الغسيل فهذا موضوع آخر. هل يمكن لهذه العاصمة أن تتهيكل أكثر؟ نعم كأن تربط مع كتابها علاقات إنسانية وظيفية،معرفية، تختلف عن علاقة الجبلاوي بحارته: الإشعار بالتوصل ، الإحاطة برفض النشر،درءا للانتظار ؛ولو دون تبرير؛ تهاني المناسبات .... إضافة إلى الحرية الكاملة التي يتمتع بها الكتاب ،في اقتراح المواضيع،وهي مهمة جدا ،ألا يمكن إضافة محاور معينة يحددها الموقع ،وتقترح على الكتاب حسب التخصص والمؤهلات؟ تحقيق تكافؤ الفرص بين جميع الكتاب ؛من حيث النشر،والحيز و مدة الظهور.... وما المانع من النشر،حتى باللغات الأجنبية؟لقد جربت أن أوجه مقالا بلغة موليير فلم ينشر . سنظل أوفياء لعاصمتنا الرقمية،وسنمضي معها بنفس الروح التي جعلت المسؤولين يفكرون في هيكلة كورنيش الرباط ،بمنتهى الروعة. فقط نتمنى أن تخرج حكومتها من الظل ،وتثري الرقمي بالإنساني الذي يفتقده. دمتم في خدمة المغرب الرقمي... [email protected]