النقاش العمومي حول دفاتر التحملات التي أعدتها وزارة الاتصال، يكشف بشكل واضح أن هناك حاجة ماسة إلى ضرورة ترسيخ الوعي، لدى الكثير من الفاعلين السياسيين والمسؤولين الكبار داخل دواليب الدولة، بالقدسية السياسية التي ينبغي أن تحظى بها الثقافة المؤسساتية كترجمة عملية للبناء النظري الديمقراطي الذي نفترض أن بلادنا قد راكمت فيه من التجارب مايؤهلها لأن تكون دولة مؤسسات واضحة الاختصاصات،خاصة بعد الاستفتاء على الدستور والاستحقاق الانتخابي الأخير الذي أفرز لأول مرة حكومة سياسية منبثقة عن صناديق الاقتراع. ومهما اختلفت تقديراتنا لهذه المرحلة،ومواقفنا السياسية، فلا أحد منا يستطيع أن ينكر أن بلادنا بصدد تجربة سياسية مختلفة عن سابقاتها من أوجه متعددة لسنا بصددها الآن. لكن الأكيد أيضا هو أن فعل الانتقال هذا لا يمكن أن يحدث بسهولة، في بيئة راكمت سنوات من الممارسة السياسية الفاسدة، وفرخت العديد من المنتفعين والانتهازيين وسماسرة الصفقات وغيرهم من تجار الرداءة. واليوم حين تعتزم الحكومة فتح ورش الإعلام من خلال وضع دفاتر تحملات أشاد بها مختلف الفاعلين الإعلاميين النزهاء من داخل المؤسسات المعنية، تنتصب القوى المعادية للتغيير من أجل تكريس الوضع القائم والدفاع عن"المكتسبات"، وهو سلوك ليس جديدا وإنما اعتدنا التعايش معه في ظل الحكومات السابقة التي كان وزراء إعلامها يجدون أنفسهم عاجزين عن فعل أي شيء حتى ولو صرحوا برغبتهم في الاكتفاء بتغيير الأفكار فقط، وليس الأشخاص، ليستسلموا في النهاية إلى القبول بواقع تتحكم فيه هذه القوى التي تطل علينا اليوم دون أن تصرح للشعب المغربي بدوافعها الحقيقية. فالمتتبع للشأن السياسي المحلي يتفهم موقف المعارضة، ورغبتها في أن تكون طرفا فاعلا ومؤثرا في الحوار حول مستقبل الإعلام الوطني كقضية تهم كل المغاربة، كما أن المتتبع يتفهم موقف بعض المثقفين الذين تعرضوا لدفاتر التحملات بالمناقشة والتحليل وإبداء الرأي في ما اعتبروه قصورا، فذلك من حقهم كمؤسسة تمارس التأطير والتنوير والتوجيه، ولا يحق لأحد أن يصادر هذا الحق إلا على حساب المكتسبات الوطنية في مجال حرية التعبير. ينطبق الأمر ذاته على الصحافة المستقلة الورقية والالكترونية، وقوى المجتمع المدني التي بوأها الدستور الجديد مكانة متقدمة لتمارس صلاحياتها كقوة اقتراحية موازية لمؤسسات الدولة دون أن يعني ذلك بالضرورة أي شكل من أشكال التماهي. وهي من هذا المنطلق مدعوة إلى الانخراط في النقاش العمومي حول وضعية الإعلام الرسمي، حتى يكون المواطن المغربي على بينة من كل القضايا المصيرية التي تهم مستقبل بلاده. فإذا تفهمنا تدخل كل هذه المؤسسات في مناقشة دفاتر التحملات و تمحيص فصولها وموادها ومرجعيتها القانونية والثقافية، فإننا لا نفهم البتة المواقف التي أعلن عنها بعض المسؤولين ليس فقط من حيث المضمون، ولكن أيضا من حيث الصفة التي يتحدث بها هؤلاء الذين يفترض فيهم أنهم يسهرون على تنفيذ سياسة الحكومة في القطاع التابع لهم، خاصة إذا اتخذ الاعتراض طابعه الرسمي من حيث هو تعبير عن آراء العاملين بالمؤسسات المعنية،بينما المتتبع للتصريحات التي أدلى بها هؤلاء العاملون، يكشف عن مواقف أخرى تثمن "جميع الأشياء التي جاء بها دفتر التحملات والجديدة كليا على الحقل الإعلامي" كما جاء على لسان أحد صحفيي القناة الثانية، الذي لم يختلف موقفه عن غيره من كثير من الصحفيين الذين اعتبروا الرجة التي أحدثتها دفاتر التحملات الحالية نتيجة طبيعية لحالة الصدمة التي أصيب بها كثير ممن ألفوا الاشتغال في السراديب بضمانات استثنائية، حان الوقت للقطع معها من أجل سياسة إعلامية تنتمي لهذا الشعب الذي صوت لهذه الحكومة ومنحها ثقته على أساس تعاقد انتخابي تنفذ بموجبه الحكومة سياستها في مجال الإعلام، وإلا ما فائدة وضع البرامج الانتخابية وتقديمها للناخب. إذا كانت هناك قوى أخرى ليس لها أية هوية دستورية، ولا تخضع لأية محاسبة انتخابية، ومع ذلك تستمر في الاعتراض على سياسة الحكومة، فتمارس تمارين التمرد والانفلات من أجل الإبقاء على وضعية الغموض والفوضى وغياب الشفافية، وقتل الطاقات المبدعة التي تنتظر الفرصة المناسبة للتعبير عن ذاتها، خاصة أن المطلع على دفاتر التحملات، في صيغتها النهائية، أي بعد إقرارها من طرف المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري، يدرك أن بعضا من سر هذه الممانعة،في اعتقادي، لا يكمن، فقط، في قضية توقيت نشرة الأخبار باللغة الفرنسية، أو في تراجع الطابع الترفيهي الذي تسعى القناة الثانية إلى أن يكون أحد عناوينها المميزة، ولكن أيضا لأن فرض برامج حوارية متعددة خلال الأسبوع، سيفرض على القنوات المعنية الاحتفاء بالطاقات الإعلامية وإعطاءها الفرصة لكي تثري النقاش العمومي في مختلف القضايا، وهو أمر يزعج القائمين على هذه القنوات، الذين يرغبون في صرف الميزانيات الضخمة، وبدوافع غير مفهومة، على أعمال لا يشاهدها المغاربة، دون أي حس وطني يتوق إلى خلق إعلام تنافسي يساهم في بناء وعي المواطن دون الحاجة إلى إعلام أجنبي، أثبتت التجربة قدرته على التأثير العميق في الفعل السياسي والثقافي،بينما إعلامنا مشغول بتسطيح الوعي وبتبذير المال الذي يدفعه المغاربة مكرهين وهم في أمس الحاجة إليه. [email protected]