تمهيد: الإصلاح الدستوري الذي عرفه المغرب مؤخرا ، تحت تأثير وضغط الحراك الشعبي، الذي شهده العالم العربي و المغرب كذلك، وتنظيم انتخابات نزيهة في 25 نونبر 2011، سيدفع لا محالة إلى فتح أوراش إصلاحات أخرى تهم العديد من القطاعات، ولعل أهمها و أكثرها استعجالا هو إصلاح قطاع الإعلام العمومي، بشكل جوهري وجدي، بعيدا عن الإصلاحات الشكلية، العديمة الأثر في الواقع (1) لما للإعلام من دور حيوي في إصلاح باقي القطاعات. الإعلام العمومي يمكن أن يكون المؤسس و المحرك للحوار، والمحفز للنقاش، والمنتج للأفكار، وهو النار المنضجة للأطروحات و المشاريع، والمبرزة للاختلاف والتنوع في الآراء والمواقف. فالإعلام رافعة أساسية للتنمية وقوة دفع لعملية الانتقال الديمقراطي (2)، إلى جانب كونه آلية محورية من آليات تشكيل الرأي العام (3) حول القضايا المصيرية للشعب والوطن والأمة والدولة . ولكن ما العمل إذا كانت هذه القاطرة المعول عليها في ريادة وقيادة الإصلاح هي بدورها مصابة بأعطاب قاتلة، تحول دون قيامها بدورها، ما لم يتم تغيير محركها بالكامل، الى جانب استبدال العديد من قطع الغيار بها. و تشحيم وتزيت العديد من دواليبها المتصدئة ؟ ففي ظل كون إعلامنا العمومي - المتمثل أساسا في قنوات القطب العمومي، بما فيها القنوات التلفزية التابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة ( الوطنية منها والجهوية )، وقنوات دوزيم التابعة ل(الشركة المغربية للإخراج والدراسات السمعية -البصرية)، المعروفة اختصارا بشركة صورياد، و وكالة المغرب العربي للإنباء، وقناة مدي1 سات - غير قادر على مواكبة الإصلاحات بالمتابعة والنقد والتوجيه وإنضاج الأفكار والتصورات، و بالمساهمة في عملية دمقرطة الدولة والمجتمع، و في ظل كون هذا الإعلام عاجزا عن مسايرة التطورات الجديدة في مجال تكنولوجيا المعلوميات و ما تطرحه من تحديات المنافسة(4)، يجب من جديد طرح التساؤلات و الأسئلة الحقيقية عن السياسة الإعلامية التي ينهجها المسئولون عن هذا القطاع، حول هذه السياسة القائمة على تصور معين للإعلام ولأهدافه ، والمبنية على رؤية تؤطر الإعلام العمومي وظائفه. ومن خلال المتابعة المستمرة لتطور لإعلامنا العمومي ورصد ما عرفه من تغييرات سواء على مستوى الهياكل و المسئولين و البرامج ، يتضح للمراقب والباحث في هذا الشأن، أن لا شيء تغير في هذا المجال، سوى الأشكال والمظاهر ، إذ لا زال هذا الإعلام محكوم بمجموعة من التوابث التي تشكل عوائق كابحة لتطوره، و لم تستطيع كل التحولات العملاقة التي عرفتها الإنسانية في هذا المجال أن تزحزح السياسة الإعلامية العمومية بالمغرب عن هذه الثوابت العائقة لكل إصلاح و تطوير لهذا الإعلام ،و هذا ما سنقوم بمحاولة تحليله خلال هذا العرض، حتى نستوعب لما ذا لم يستطع إعلامنا العمومي القيام بوظائفه الأساسية. - 1- غياب رؤية إعلامية إستراتيجية في ظل غياب المشروع المجتمعي الواضح المعالم لدى الدولة بصفة عامة، مشروع مجتمعي تحكمه رؤية شاملة لسياساتها في كل القطاعات التي تدبرها، رؤية بأهداف (بعيدة ومتوسطة وقريبة المدى) تسعى إلى تحقيقها عبر برامج قطاعية مندمجة ومتناسقة ( التعليم – الثقافة – الإعلام - الشأن الديني – الأمن – الإدارة – الاقتصاد ...)، حيث يكون قطاع الإعلام العمومي منسجما ومتناغما مع قطاعات التعليم والثقافة والشأن الديني، باعتبارها من القطاعات العاملة والمساهمة في تشكيل عقل وشخصية المواطن و وعيه، أكثر مما تعمل على الاستجابة للحاجيات المستعجلة للهواجس الأمنية والسياسية، رؤية تقوم على تحديد للأولويات و ترتيبها وفق حاجيات المجتمع و التحديات التي تواجه. في غياب تلك الرؤية الشاملة ظلت و ستظل السياسة الإعلامية مرتبكة و مضطربة ومحكومة بالطوارئ والبرامج الاستعجالية، و يظل و سيظل الإعلام العمومي يغرد بعيدا عن القطاعات الأخرى. ولذلك يلاحظ المتتبع لما تبثه وسائل إعلامنا كيف تتناقض السياسة الإعلامية في الغالب مع السياسة الثقافية و السياسة التعليمية و السياسة الدينية، إن لم نقل أن وسائل إعلامنا العمومية تقوم بهدم ونقض كل ما تقوم القطاعات الأخرى ببناءه (التعليم و التربية و الثقافة و الشؤون الإسلامية )، نتيجة لذلك التخبط و الارتجالية، مما جعل الإعلام العمومي مجرد بوق دعائي ينشر بروبكاندا الدولة المخزنية، كما تعدها وزارة الداخلية و جماعات الضغط الخفية، باعتبارها المتحكمة في هذا القطاع والموجهة لسياسته. إذن فغياب هذه الرؤية والرسالة الإعلامية جعل إعلامنا العمومي تابعا لوزارة الداخلية والمتحكمين في الأجهزة الأمنية منذ انشاءه، أكثر من قربه و انسجامه مع القطاعات القريبة منه في الوظيفة والرسالة و هي التعليم والثقافة والشؤون الإسلامية. - 2- التحكم الأمني: غياب سياسة إعلامية مندمجة مع باقي القطاعات الأخرى المهتمة بتشكيل شخصية المواطن المغربي، جعلت الإعلام العمومي مجرد ملحقة بوزارة الداخلية ومن خلفها من لوبيات، يستجيب للمتطلبات الأمنية و الحاجيات السياسية و التوجه الثقافي لهذه الأخيرة، ويعبر عن هواجسها الأمنية السياسية و الثقافية، حيث كان مسئولو الداخلية يتحكمون في كل شيء، وهذا وجه من وجوه انعدام الديمقراطية. فالدولة المخزنية لم تعتبر في يوم من الأيام إعلامنا إعلاما عموميا، الذي يقتضي أن يكون في خدمة المجتمع بكل فئاته و ليس الدولة و أجهزتها الأمنية. وعليه بقي الإعلام العمومي مجرد إحدى آليات الضبط الأمني(5). و لذلك ليس غريبا أن تكون وزارة الإعلام تابعة لوزارة الداخلية في فترة من الفترات، لتنتقل بعد ذلك إلى وزارة الخارجية، حيث يتعامل معها دائما كحقيبة وزارية ملحقة، قبل أن تستقل بذاتها منذ حين، في وقت لم يعد فيه مكان لوزارات الاتصال أو الإعلام بالدول الديمقراطية. ولا شيء يثير العجب، عندما كان على رأس إدارة الإذاعة والتلفزة المغربية رجال سلطة من درجة عامل( هو محمد طريشة) من 1985 إلى 2002، ومن درجة قائد ممتاز كمدير القناة الأولى ( محمد الايساري) ومدير الإذاعة (عبد الرحمن عاشور) خلال تلك الفترات، وهم من موظفي وزارة الداخلية. وبعد محمد طريشة عين فيصل العرايشي على إدارة القناة الأولى و حتى بعد تشكيل قطب الإعلام العمومي تم تعين هذا الأخير على إدارته، وهو ليس سوى واحدا من رجالات الرجل رقم اثنين في الدولة ، وهو الوزير المنتدب سابقا في وزارة الداخلية و المستشار في القصر حاليا. أما القناة الثانية فرغم تغيير مدراءها ثلاث مرات ، وهم بالمناسبة من المقربين لصناع القرار السياسي والأمني بالمغرب، فان الثابت فيها هو التحكم في القناة من طرف المرأة الحديدية، سميرة سيطايل مديرة مديرية الأخبار، ذات العلاقة الوطيدة بالرجل الثاني في الدولة فؤاد عالي الهمة، وحيث يتغير كل المسئولين بالقناة إلا هي. إلى جانب قنوات القطب العمومي، هناك وكالة المغرب العربي للأنباء، التي تأسست شركة خاصة سنة1959، من طرف المرحوم مهدي بنونة، ليتم تأميمها سنة 1974، هذه الأخيرة التي توجد تحت وصاية وزارة الاتصال شكلا، والخاضعة لتعليمات الداخلية والمسئولين الأمنيين دائما، ولا يعين على رأسها إلا الشخصيات القريبة من الدوائر الأمنية، من عبد الجليل فنجيرو(أحد رجال إدريس البصري) مرورا بياسين المنصوري(زميل الملك في الدراسة)، ومدير إدارة الوثائق والمستندات(المخابرات الخارجية)، و محمد خباشي، وهو قريب من ياسين المنصوري، وعلي بوزردة، وصولا الى خليل الهاشمي الادريسي حاليا، المعروف بخدمته و ولاءه لجهات أمنية في الدولة منذ أن كان مؤسسا للجريدة الفرونكوفونية "أوجوردوي لوماروك". نفس الأمر والمنطق يتحكم في تشكيل الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري (الهاكا) التي تم إحداثها في 31 غشت 2004، في إطار ما سمي بإصلاح القطاع السمعي البصري وتحريره(6)، من أجل تنظيم القطاع السمعي /البصري و تدبيره، وهي الهيئة التي ليست في النهاية سوى استشارية و تحكيمية، لدى الملك والحكومة، وهي في الأخير تشرف على سياسة الدولة في هذا القطاع لذلك فمعظم أعضاء مجلسها الإداري ، لا سابقا و لا حاليا، لا علاقة لهم بالإعلام السمعي البصري، و ليسوا سوى من رجالات السيد فؤاد عالي الهمة، بل منهم من كان ومازال من المؤسسين معه لحزب الأصالة والمعاصرة، كالياس العماري وصلاح الوديع، في تشكيلتها الأولى و الآن خديجة الكور- على سبيل المثال لا الحصر- في تشكيلتها الحالية ، مما يتناقض مع أبسط الشروط التي يجب أن تتوفر في أعضاء هيئة تدعي لنفسها الاستقلالية وتتحمل مسؤولية التحكيم بين الفرقاء في قطاع الإعلام السمعي / البصري، فحتى بعد تجديد مجلس الهاكا يوم 24 ماي2011 ، تبين أن غالبيتهم من المعروفين بقربهم من فؤاد عالي الهمة. نفس نهج التحكم الأمني والسياسي ، يسري على باقي مؤسسات الإعلام العمومي بالمغرب، سواء تعلق الأمر بالقنوات الإذاعية الجهوية (11 إذاعة جهوية) أو قناة العيون التلفزية الجهوية ، أو قناة ميدي1 الإذاعية أو التلفزية ميدي1 تيفي سابقا، وميدي1 سات حاليا، التي كانت الدولة ومازالت تتحكم فيها من خلال أسهمها. لقد كان قطاع الإعلام العمومي يدبر من خارج الوزارة المشرفة عليه، ومن خارج الحكومة، و تعود المسئولين عليه ذلك، حيث كان و مازال من "المحميات" الخاصة لصانعي القرار في المملكة ، رغم تبعيته الشكلية للحكومة، حيث لا سلطة فعلية لوزير الاتصال على مدراء المؤسسات الإعلامية التابعة شكليا لوزارته، و على رأسها القطب العمومي للإعلام بشركاته وقنواته المتعددة. - 3- التأميم والاحتكار: توجه الدولة إلى التحكم الأمني والسياسي في الإعلام العمومي دفع بها إلى نهج سياسة تأميم جميع قنواته ومؤسساته ، بدءا بوكالة المغرب العربي للأنباء التي تم تأميمها مند سنة 1974 ، مرورا بالقناة الثانية التي تأميمها سنة 1995 (7) ، وانتهاء بقناة ميدي1 سات المأممة سنة2009 من خلال ملكية صندوق الإيداع والتدبير ل 51 بالمائة من أسهمها، الى جانب شركة اتصالات المغرب ، حيث أصبح عبد السلام أحيزون مديرا عاما لها (8). فادراكا من الدولة لأهمية الإعلام (خاصة السمعي البصري) و و وعيا منها بخطورته، و في الوقت الذي تتوجه فيه هذه الدولة إلى خوصصة وتحرير كل شيء في باقي القطاعات الأخرى، رغم حيويتها الاقتصادية الكبيرة ومردوديتها المالية المضمونة و عائدها الاجتماعي العالي حيث تمت خوصصة الشركات الاقتصادية والمؤسسات المالية والصناعية الإستراتيجية ( لاسمير – محطات توليد الطاقة الكهربائية – اتصالات المغرب البنوك..) مرورا بخوصصة المؤسسات التعليمية ، و انتهاء بالتفكير في خوصصة المكاتب الوطنية ( الماء – الكهرباء – البريد – السكك الحديدية..)، دون الحديث عن خوصصة المؤسسات الجماعية في إطار التدبير المفوض . و تناقضا مع سياسة خوصصة كل مؤسسات الدولة ، فقد تم تأميم القناة الثانية ، بعدما كانت أول قناة تلفزية خاصة ، مملوكة لشركة أونا ، وكما تم تأميم قناة ميدي1 سات هي الأخرى. و رغم التضخم الكبير في الخطاب الرسمي حول تحرير القطاع السمعي البصري، و ما سيسمح به للخواص بالاستثمار في هذا المجال ، فان الدولة لم تستطيع الترخيص في هذا المجال إلا لبعض المشاريع المتمثلة في القنوات الإذاعية الغنائية و الموسيقية، التي لا تسير إلا في نفس توجه السياسة الإعلامية التي تنهجها الدولة في الوسائل الإعلامية العمومية ، في حين لم تسطيع إلى حد الآن المغامرة بالترخيص و لو لمشروع واحد لقناة تلفزية، وذلك راجع إلى توجسها الكبير من هذا النوع من المشاريع، التي تهدد احتكارها و هيمنتها على هذا المجال(9). ويعتبر التضييق المستمر على الصحافة المستقلة ، وخنقها بالملاحقات القضائية واعتقال الصحافيين، أكبر دليل على أن الحديث عن تحرير القطاع السمعي البصري ليس الهدف منه هو خلق إعلام مهني و تنافسي قوي ، يشكل رافعة للتنمية ، إنما هو تمكين لوبيات مالية تابعة للسلطة من السيطرة على قطاع الإعلام، قصد التحكم إنتاج و إعادة إنتاج نفس خطاب السلطة وممارستها الإعلامية، وتقديم صورة مزيفة عن الديموقراطية في قطاع الإعلام للخارج. فالمؤسسة الإعلامية الوحيدة التي تمت خوصصتها هي مجموعة ماروك سوار للصحافة المكتوبة، وجاء ذلك إطار وعي المخزن بالتراجع الكبير للإعلام المكتوب، وهي كانت مشرفة على الإفلاس أصلا، من حيث مبيعاتها الضعيفة، والقليلة التأثير في الرأي العام، في ظل مجتمع أكثر من نصفه أمي، و غالبية النصف الأخر منه توجه للصحافة الالكترونية والقنوات الفضائية، إذن فنحن أمام "مخزن إعلامي" يحتكر كل شيء في الإعلام العمومي (10). - 4- الجمود على التصور التقليدي للإعلام رغم التطور الكبير الذي عرفه عالم الإعلام و الاتصال من خلال الثورة التكنولوجية المعلوماتية ، التي خلخلت كل المفاهيم القديمة حول الإعلام و الاتصال، و التي استطاعت قلب العديد من التصورات العتيقة السائدة والحاكمة للإعلام إلى غاية التسعينات من القرن الماضي، فان السياسة الإعلامية الرسمية بالمغرب ، مازالت رهينة ذلك التصور التقليدي القائم على احتكار الدولة للبث التلفزي والإذاعي، و التحكم في كل مصادر المعلومة و موارد الخبر، تصور للإعلام العمومي مستمد من وضع تقني متجاوز، و قائم على واقع سياسي واجتماعي متخلف، في عهد كان مفروضا فيه على المواطنين أن لا يتابعوا غير إذاعتهم الوطنية أو الجهوية ، أو تلفزتهم الوطنية، التي تبت برامجها من السادسة مساء إلى الواحدة صباحا. فالقائمون على الإعلام في المغرب مازالوا يتعاملون مع المغاربة و كأن التلفزة المغربية والإذاعة الوطنية هي مصدرهم الوحيد والأوحد للتزود بالمعلومة و معرفة الأخبار والمستجدات ومتابعة الوقائع و الأحداث داخل المغرب و خارجه. المسئولون على الإعلام العمومي بالمغرب ما زالوا يفكرون و يتصرفون بمنطق الندرة في عرض المعلومات، كما كان سائدا في السابق ، وليس بمنطق الوفرة في عرضها(11) كما فرضته الثورة المعلوماتية حاليا. ففي الوقت الذي عرف العالم تطورات هائلة في قطاع الإعلام والاتصال، وصل معه إلى درجة تهديد بعض أنواع وسائل الإعلام بالانقراض أو الإفلاس(12)، إذا لم تقم بمواكبة هذه التطورات العلمية والتقنية، وحيث قلبت الشبكات الرقمية ( الانترنيت – المواقع الاجتماعية ..) طبيعة الإعلام وخلخلت أدوات اشتغاله والنماذج الاقتصادية التي أنبنى عليها لعقود عديدة انصرمت . أضحت الحاجة حاليا ملحة لإعادة تموقعه وإعادة النظر في خياراته واستراتيجياته (13). فقد استطاعت الوسائط الجديدة ، وخاصة الانترنيت ، عبر المواقع الاجتماعية (الفايسبوك و تويتر..) و مواقع الفيديو(اليوتوب و دايلي موشن.) و غيرها، أن توفر لكل إنسان و مجانا - باستثناء طبعا فتورة الكهرباء والربط و الحاسوب أو الهاتف النقال- " قناته التلفزية الخاصة" به ، لبث البرامج التي يريد، و وقت ما يريد، و من أي مكان يريد ، و"جريدته الخاصة" لنشر كلما يرغب فيه من مقالات و أعمدة و حوارات و روبورتاجات و تحقيقات، و ما يشاء من صور و رسومات و فيديوات، و كيفما أراد هذه الجريدة، شهرية أو أسبوعية أو يومية أو على مدار الساعة. فكل مواطن اليوم بإمكانه أن يتوفر على وسيلة إعلامه الخاصة العابرة للأوطان و القارات ، و بكل اللغات ، و التي يبث فيها كل ما يحلو له من رأي، و يذيع منها كل ما يريد من موقف ، و ينشر فيها ما يشاء من نقد ، و ينتقد و يعلق فيها على ما يرغب من أوضاع، وفي تفاعل أني ومستمر مع غيره. هذه الثورة أوقفت احتكار الإعلام من طرف الحكام و الحكومات.و بذلك وضعت حدا للمفاهيم والتصورات القديمة للإعلام والاتصال. وفي ظل عدم قدرة إعلامنا العمومي على مواكبة هذا التطور الهائل في وسائل الاتصال ، وما أفرزته من منطق جديد ، يتميز بمنح المواطنين آلاف الخيارات و وضع أمامهم العديد من الوسائل و المكانات ، وبتكاليف منخفضة و بسرعة الضوء ، لمتابعة ما يجري من أحداث وتطورات و وقائع في بلدهم و في العالم، كل ذلك جعل إعلامنا العمومي غير قادر على المنافسة، و فاقدا للمصداقية والجودة . - 5 - التعتيم و الإغراق في الاستعراضية. إذا كان الاحتكار والتحكم الأمني والتوظيف السياسي للإعلام العمومي يقود منطقيا إلى ممارسة التعتيم على المواطنين، من حيث عدم تزويدهم بالخبر والمعلومة حول الأحداث والتطورات التي تقع في بلدهم و خارجه، فان غياب الرؤية الإستراتيجية والجمود على تصور تقليدي للإعلام يدفع بدوره إعلامنا العمومي إلى الإغراق في البرامج الاستعراضية والاحتفالية. إن المتابع والمتتبع لإعلامنا العمومي سيحار حول الخط التحريري والقيم الإخبارية(14) التي يتبناها مسئولو مؤسسات هذا الإعلام. حيث سيلاحظ نوعا من العشوائية في انتقاء الأخبار المختلفة حول ما يجري داخل البلاد وخارجها ، بشكل لا يمكن الحديث معه عن امتلاك هذا الإعلام لزاوية نظر محددة للأحداث، ومن الصعب الكلام عن صناعة الخبر(15) في وسائل إعلامنا العمومي، وما يتطلبه ذلك من اعتبارات مهنية، من مصداقية واحترافية و استقلالية، وما يخضع له من معايير موضوعية ثابتة ، حيث يخضع الخبر في إعلامنا العمومي للتقلبات والظروف السياسية المحيطة والمؤثرة في الواقفين وراءه. كما لا يمكن الحديث عن سعي إعلامنا العمومي إلى خلق رأي عام حول القضايا الأساسية للوطن والشعب والأمة(16). فإذا كانت القيم الإخبارية لأية وسيلة إعلامية تقوم على ترتيب أخبارها حسب سلم من الأولويات في البرمجة و التقديم، وفق القضايا المحورية و الطموحات الكبيرة والحاجيات الأساسية الخاصة للجمهور الذي تتوجه إليه بأخبارها ، وبناء على سلم من القيم الإخبارية ، فان الباحث المتتبع لوسائل إعلامنا العمومية، سيلاحظ أنها لا تملك أي سلم للقيم الإخبارية، باستثناء ثبات الأولوية في النشرات الإخبارية للأنشطة الملكية، وما دون ذلك يخضع لمزاج المسئولين، والأجواء المتغيرة لديهم من يوم لأخر، ومن أسبوع لأخر ، ومن شهر لأخر ، دون أخذ للاعتبارات الموضوعية المعتمدة من طرف كل وسائل الإعلام الإخبارية العالمية، التي تحترم المهنية والموضوعية في تقديم الأخبار. لذلك فقد يقوم إعلامنا العمومي بإهمال والتعتيم على أحداث و وقائع مهمة داخل المغرب، ويقدم عليها أخبارا تتعلق بدول أسيا الوسطى أو أمريكا اللاتينية، بل من الممكن أن يتعامى هذا الإعلام على وقائع تهم قضية الوحدة الترابية ، ويركز على أخبار تافهة، وطنية كانت أو خارجية. كما يقوم هذا الإعلام العمومي في العديد من الأحيان بتقديم أخبار قد تكون غير مؤكدة، إذا تعلق الأمر بتصفيات حسابات سياسية أو إيديولوجية من طرف الواقفين وراءه مع طرف سياسي أو اجتماعي ما. كما يفتح الباب على مصراعيه أمام وجوه معينة للمرور بهذا الإعلام وتقصى وجوه أخرى(17). وتغطية إعلامنا العمومي للأخبار الغريبة والعجيبة (18) ليس لكونها من سلم قيمه الإخبارية، وإنما للتوظيف السياسي و الإيديولوجي، إما لتشويه صورة وسمعة من يراهم أعداء سياسيين أو إيديولوجيين،أو لتوجيه أنظار المشاهدين والمستمعين والقراء إلى قضايا تافهة. لذلك كانت ومازالت النشرات الإخبارية لإعلامنا العمومي هزيلة وبدون مصداقية، وتفتقر للموضوعية و المهنية. ولم تسعى قنواتنا التلفزية والإذاعية يوما إلى السبق الإخباري في تغطية الإحداث، حتى داخل المغرب ، مما يجعل المشاهد والمستمع المغربي مجبرا على التوجه للقنوات الأجنبية للتزود بالإخبار حتى حول حول المغرب، فما بالنا بأخبار الخارج. على مستوى باقي البرامج، فإذا كان للإعلام العديد من الوظائف التربوية والتثقيفية والاجتماعية والترفيهية(19) ، والتي من خلالها يسعى إلى تحديد "جدولة الأعمال"(20) في مستوى طموح المشاهد و المستمع والقارئ .، فان إعلامنا العمومي لا يملك في هذا الإطار أية رؤية ، لذلك يستغرق في البرامج الغنائية والموسيقية و الأفلام و المسلسلات الأجنبية ( المكسيكية – التركية – الكورية – المصرية – السورية ..)التافهة التي لا تنشأ شخصية ولا تصقل موهبة ، ولا تغدي عقلا ، ولا تنعش نفسا. وبالعكس يبدو هذا الإعلام العمومي و كأنه يستهدف بالنقض والهدم حتى ما تسعى باقي القطاعات الأخرى إلى بناءه ( التعليم – الثقافة – الشؤون الإسلامية..) . حيث أصبح أداة تدجين وفرض لثقافة الرداءة و الميوعة والاستهتار بالقيم المجتمعية، التي لا يمكن أن تنتج غير المواطن السلبي اللامبالي الذي لا يملك أي حس نقدي لأوضاعه السياسية الاجتماعية والثقافية و الاقتصادية. و بذلك سيبقى المتلقي المغربي" يتجول بين محطات التلفزات الأجنبية، ولأن مضمون التلفزيون المغربي لا يستجيب إلى تطلعاته ، و سوف يبقى على هذا المنوال.. موليا الأدبار عن واقعه الثقافي والفكري والسياسي" (21). ختاما لا يمكن لإعلامنا العمومي التطور و السير قدما بدون تجاوز هذه العوائق البنيوية بإصلاح جدري، يروم دمقرطة هذا الإعلام، لجعله رافعة للتنمية ، وليس بإصلاحات شكلية ، تغير في المظاهر و الأشكال ، وتبقي على الجوهر المخزني كما هو مند نهاية الخمسينات من القرن الماضي. الإحالات: - (1)- يحيى اليحياوي –في القابلية على التواصل ( التواصل في محق الانترنيت و عولمة المعلومات) – منشورات عكاظ 2010 ص 240 - (2) – نفس المرجع ص235 - (3)- علي عبد الحسن رزق – دور وسائل الإعلام في صناعة الرأي العام – مجلة المنطلق(اللبنانية) - العدد 107 ربيع 1994 – ص 26 - (4)- يحيى اليحياوي- المرجع السابق –ص 118 - (5)- التحرير الكامل للقطاع المسموع والمرئي بعد سنة - طلحة جبريل - المغرب : – جريدة الشرق الأوسط – العدد8782 – 14دجنبر 2002 - (6) – تم إحداثها بمقتضى الظهير الشريف رقم 212,02,1 الصادر في 22 من جمادى الآخرة 1423 (31غشت2002) - (7) - دوزيم بين الخوصصة وتدبير القطاع الخاص – توفيق نادري – جريدة المساء يوم 01/11/2010 - (8)- ماذا بعد تأميم «ميدي 1 سات»؟ - جريدة الاتحاد الاشتراكي – يوم 18/09/2009 - (9)- انظر - أعمال ندوة : واقع الإذاعات الخاصة بالمغرب من تنظيم مركز الدراسات والأبحاث المعاصرة - بموقع الجزيرة نت http://www.aljazeera.net/NR/exeres/56075B6A-CA4C-46BC-9E33-202B1A1005B1.htm?wbc_purpose=%22 - (10) – يحيى اليحياوي - التحرير تحكم فيه قرار سياسي ممركز وضغط اقتصادي لجهات في فلك السلطة - جريدة "اليسار الموحد", أسبوعية, , 19-25 دجنبر 2003 -(11) – يحيى اليحياوي - في القابلية على التواصل- ص 125 - (12)- نفس المرجع ص 118 -(13)- نفس المرجع –ص 127 - (14) – جاك لول – القيم الإخبارية في العوالم الثلاثة - من كتاب: دليل الصحفى في العالم الثالث - تأليف ألبرت . ل. هستر + واي لان.ج . تو –– ترجمة : كمال عبد الرءوف – الدار الدولية للنشر والتوزيع طبعة 1988 - ص 37 القيم الإخبارية في الدول الغربية تقوم على مبادئ : 1- الفورية -2- قرب مكان الخبر للقارئ -3- الشخصيات البارزة -4-الأحداث الغريبة – 5- الاهتمام الإنساني -6- الصراعات والحروب. - (15)- محمد محسن – الإعلام الغربي وسلطة المصدر الرسمي – نفس المرجع السابق ص 54 -(16) – انظر النقد الموجه للإعلام العمومي من طرف البرلمانيين حول تقصيره في الاهتمام وتناول قضية الوحدة الترابية. http://www.akhbarona.com/news5283.html -(17)- كلمة الإعلامي عبد الصمد بن شريف في يوم دراسي نظمه منتدى أطر الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تحت عنوان: علم السياسية و تحولات الإعلام السمعي البصري بالمغرب ، يوم الخميس 15 يناير 2009، بكلية الحقوق بالرباط أكدال ، حيث قال بنشريف بالحرف : " كنت رئيس تحرير الأخبار بالقناة الثانية "دوزيم"، وأعرف كيف تعد الأخبار، و" كنعرف بالتلفون فلان خاصو يدوز"... -(18) - حسب القيم الإخبارية الغربية ، تكون الأحداث الغريبة من الأخبار المثيرة للرأي العام، لذلك قال أحدهم :"إذا عض كلب رجلا فهذا ليس خبرا ، وإذا عض رجل كلبا فهذه مادة صحفية مهمة" انظر: جاك لول – القيم الإخبارية في العوالم الثلاثة - مرجع سابق – الصفحة 43 -(19)- عبد اللطيف كدائي – الطفل والإعلام : أثر التلفزيون في شخصية الطفل المغربي- سلسلة عالم المعرفة العدد 33 الصفحة 22-23 -(20)- نظرية " جدولة الأعمال" من النظريات التي تفترض لوسائل الأعلام تأثيرا قويا في تكوين الرأي العام ، حيث ترى أن وسائل الإعلام لا تحدد للفرد كيف يفكر ، إنما تحدد له الموضوع الذي يجب أن يفكر فيه، ويناقشه، ولهذا تشكل تلك الوسائل جدولا أو لائحة بالمواضيع التي يجب أن تكون موضع تفكير ومناقشة من قبل الجماهير ، و ذلك من خلال اختيار البرامج الإخبارية والإعلامية والترفيهية المبثوتة عبر تلك الوسائل. انظر: علي عبد الحسن رزق – دور وسائل الإعلام في صناعة الرأي العام – مجلة المنطلق(اللبنانية) - العدد 107 ربيع 1994 – ص 26 -(21) – الخبير في الإعلام : محمد بلغازي في حوار لجريدة التجديد – العدد الصادر يوم 21 يونيو 2004