من زمن بعيد، والعلماء يؤكدون أن الشريعة الإسلامية رحمة كلها وحكمة كلها، حتى اشتهر عن الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى قوله في هذا الشأن: (إن الشريعة مبناها وأساسُها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعَاد، وهي عدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل). [إعلام الموقعين:ج 3 / ص 3، من كتاب إلكتروني]. فهذه الشريعة الإسلامية، وما يُبْنَى على مصادرها الأصلية من القرآن والسنة من أحكام، وما يتأسس عليها من فتاوى، مما يستنبطه العلماء وأهل الرأي والاجتهاد، كل ذلك مبني على مبدأ الرحمة والعدل والحكة، لا يخرج عنه قدر شبر أبدا. فإنها شريعة الله رب العالمين، وهي مُنَزَّهَة مطلقا عن العبث والنقص والاختلال. إلا أن الفتاوى الشرعية، في حالات خاصة، تفقد هذا الميزان العادل، وهذه الحكمة الربانية، والرحمة الإلهية، فتتحول في نظر الكثير من الناس إلى أفكار مقطوعة عن أصولها ومبادئها، فتصبح مهزلة مَقِيتة، تَمُجُّها الأسماع وتنفر منها الطباع. ولا أدل على ذلك من بعض الفتاوى التي تتسع بين الناس، ويكثر حولها اللغط، وتُشْحَد حولها الأقلام المأجورة. والحاصل أن المأساة تبدأ من اختلال في ميزان تَنَزُّلِ الفتوى ومراعاة الحال والظرف، فالفتوى الخاصة بشخص أو ظرف أو حال، إذا توسعت دائرة المستفيدين منها، وتوسعت رقعة انتشارها، تحولت مجانا إلى مهزلة فكرية لا يرضاها مسلم لدينه. والفتوى إذا عُلِمَ أنها متوجهة في مقصودها إلى فرد بعينه، اِمْتَنَعَ شرْعا تعميمُها على أمة بأسرها، فلا يجوز بحال تعميم ما هو خاص، ولا تخصيص ما هو عام من أحكام الدين؛ وإلا تحولت الشريعة الإسلامية إلى فوضى في الأحكام، والعبث في المقاصد والغايات. إلا أن الإعلام في عصرنا يلعب دورا غيْرَ مرغوبٍ فيه، إذا نقل إلى عامة الناس ما هو خاص بأعيانهم من الفتاوى الفقهية الشرعية، فيتوَهَّم العامة أن هذه الفتاوى للعموم، ويُنَزِّلون حالات خاصة لبعض الناس على الواقع العام للأمة، فيفتح بذلك باب قاعدة الاستثناء بدل القاعدة الأصلية، مثلُ أن يُجيز العالم الفقيه لشخص بعينه أن يتناول حراما لحالة ضرورية تستدعي ذلك إنقاذا لروحه أو دفعا لمرض قاتل ألم به، أو غير ذلك مما أباحته الشريعة للاضطرار، ثم تَلْتَقِطُها وسائل الإعلام، ويُوحَى للناس من خلالها مجانا أن العالِمَ والفقيهَ فلاناً يُجيز الحرام، من غير ذكر لضوابط الفتوى الشرعية التي سيقت لظروف خاصة لمعالجة حالات خاصة، عند ذاك تتحول الفتوى الشرعية إلى مهزلة فكرية لا يستسيغها أحد. والحق أن العديد من أفراد هذه الأمة قد فقد صوابه، مفكرين ومثقفين وعامة الناس، ودارت بهذه الأمة دوائر متوالية، أنستها الصواب في معالجة مشكلاتها الأساسية، وبناء مقوماتها الحضارية، فرغم أن الرغبة في التغيير، فيما سمي بالربيع العربي، أسقطت أرواحا لا عداد لها، وحولت مجرى الأحداث من يسار إلى يمين، فإنها في شخص مفكريها والعاملين فيها، لا تزال مثقلة بثقافة بدائية ضحلة، تُحِب أن تسأل عن نجاسة دم البعوض إذا وقع على الثوب، وتسكتُ عن نجاسة أكل المال الحرام والمتاجرة به وتبييضه وسرقته واستغلاله، إلى غير ذلك مما لا يخفى شأنه على أحد من العامة. فلا المستفتي سأل عن المرغوب، ولا المفتي أجاب بالمطلوب، ولا السامع أدرك من ذلك المقصود. ورحم الله الإمام مالكَ بْنَ أنس، إمامَ دار الهجرة، الذي كان يقول للسائل: (اِسْأل عما هو كائن، ولا تسأل عما لا يكون). ومن الحكمة أن نَسْتُرَ عن صاحب البلوى، إذا جاز شرعا أن نخصه بالفتوى، فهي له خاصة، ولا فائدة من تعميم حكمها على سائر الأمة. واللحظة التي تمر منها مجتماعتنا لحظة حرجة، تستدعي حذرا شديدا وبناء سليما، فلا نريد بحال أن يَشْمَتَ بنا أعداء الإسلام.