تشهد الساحة الإعلامية المغربية تزايدا ملحوظا في تناول عدد من القضايا التعليمية في بلادنا،حيث أولت القنوات والصحافة الورقية والمواقع الإلكترونية مؤخرا اهتماما بالغابالمسألة التعليمية مسلطة الضوء على عدد من الاختلالات التي تطبع المشهد التربوي المغربي.ولكن للأسف الشديد لم تكن هذه التغطيةنزيهة ولا موضوعية في مجملها،ولم يكن دافعها الحرص على الارتقاء بالتعليموانتشاله من المكانة المزرية التي يرزح فيها منذ عقود ما بعد الاستقلال،بقدر ما كانت تصب في اتجاه استهلاك بعض المواضيع المتقادمة التي كانت تتناولها بعض فئات المجتمع وإعادة إنتاجها في ثوب إعلامي،وذلك بغية الإثارة ومجاراة الخطاب الشعبوي،باعتبار أن المواضيع التي يحشر فيها رجل التعليم في العادة تحظى باهتمام شعبي واسع. ليس فقط الإثارة من تدفع بهذه المواضيع على السطح،فالأخطر من الإثارة خدمة بعض الأجندات الرسميةالموجهة الساعيةمن جهة لرمي الكرة في ملعب الأساتذة والمعلمين وتحميلهم المسؤولية لوحدهم عنفشل المنظومة التعليمية والاستقالة بذلك من مسؤولياتها، ومن جهة أخرى تتبع عورة رجال ونساء التربية والتعليم بغية إسقاط هيبتهم من نفوس الناس. لست من رواد نظرية المؤامرة ولا أحب تفسير الأمور بشكل تآمري، لكن ما يجري في الآونة الأخيرة في عدد من وسائل الإعلام من تجييش وتهييج للمجتمع المغربي، المعبأ أصلا ضد رجل التعليم، أمر غير مقبول على الإطلاق ولا يمكن أن يكون عفويا بحال، لا سيما أن إعلامنا جله غير مستقل ومنحاز بصفة عامة للأطروحات المخزنية. من يتأمل تاريخ المغرب المعاصر يدرك جيدا أن النظام المغربي لم يكن يوما متحمسا لأي مشاريع تحررية أو تنموية،فما يهمه هو الحفاظ على أركانه ومصالحهمفقط،وأن هذا لن يتأتى له إلا بالولاء الأعمى للغربما دامت كل الأوراق في يده حسب اعتقاده، من هنا كان التعليم دائما يشكل بالنسبة له عبئا وليس استثمارا في الرأس المال البشري الثروة الحقيقية لأي أمة.ولم يكن الحديث عن إصلاح هذا القطاع أو تطويره من فينة لأخرى إلا استجابة لضغوط هذا الغرب، فأغلب المبادرات التي عرفها المغرب كانت مجرد تنفيذلإملاءات المؤسسات الدولية خصوصا ذات الطابع الاقتصادي، والتي كانت تسوق داخليا على أنها مشاريع إصلاحية تنفيسا للاحتقان الشعبي المتنامي. المخزن المغربي شأنه شأن باقي النظم الاستبدادية كان على وعي تام بأن لا مصلحة له في تنوير شعبه وإخراجه من براثن الجهل والأمية لكي يسهل عليه استغلاله واستعباده،وترسخ عنده هذا المعنى مع ما رآه النظام من فئة المتعلمين في السنوات الأولى من الاستقلال،مما جعل الحسن الثاني يعرب عن تذمره من هذا الأمر في أكثر من تصريح،خلاف من كان يسهل اقتيادهم من باقي فئات الشعب. يبدو أن للنظام المغربي ثأرا خاصا مع رجال التعليم باعتبارهم أكثر فئة صمدت وواجهت مخططاته مقارنة بالشرائح الأخرى،حتى أن أشرس معارضي النظام في الغالب كانوا من هذا القطاع. مما جر عليهم نقمة المخزن وتحولت مكانتهم بفعل سياسات الدولة تجاههمإلى الحضيض،فبعد أن كان رجل التعليم يحظى بمكانة رفيعة في المجتمع أصبح مثار سخرية وتنكيت الجميع. مع كل هذا فقد ظل رجل التعليم شوكة في حلق المسؤولين، ذلك أنهرغما عن كل الممارسات بحقهما زال معتزا بكرامته، ما ألب عليه عددا من أقرانه العاملين في بعض القطاعات الأخرى الذين ينالون قسطا وافرا من الإذلال في حياتهم المهنية مع رؤسائهم في العمل. لا ينبغي أن يفهم من هذا الكلامأن العاملين في حقل التعليم منزهون عن أي خطأ،فليس الهدف من هذا المقال إضفاء أي نظرة مثالية على سلوكهموعلى ممارساتهم إنما ندعو للإنصاف وعدم التعامل معهم كأنهم شياطين.لا يكاد يخلو أي قطاع من الانتهازيين وأصحاب المصالحوميدان التعليم بالتأكيد ليس استثناء،فإذا تحدثنا عن ظواهر مثل الغش أو النصب أو التحرش الجنسي أو غياب الإحساس بالمسؤولية أو انعدام الضمير المهني من الخطأقصرها على ميدان دون آخر هي ظواهر عامة متفشية في جسد الأمة المغربية من الرأس إلى سائر الأعضاء. لكن المثير للاستفزاز حين تتولى بعض المنابر الأستاذية على رجال التعليم ورميهم وحدهم بكل موبقات الدنيا بكلام سوقي مبتذل فاقد لأي قيمة علمية. فمن يتهم سائر الأساتذة بممارسات لا أخلاقية عليه أن يعطي أرقاما وإحصائيات وليس من باب حدثني فلان الفلاني وغيرها من أحاديث المفلسين من رواد المقاهي، كأن يتم التطرق لبضعة حوادث اغتصاب قام بها بعض الأساتذة في مناطق متفرقة من هذا الوطن، ويتم تبعا لهذاتعميم ذلك على الآلاف المؤلفة من الأطر التعليمية. ثمة مصلحة مشتركة بين من يستهدفون المشتغلين في التربية والتعليم بالمغرب، فإذا كان المسؤولون يهربون من المسؤولية بتحميلها للأساتذة من باب رمتني بدائها وانسلت،فإن البعض لا يستطيع أن يضع أصبعه على الجرح الغائر ويفضل الالتهاء بمضاعفاته فقط،ولأن الأساتذة ليسوا مخلوقات مفترسة لا أنياب لهم فقد أضحوا بمثابة شماعة يعلق عليها وزر تخلف المنظومة التعليميةبأكملها.لا عجب إذن أن نسمع بيغاوات إعلامية تستنسخ خطاب المسؤولين، لا سيما الحديث عنأن الإصلاح وقف عند باب القسم لكأنكل شيء على ما يرام في هذا البلد السعيد فقط المدرسون من يتقاعسون عن أداء واجبهم المهني،في الوقت الذي لم يقدم فيه المشرفون على هذا الحقل أي شيء يستحق الإشادة به سوى تبذير هائل للأموال في أمور ليست ذات أولية وبطريقةتثير كثيرا من الريبة والشك في النفوس، فيما يعاني المغرب العميق الذي ما زال محسوبا عمليا على القرون الغابرة ولا تتوفر فيه حتى شروط الحياة الكريمة فضلا عن أن ينتظر منه حياة مدرسية سليمة،ولا يقل الوضع في المدن سوءا إذ كيف نرتقب تحسن المردودية في ظل عدد من المشاكل ليس أقلها الاكتظاظ المهول في الفصول الدراسية. حالة الانهيار الشامل الذي يعاني منه المغرب في شتى المجالات ومنها التعليم تستدعي من الجميع وقفة تأمل عميقة بعيدا عن المزايدات والمناكفات الضيقة، التي لا تقدم أي حلول حقيقية بقدر ما تزيد في شحن المغاربة وتقسيمهم،من أجل تحميل الجميع مسؤولياتهم بحجم ما يملكون من صلاحيات حتى نوصل بلدنا إلى بر الأمان.