فتح ورش الإصلاح الدستوري الذي عرفه المغرب مؤخرا ، تحت تأثير وضغط الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب خاصة ، العالم العربي عموما ، مند شهر ديسمبر الماضي، سيدفع لا محالة إلى فتح أوراش إصلاحات أخرى تهم العديد من القطاعات، ولعل أهمها و أكثر استعجالا هو إصلاح قطاع الإعلام العمومي ، بشكل جوهري وجدي ، بعيدا عن الإصلاحات الشكلية ، العديمة الأثر في الواقع (1) لما للإعلام من دور حيوي في إصلاح باقي القطاعات ، بما في الإصلاح الدستوري ، باعتباره المحرك للحوار ، والمحفز للنقاش ، والمؤسس للحوار ، والمنتج للأفكار، و النار المنضجة للأطروحات و المشاريع ، و المبرز للاختلاف والتنوع في الآراء والمواقف،. فالإعلام رافع أساسية للتنمية و قوة دفع لعملية الانتقال الديمقراطي (2)، إلى جانب كونه آلية محورية في تشكيل الرأي العام (3) حول القضايا المصيرية للشعب والأمة والدولة ، و في مقدمتها الإصلاح الدستوري، باعتباره المدخل الضروري لكل الإصلاحات . فالإعلام العمومي هو قاطرة الإصلاح التي تجر باقي عربات الإصلاح في القطاعات الأخرى . ولكن ما العمل إذا كانت هذه القاطرة المعول عليها في ريادة وقيادة الإصلاح هي بدورها مصابة بأعطاب قاتلة، ولا يمكن لها أن تقوم بدورها ، ما لم يتم تغيير محركها بالكامل والعديد من قطع الغيار بها.، و تشحيم وتزيت العديد من دواليبها المتصدئة .؟ في ظل كون إعلامنا العمومي ،المتمثل أساسا في قنوات القطب العمومي، بما فيها القنوات التلفزية التابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة ( الوطنية منها والجهوية ) وقنوات دوزيم التابعة ل(الشركة المغربية للإخراج والدراسات السمعية -البصرية) المعروفة اختصارا بشركة صورياد ، و وكالة المغرب العربي للإنباء، وقناة مدي1 سات، غير قادر على مواكبة الإصلاحات بالمتابعة والمراقبة والنقد والتوجيه وإنضاج الأفكار والتصورات، و بالمساهمة في عملية دمقرطة الدولة والمجتمع، وعاجز عن مسايرة التطورات الجديدة في مجال تكنولوجيا المعلوميات و ما تطرحه من تحديات المنافسة(4)، تطرح من جديد أسئلة عن السياسة الإعلامية التي ينهجها المسئولون عن هذا القطاع، هذه السياسة قائمة على تصور معين للإعلام وأهدافه ، ومبنية على رؤية تؤطر الإعلام العمومي وظائفه. ومن خلال المتابعة المستمرة لتطور لإعلامنا العمومي ورصد ما عرفه من تغييرات سواء على مستوى الهياكل و المسئولين وحتى البرامج ، يتضح للمراقب والباحث في هذا الشأن، أن لا شيئ تغير في هذا المجال، سواء الأشكال والمظاهر ، إذ لا زال هذا الإعلام محكوم بمجموعة من التوابث التي تشكل عوائق كابحة لتطوره ، و التي لم تستطيع كل التحولات العملاقة التي عرفتها الإنسانية في هذا المجال أن تزحزح السياسة الإعلامية للدولة عن هذه الثوابت العائقة لكل إصلاح و تطوير لهذا الإعلام ،و التي سنقوم بمحاولة تحليلها خلالها هذا العرض، حتى نستوعب لما ذا لم يستطع إعلامنا العمومي القيام بوظيفته الأساسية. أ- غياب رؤية إعلامية إستراتيجية في ظل غياب المشروع المجتمعي الواضح المعالم لدى الدولة بصفة عامة، مشروع مجتمعي تحكمه رؤية شاملة لسياساتها في كل القطاعات التي تدبرها، رؤية بأهداف (بعيدة ومتوسطة وقريبة المدى) تسعى إلى تحقيقها عبر برامج قطاعية مندمجة ومتناسقة ( التعليم – الثقافة – الإعلام - الشأن الديني – الأمن – الإدارة – الاقتصاد ...)، حيث يكون قطاع الإعلام العمومي منسجما ومتناغما مع قطاعات التعليم والثقافة والشأن الديني، باعتارها من القطاعات العاملة والمساهمة في تشكيل عقل وشخصية المواطن و وعيه، أكثر من العمل على الاستجابة للحاجيات المستعجلة للهواجس الأمنية والسياسية. رؤية محددة للأولويات . في ظل غياب هذه الرؤية الشاملة تظل السياسة الإعلامية مرتبكة و مضطربة ومحكومة بالطوارئ، و يظل الإعلام العمومي يغرد بعيدا عن القطاعات الأخرى، ولذلك يلاحظ المتتبع لما تبثه وسائل إعلامنا كيف تتناقض السياسة الإعلامية في الغالب مع السياسة الثقافية و السياسة التعليمية و السياسة الدينية ، إن لم نقل أن وسائل إعلامنا العمومية تقوم بهدم ونقض كل ما يقوم قطاع التعليم وقطاع الثقافة وقطاع الشؤون الإسلامية ببنائه ، ونتيجة ذلك التخبط و الارتجالية ، مما جعل الإعلام العمومي مجرد بوق دعائي ينشر بروبكاندا الدولة المخزنية، كما تعدها وزارة الداخلية باعتبارها المتحكمة في هذا القطاع. إذن فغياب هذه الرؤية والرسالة الإعلامية جعلت إعلامنا العمومي تابعا لوزارة الداخلية والمتحكمين في الأجهزة الأمنية أكثر من قربه و انسجامه مع القطاعات القريبة منه في الوظيفة والرسالة و هي التعليم والثقافة والشؤون الإسلامية. ب- التحكم الأمني: غياب سياسة إعلامية مندمجة مع باقي القطاعات الأخرى المهتمة بتشكيل شخصية المواطن المغربي، جعلت الإعلام العمومي مجرد ملحقة بوزارة الداخلية ، يستجيب للحاجيات الأمنية لهذه الأخيرة ، ويعبر عن هواجسها السياسية ، حيث يتحكم مسئولو الداخلية في كل شيء، وهذا وجه من وجوه انعدام الديمقراطية ، فالدولة لم تعتبر يوما إعلامنا إعلاما عموميا ، مما يقتضي أن يكون في خدمة المجتمع بكل فئاته و ليس أجهزة الدولة الأمنية. حيث اعتبر الإعلام العمومي مجرد إحدى آليات الضبط الأمني(5)، و ليس غريبا أن تكون وزارة الإعلام تابعة لوزارة الداخلية في فترة من الفترات ، لتنتقل بعد ذلك إلى وزارة الخارجية، حيث يتعامل معها دائما كحقيبة وزارية ملحقة ، قبل أن تستقل بذاتها حاليا ، في وقت لم يعد فيه مكان لوزارات الاتصال أو الإعلام بالدول الديمقراطية. و لا شيء يثير العجب ، عندما كان على رأس إدارة الإذاعة والتلفزة المغربية رجل سلطة من درجة عامل( هو محمد طريشة) من 1985 إلى 2002 ، إلى جانب مدير التلفزة الأولى ( محمد الايساري) ومدير الإذاعة (عبد الرحمن عاشور) ، وهم من موظفي وزارة الداخلية . وبعد محمد طريشة عين فيصل العرايشي على إدارة القناة الأولى ، و حتى بعد تشكيل قطب الإعلام العمومي تم تعين هذا الأخير على إدارته، وهو ليس سوى واحدا من رجالات الرجل رقم اثنين في الدولة ، وهو الوزير المنتدب سابقا في وزارة الداخلية .. أما القناة الثانية فرغم تغيير مدراءها ثلاث مرات ، وهم بالمناسبة من المقربين لصناع القرار السياسي والأمني بالمغرب ، فان الثابت فيها هو التحكم في القناة من طرف المرأة الحديدية ، سميرة سيطايل ، مديرة مديرية الأخبار، ذات العلاقة الوطيدة بالرجل الثاني في الدولة فؤاد عالي الهمة. إلى جانب قنوات القطب العمومي ،هناك وكالة المغرب العربي للأنباء ، التي تأسست شركة خاصة سنة1959 ، من طرف المرحوم مهدي بنونة ، ليتم تأميمها سنة 1974، هذه الأخيرة التي توجد تحت وصاية وزارة الاتصال شكلا ، و الخاضعة دائما لتعليمات الداخلية و المسئولين الأمنيين، و لا يعين على رأسها إلا الشخصيات القريبة من الدوائر الأمنية ، من عبد الجليل فنجيرو(أحد رجال إدريس البصري) مرورا بياسين المنصوري(زميل الملك في الدراسة) ، و مدير إدارة الوثائق والمستندات(المخابرات الخارجية) ، و محمد خباشي حاليا ، وهو قريب من ياسين المنصوري، وصولا إلى علي بوزردة حاليا. نفس الأمر والمنطق يتحكم في تشكيل الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري (الهاكا) التي تم إحداثها في 31 غشت 2004 ، في إطار ما سمي بإصلاح القطاع السمعي البصري وتحريره(6)، من أجل تنظيم القطاع السمعي /البصري و تدبيره التي ليس في النهاية سوى هيئة استشارية، لدى الملك والحكومة، وهي في الأخير تشرف على سياسة الدولة في هذا القطاع لذلك فمعظم أعضاء مجلسها الإداري لا علاقة لهم بالإعلام السمعي البصري ، و ليسوا سوى من رجالات السيد فؤاد عالي الهمة ،بل منهم من كان ومازال من المؤسسين معه لحزب الأصالة والمعاصرة ،كالياس العماري و صلاح الوديع ، مما يتناقض مع أبسط الشروط التي يجب أن تتوفر في أعضاء هيئة تدعي لنفسها الاستقلالية وتتحمل مسؤولية التحكيم بين الفرقاء في قطاع الإعلام السمعي / البصري، وبعد تجديد أعضاء مجلس الهاكا يوم 24 ماي2011 ، تبين أن غالبيتهم من المعروفين بقربهم من فؤاد عالي الهمة. ونفس نهج التحكم الأمني والسياسي ، يسري على باقي مؤسسات الإعلام العمومي بالمغرب، سواء تعلق الأمر بالقنوات الإذاعية الجهوية (11 إذاعة جهوية) أو قناة العيون التلفزية الجهوية ، أو قناة ميدي1 الإذاعية أو التلفزية ميدي1 تيفي سابقا ، وميدي1 سات حاليا ، التي كانت الدولة ومازالت تتحكم فيها من خلال أسهمها . فقطاع الإعلام العمومي يدبر حاليا من خارج الوزارة المشرفة عليه ، ومن خارج الحكومة ، حيث يعتبر من "المحميات" الخاصة لصانعي القرار في المملكة ، رغم تبعيته الشكلية للحكومة، حيث لا سلطة لوزير الاتصال على مدراء المؤسسات الإعلامية التابعة شكليا لوزارته ، و على رأسها القطب العمومي للإعلام بشركاته وقنواته المتعددة. ج- التأميم والاحتكار: توجه الدولة إلى التحكم الأمني والسياسي في الإعلام العمومي دفع بها إلى نهج سياسة تأميم جميع قنواته ومؤسساته ، بدءا بوكالة المغرب العربي للأنباء التي تم تأميمها مند سنة 1974 ، مرورا بالقناة الثانية التي تأميمها سنة 1995 (7) ، وانتهاء بقناة ميدي1 سات المأممة سنة2009 ، من خلال ملكية صندوق الإيداع والتدبير ل 51 بالمائة من أسهمها ، حيث أصبح عبد السلام أحيزون مديرا عاما لها (8). و وعيا من الدولة بأهمية الإعلام (خاصة السمعي البصري) و إدراكا منه لخطورته كذلك ،و في الوقت الذي تتوجه فيه هذه الدولة إلى خوصصة وتحرير كل شيئ في باقي القطاعات الأخرى، رغم حيويتها الاقتصادية الكبيرة ومردوديتها المالية المضمونة و عائدها الاجتماعي العالي، بدءا بخوصصة الشركات الاقتصادية والمؤسسات المالية والصناعية الإستراتيجية ( لاسمير – محطات توليد الطاقة الكهربائية – اتصالات المغرب البنوك..) مرورا بخوصصة المؤسسات التعليمية ، و انتهاء بالتفكير في خوصصة المكاتب الوطنية ( الماء – الكهرباء – البريد – السكك الحديدية..)، دون الحديث عن خوصصة المؤسسات الجماعية في إطار التدبير المفوض . فقد تم تأميم القناة الثانية ، بعدما كانت أول قناة تلفزية خاصة ، مملوكة لشركة أونا ، وكما تم تأميم قناة ميدي1 سات هي الأخرى . رغم التضخم الكبير في الخطاب الرسمي حول تحرير القطاع السمعي البصري، و ما سيسمح به للخواص بالاستثمار في هذا المجال ، فان الدولة لم تستطيع الترخيص في هذا المجال إلا لبعض المشاريع المتمثلة في القنوات الإذاعية الغنائية و الموسيقية، التي لا تسير إلا في نفس توجه السياسة الإعلامية التي تنهجها الدولة في الوسائل الإعلامية العمومية نفسها ، في حين لم تسطيع إلى حد الآن المغامرة بالترخيص و لو لمشروع قناة تلفزية واحدة، وذلك راجع إلى توجسها الكبير من هذا النوع من المشاريع ، التي تهدد احتكارها لهذا المجال(9). ويعتبر التضييق المستمر على الصحافة المستقلة ، وخنقها بالملاحقات القضائية واعتقال الصحافيين، أكبر دليل على أن الحديث عن تحرير القطاع السمعي البصري ليس الهدف منه خلق إعلام مهني و تنافسي قوي ، يشكل رافعة للتنمية ، إنما هو تمكين لوبيات مالية تابعة للسلطة من السيطرة على قطاع الإعلام، ولإعادة إنتاج نفس خطاب السلطة وممارستها الإعلامية ، وتقديم صورة مزيفة عن الديموقراطية في قطاع الإعلام للخارج. فالمؤسسة الإعلامية الوحيدة التي تمت خوصصتها هي مجموعة ماروك سوار للصحافة المكتوبة، وجاء ذلك إطار وعي المخزن بالتراجع الكبير للإعلام المكتوب ، وهي كانت مشرفة على الإفلاس أصلا، من حيث مبيعاتها الضعيفة ، والقليلة التأثير في الرأي العام ، في ظل مجتمع أكثر من نصفه أمي ، و غالبية النصف الأخر توجه للصحافة الالكترونية والقنوات الفضائية، إذن فنحن أمام "مخزن إعلامي" يحتكر كل شيئ في الإعلام العمومي بعد احتكاره للقرار السياسي والاقتصادي (10). د- الجمود على التصور التقليدي للإعلام رغم التطور الكبير الذي عرفه عالم الإعلام و الاتصال من خلال الثورة التكنولوجية المعلوماتية ، التي خلخلت كل المفاهيم القديمة حول الإعلام ، و التي استطاعت قلب العديد من التصورات العتيقة التي كانت سائدة وحاكمة للإعلام إلى غاية التسعينات من القرن الماضي، فان السياسة الإعلامية الرسمية بالمغرب ، مازالت رهينة ذلك التصور التقليدي القائم على احتكار الدولة للبث التلفزي والإذاعي، و التحكم في كل مصادر المعلومة و موارد الخبر، تصور للإعلام العمومي مستمد من وضع تقني متجاوز ، و قائم على واقع سياسي واجتماعي متخلف ، كان يفرض على المواطنين أن لا يتابعوا غير إذاعتهم الوطنية أو الجهوية ، أو تلفزتهم الوطنية التي تبت برامجها من السادسة مساء إلى الواحدة صباحا. فالقائمون على الإعلام في المغرب مازالوا يتعاملون مع المغاربة و كأن التلفزة المغربية والإذاعة الوطنية هي مصدرهم الوحيد والأوحد للتزود بالمعلومة و معرفة الأخبار والمستجدات ، ومتابعة الوقائع و الأحداث، في داخل المغرب و خارجه. المسئولون على الإعلام العمومي بالمغرب ما زالوا يفكرون و يتصرفون بمنطق الندرة في عرض المعلومات ، كما كان سائدا في السابق ، وليس بمنطق الوفرة في عرضها(11) كما فرضته الثورة المعلوماتية حاليا. ففي الوقت الذي عرف العالم تطورات هائلة في قطاع الإعلام والاتصال، وصل معه إلى درجة تهديد بعض أنواع وسائل الإعلام بالانقراض أو الإفلاس(12) إذا لم تقم بمواكبة هذه التطورات العلمية والتقنية، وحيث قلبت الشبكات الرقمية ( الانترنيت – المواقع الاجتماعية ..) "طبيعة الإعلام وخلخلت أدوات اشتغاله والنماذج الاقتصادية التي أنبنى عليها لعقود عديدة ، انصرمت .. أضحت الآن ذاته وسيلة ناجعة لإعادة تموقعه وإعادة النظر في خياراته واستراتيجياته" (13). فقد استطاعت الوسائط الجديدة ، وخاصة الانترنيت ، عبر المواقع الاجتماعية (الفايسبوك و تويتر..) و مواقع الفيديو(اليوتوب و دايلي موشن.) و غيرها، أن توفر لكل إنسان و مجانا - باستثناء طبعا فتورة الكهرباء والربط و الحاسوب أو الهاتف النقال- في الكرة الأرضية ،" قناته التلفزية الخاصة" به ، لبث البرامج التي يريد، و وقت ما يريد، و من أي مكان يريد ، و"جريدته الخاصة" الخاصة لنشر كلما يرغب فيه من مقالات و أعمدة و حوارات و روبورتاجات و تحقيقات، و ما يشاء من صور و رسومات، و فيديوات و كيفما أراد هذه الجريدة، شهرية - أسبوعية - يومية أو على مدار الساعة. فكل مواطن اليوم بإمكانه أن يتوفر على وسيلة إعلامه الخاصة العابرة للأوطان و القارات ، و بكل اللغات ، و التي يبث فيها كل ما يحلو له من رأي، و يذيع منها كل ما يريد من موقف ، و ينشر منها ما يشاء من نقد ، و ينتقد و يعلق فيها على ما يرغب من أوضاع، وفي تفاعل أني ومستمر مع غيره . هذه الثورة أوقفت احتكار الإعلام من طرف الحكام و الحكومات.و بذلك وضعت حدا للمفاهيم والتصورات القديمة للإعلام والاتصال. في ظل عدم قدرة إعلامنا العمومي على مواكبة هذا التطور الهائل في وسائل الاتصال ، وما أفرزته من منطق جديد ، يتميز بمنح المواطنين آلاف الخيارات و وضع أمامهم العديد من الوسائل وبتكاليف منخفضة و بسرعة الضوء ، لمتابعة ما يجري من أحداث وتطورات و وقائع في بلدهم و في العالم، جعله غير قادر على المنافسة و فاقدا للمصداقية والجودة . ه - التعتيم و الإغراق في الاستعراضية. إذا كان الاحتكار والتحكم الأمني والتوظيف السياسي للإعلام العمومي يقود منطقيا إلى ممارسة التعتيم على المواطنين، من حيث عدم تزويدهم بالخبر والمعلومة حول الأحداث والتطورات التي تقع في بلدهم و خارجه، فان غياب الرؤية الإستراتيجية والجمود على تصور تقليدي للإعلام يدفع بدوره إعلامنا العمومي إلى الإغراق في البرامج الاستعراضية والاحتفالية. إن المتابع والمتتبع لإعلامنا العمومي سيحار حول الخط التحريري والقيم الإخبارية(14) التي يتبناها مسئولو مؤسسات هذا الإعلام. حيث سيلاحظ نوعا من العشوائية في انتقاء الأخبار المختلفة حول ما يجري داخل البلاد وخارجها ، بشكل لا يمكن الحديث معه عن امتلاك هذا الإعلام لزاوية نظر محددة للأحداث، ومن الصعب الكلام عن صناعة الخبر(15) في وسائل إعلامنا العمومي، وما يتطلبه ذلك من اعتبارات مهنية، من مصداقية واحترافية ، وما يخضع له من معايير موضوعية ثابتة ، حيث يخضع الخبر في إعلامنا العمومي للتقلبات والظروف السياسية المحيطة والمؤثرة في الواقفين وراء هذه الوسائل ، كما لا يمكن الحديث عن سعي إعلامنا العمومي إلى خلق رأي عام حول القضايا الأساسية للوطن والشعب والأمة(16). فإذا كانت القيم الإخبارية لأية وسيلة إعلامية تقوم على ترتيب أخبارها حسب سلم من الأولويات في تقديم الأخبار ،و وفق القضايا المحورية و الطموحات الكبيرة والحاجيات الأساسية الخاصة للجمهور الذي تتوجه إليه بأخبارها ، وبناء على سلم القيم الإخبارية تقدم نشراتها الإخبارية ، فان الباحث المتتبع لوسائل إعلامنا العمومية، سيلاحظ أنها لا تملك أي سلم للقيم الإخبارية، باستثناء ثبات الأولوية في النشرات الإخبارية للأنشطة الملكية، وما دون ذلك يخضع لمزاج المسئولين، والأجواء المتغيرة لديهم من يوم لأخر، ومن أسبوع لأخر ، ومن شهر لأخر ، دون الاعتبارات الموضوعية المعتمدة من طرف كل وسائل الإعلام الإخبارية ، التي تحترم المهنية والموضوعية في تقديم الأخبار. لذلك فقد يقوم إعلامنا العمومي بإهمال والتعتيم على أحداث و وقائع مهمة داخل المغرب، ويقدم عليها أخبارا تتعلق بدول أسيا الوسطى أو أمريكا اللاتنية ، بل من الممكن أن يتعامى هذا الإعلام على وقائع تهم قضية الوحدة الترابية ، ويركز على أخبار تافهة، وطنية كانت أو خارجية. كما يقوم هذا الإعلام العمومي في العديد من الأحيان بتقديم أخبار قد تكون غير مؤكدة ، إذا تعلق الأمر بتصفيات حسابات سياسية أو إيديولوجية من طرف الواقفين وراء هذا الإعلام مع طرف سياسي أو اجتماعي ما. كما يفتح الباب على مصرعيه أمام وجوه معينة للمرور بهذا الإعلام وتقصى وجوه أخرى(17) وتغطية إعلامنا العمومي للأخبار الغريبة والعجيبة (18) ليس لكونها من سلم قيمه الإخبارية، وإنما للتوظيف السياسي و الإيديولوجي، إما لتشويه صورة وسمعة من يراهم أعداء سياسيين أو إيديولوجيين،أو لتوجيه أنظار المشاهدين والمستمعين والقراء إلى قضايا تافهة . لذلك كانت ومازالت النشرات الإخبارية لإعلامنا العمومي هزيلة وبدون مصداقية، وتفتقر للموضوعية و المهنية . ولم تسعى قنواتنا التلفزية والإذاعية يوما إلى السبق الإخباري في تغطية الإحداث، حتى داخل المغرب ، مما يجعل المشاهد والمستمع المغربي مجبرا على التوجه للقنوات الأجنبية للتزود بالإخبار حول المغرب. على مستوى باقي البرامج، فإذا كان للإعلام العديد من الوظائف التربوية والتثقيفية والاجتماعية والترفيهية(19) ، والتي من خلالها يسعى إلى تحديد "جدولة الأعمال"(20) في مستوى طموح المشاهد و المستمع والقارئ .، فان إعلامنا العمومي لا يملك في هذا الإطار أية رؤية ، لذلك يستغرق في البرامج الغنائية والموسيقية و الأفلام و المسلسلات الأجنبية ( المكسيكية – التركية – الكورية – المصرية – السورية ..)التافهة التي لا تنشأ شخصية ولا تصقل موهبة ، ولا تغدي عقلا ، ولا تنعش نفسية. وبالعكس يبدو أن هذا الإعلام العمومي يستهدف بالنقض والهدم حتى ما تسعى باقي القطاعات الأخرى إلى بناءه ( التعليم – الثقافة – الشؤون الإسلامية..) . حيث أصبح أداة تدجين وفرض لثقافة الميوعة والاستهتار بالقيم المجتمعية ، التي لا يمكن أن تنتج غير المواطن السلبي اللامبالي الذي لا يملك أي حس نقدي لأوضاعه السياسية الاجتماعية والثقافية و الاقتصادية. و بذلك سيبقى المتلقي المغربي" تجول بين محطات التلفزات الأجنبية، ولأن مضمون التلفزيون المغربي لا يستجيب إلى تطلعاته فإنه سوف يبقى على هذا المنوال.. موليا الأدبار عن واقعه الثقافي والفكري والسياسي" (21). ختاما لا يمكن لإعلامنا العمومي التطور و السير قدما بدون تجاوز هذه العوائق البنيوية بإصلاح جدري، يروم دمقرطة هذا الإعلام، لجعله رافعة للتنمية ، وليس بإصلاحات شكلية ، تغير في المظاهر ، وتبقي على الجوهر المخزني كما هو مند نهاية الخمسينات من القرن الماضي. الإحالات: - (1)- يحيى اليحياوي –في القابلية على التواصل ( التواصل في محق الانترنيت و عولمة المعلومات) – منشورات عكاظ 2010 ص 240 - (2) – نفس المرجع ص235 - (3)- علي عبد الحسن رزق – دور وسائل الإعلام في صناعة الرأي العام – مجلة المنطلق(اللبنانية) - العدد 107 ربيع 1994 – ص 26 - (4)- يحيى اليحياوي- المرجع السابق –ص 118 - (5)- التحرير الكامل للقطاع المسموع والمرئي بعد سنة - طلحة جبريل - المغرب : – جريدة الشرق الأوسط – العدد8782 – 14دجنبر 2002 - (6) – تم إحداثها بمقتضى الظهير الشريف رقم 212,02,1 الصادر في 22 من جمادى الآخرة 1423 (31غشت2002) - (7) - دوزيم بين الخوصصة وتدبير القطاع الخاص – توفيق نادري – جريدة المساء يوم 01/11/2010 - (8)- ماذا بعد تأميم «ميدي 1 سات»؟ - جريدة الاتحاد الاشتراكي – يوم 18/09/2009 - (9)- انظر - أعمال ندوة : واقع الإذاعات الخاصة بالمغرب من تنظيم مركز الدراسات والأبحاث المعاصرة - بموقع الجزيرة نت http://www.aljazeera.net/NR/exeres/56075B6A-CA4C-46BC-9E33-202B1A1005B1.htm?wbc_purpose=%22 - (10) – يحيى اليحياوي - التحرير تحكم فيه قرار سياسي ممركز وضغط اقتصادي لجهات في فلك السلطة - جريدة "اليسار الموحد", أسبوعية, , 19-25 دجنبر 2003 -(11) – يحيى اليحياوي - في القابلية على التواصل- ص 125 - (12)- نفس المرجع ص 118 -(13)- نفس المرجع –ص 127 - (14) – جاك لول – القيم الإخبارية في العوالم الثلاثة - من كتاب: دليل الصحفى في العالم الثالث - تأليف ألبرت . ل. هستر + واي لان.ج . تو –– ترجمة : كمال عبد الرءوف – الدار الدولية للنشر والتوزيع طبعة 1988 - ص 37 القيم الإخبارية في الدول الغربية تقوم على مبادئ : 1- الفورية -2- قرب مكان الخبر للقارئ -3- الشخصيات البارزة -4-الأحداث الغريبة – 5- الاهتمام الإنساني -6- الصراعات والحروب. - (15)- محمد محسن – الإعلام الغربي وسلطة المصدر الرسمي – نفس المرجع السابق ص 54 -(16) – انظر النقد الموجه للإعلام العمومي من طرف البرلمانيين حول تقصيره في الاهتمام وتناول قضية الوحدة الترابية. http://www.akhbarona.com/news5283.html -(17)- كلمة الإعلامي عبد الصمد بن شريف في يوم دراسي نظمه منتدى أطر الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تحت عنوان: علم السياسية و تحولات الإعلام السمعي البصري بالمغرب ، يوم الخميس 15 يناير 2009، بكلية الحقوق بالرباط أكدال ، حيث قال بنشريف بالحرف : " كنت رئيس تحرير الأخبار بالقناة الثانية "دوزيم"، وأعرف كيف تعد الأخبار، و" كنعرف بالتلفون فلان خاصو يدوز"... -(18) - حسب القيم الإخبارية الغربية ، تكون الأحداث الغريبة من الأخبار المثيرة للرأي العام، لذلك قال أحدهم :"إذا عض كلب رجلا فهذا ليس خبرا ، وإذا عض رجل كلبا فهذه مادة صحفية مهمة" انظر: جاك لول – القيم الإخبارية في العوالم الثلاثة - مرجع سابق – الصفحة 43 -(19)- عبد اللطيف كدائي – الطفل والإعلام : أثر التلفزيون في شخصية الطفل المغربي- سلسلة عالم المعرفة العدد 33 الصفحة 22-23 -(20)- نظرية " جدولة الأعمال" من النظريات التي تفترض لوسائل الأعلام تأثيرا قويا في تكوين الرأي العام ، حيث ترى أن وسائل الإعلام لا تحدد للفرد كيف يفكر ، إنما تحدد له الموضوع الذي يجب أن يفكر فيه، ويناقشه، ولهذا تشكل تلك الوسائل جدولا أو لائحة بالمواضيع التي يجب أن تكون موضع تفكير ومناقشة من قبل الجماهير ، و ذلك من خلال اختيار البرامج الإخبارية والإعلامية والترفيهية المبثوتة عبر تلك الوسائل. انظر: علي عبد الحسن رزق – دور وسائل الإعلام في صناعة الرأي العام – مجلة المنطلق(اللبنانية) - العدد 107 ربيع 1994 – ص 26 -(21) – الخبير في الإعلام : محمد بلغازي في حوار لجريدة التجديد – العدد الصادر يوم 21 يونيو 2004