الدار البيضاء كما هي دائما صاخبة، تتكئ على جنب المحيط مغلولة إلى رتابتها بربطات العنق المميزة لرجالها، الناس يعبرون شارعها الأعظم منتشين ببحلقتهم في الواجهات الزجاجية، مستسلمين إلى لذة تلاقيهم وتقاطعهم واحتكاكهم يمشون الهوينى وكأن الزمن لا قيمة له، فقط وحدها تلك المرأة التي بدت لي بوجه جديد تحرض المدينة على الانفلات من عقالها، بعدما انتظرتها لأزيد من ساعة ونصف على الموعد المتفق عليه على اعتبار أن لا أقترب منها أو أحدثها لأن ذلك سيثير شك زميلاتها في المهنة، فمجرد تحرك مشبوه على حد قولها سيعرضها لمساءلة ومتابعة رجال الأمن الذين يعرفونهم ولو بلباسهم المدني. "" الساعة حوالي السابعة مساء، شارع محمد الخامس مشتعل برؤوس تغدو وتروح، رؤوس بدت لي تائهة تبحث عن أعمدة تحملها، قبالة البنك العربي مجموعة من النساء يفترشن الأرض على أهبة الاستعداد لإطلاق أرجلهن للريح كلما لمحن سيارة شرطة أو أي طيف بصيغة المذكر باحث عن لحظة متعة، لا يخجلن من تعديل مكياجهن الصارخ وتبادل كلمات نابية فيما بينهن. نساء بئيسات على الرغم منهن، يحتمين من العطالة المفروضة عليهن، بالبحث عن زبون يمنحهن عشرون درهما لسد رمق بطون جائعة وشراء الدواء لأمهات عجائز إلى جانب أداء فاتورة الكراء والماء و الكهرباء، وأشياء أخرى من بينها لوازم المهنة من مكياج وهواتف نقالة. طال انتظاري لعائشة التي تعرفت عليها بواسطة مؤطرة تعمل في جمعية لمرضى السيدا، وهي حاملة للفيروس منذ عشر سنوات. المهم وكما اتفقنا سابقا، انتظرت لحظات حتى سبقتني عائشة حسب الخطة المتفق عليها فيما اختارت مرافقتي أن تكلمها هاتفيا لتسألها عن وجهتها، استقلت سيارة أجرة وتبعناها نحن الاثنتان، ولجت باب أحد الفنادق المصنفة بشارع الجيش الملكي، طلبت جعتين و أكلة خفيفة عبارة عن "قطعة" بلغة السكارى، فهي مناسبة لشرب كؤوس أخرى، لتهرب من الهم الذي يلاحقها بالداخل والخارج، أشعلت سيجارة، من حين لآخر ترتشف منها فيتصاعد الدخان فوق رأسها متموجا كما تتصاعد أدخنة بخور محترقة حول تمثال معبود هندي، تقدم منها رجل يناهز عمره الخمسين، يتمايل، إنه ناضج بشكل جيد، يبحث من خلال نظراته الطائشة عمن تصاحبه هذه الليلة إلى سريره، ربما ليصحو في الغد عاريا دون أن يدرك أن معاناة ما تبقى من العمر قد يكون سببها متعة لحظة.. خاطبها بكلام أقرب إلى الهمس " الجمال يحترق وأنا آكل وأشرب على نخبه" ثم امتزجا في قهقهات صاخبة، طلبت جعتين أخريتين، ثم غيرت وضع جلستها بوضع رجلها اليمنى فوق رجلها اليسرى، ونفثت الدخان زامة شفتيها كما لو كانت تبعث قبلات محمومة عبر الأثير، يظهر أنها تتعمد ذلك، لتكشف عن ساقيها الجميلتين وعن موهبتها في ممارسة لعبة المد والجز في بحر الشهوات، قميصها الضيق اللصيق بجدعها يبرز بشكل صارخ وفاضح، قد ممشوق ونهدين مكورين كرمانتين ناضجتين وجسد طويل منحوت كعنق زجاجة، هذا هو كنزها ورأسمالها. طلبت جعتين أخريتين لا لتسكر وإنما لتتم انتشاءها فقط، حسب ما صرحت به لمرافقها الذي لم يفوت الفرصة ليطلب من المطرب أن يقدم له أغنية عن الجماهيرية العظمى، فواضح من لهجته أنه يرغب في نسيان العالم الذي حوله، لم يكن الوحيد الذي يرمي بسهامه في مرماها، لابد أنها تختار، أو أنها تزجي الوقت ريثما ينضج حتى يتبول في سرواله فترافقه إلى السرير لتضاجع حافظة نقوده، فهذا النوع من النساء يستعملن الرجال كما يستعمل ورقة الكلينكس، لهذا فهي لم تفوت الفرصة لترد على دعوة أخرى بإشارة مائعة من رجل آخر، بابتسامة عريضة بعد أن تقابلت أعينهما ثم ضحكت وأدارت وجهها إلى الجهة الأخرى. أشعلت الخمرة جمرا في وجنتيها، فأقداح الجعة التي احتستها كانت كافية لتعطي مفعولها، وجليسها كان منتشيا بالمرأة الرائعة التي إلى جانبه، حيث صار ريحا تركض في دروب جسدها وتجول طليقة بين نهديها وتغوص يداه في تخومها وهي ترد على حركاته بابتسامة ماكرة، تقابلت أعينهما، العين حين تنظر إلى العين تجتاح جزرا ومحيطات من الصمت الرهيب، وترسو على مشارف البوح المرير، ألا تبوح هذه النظرات بنتوءات جسد جريح وروح كئيبة منكسرة؟ وهذه القهقهات الهادرة كأمواج عاتية، ألا تفضح بكاء ينثر حزنه كما ينثر البحر رذاذه؟ رسمت له عالما شاعريا، فتن أخونا الليبي من رأسه حتى أخمص قدميه، لهذا لم تجد صعوبة في إقناعه بأن يختما سهرتهما داخل شقتها بالمعاريف بعد أن أقنعته بأنها وحيدة وتسكن رفقة طفلتها الوحيدة التي تبلغ من العمر تسع سنوات، طوال فترة مراقبتنا لها ومرافقتي توضح أنه السيناريو الدائم والمتبع لاصطياد ضيوف المغرب من الإخوة المشارقة الذين يأتون لتفريغ كبتهم في بنات البلد، لهذا فهي لا تحس بأدنى حرج من إصابتهم بالفيروس، الأهم بالنسبة إليها هو أن يدفعوا بسخاء كعادتهم، فالوصمة التي منحوها لسمعة وعرض المغربيات لا تقل ألما عن ذلك الذي يسببه الفيروس اللعين، فهي مصابة بداء فقدان المناعة منذ عقد من الزمن وتعتقد أن مجرد استعمالها للعازل الطبي سيقلل فرص نقل العدوى لزبنائها. ولكشف أغوار قصتها التقيتها يوم الخميس 17 يناير بعد اتصالات متوالية من طرف مؤطرة الجمعية والتي حاولت إقناعها بالكلام، فعلى حد تعبيرها فإن إلقاء الضوء على هذا الموضوع قد يغير من الوضعية المزرية التي يعيشها مرضى السيدا بعدما لاحظوا حجم الأموال التي تصرف وتجمع باسمهم من قبل أناس لا علاقة لهم بالمرض والمرضى، إلا البحث عن المساعدات الدولية باسمهم فيما هم يعانون الأمرين بسبب المرض وآثاره الجانبية، والأمراض الانتهازية التي تلاحقهم؛ أقسمت لها بأغلظ الإيمان أننا لن نذكر اسمها الحقيقي وأننا لن نشير من قريب أو بعيد إلى صورتها، فإيمانهن بحجم الجرم الذي يقترفنه جعلهن يهاجمن ذات مرة دكتورة بمستشفى ابن رشد بعد حديثها في التلفزيون عن العمل الجنسي بشكل لم يعجبهن، تقول مؤطرة الجمعية. كان الجو ذلك اليوم باردا وكانت هي مضطربة، حائرة ومترددة والكلمات تقف شوكا في حلقها، من الواضح أنها لم تستسغ أن ينكشف أمرها أمام غريبة، لهذا حاولت جاهدة أن أطرح أي موضوع للنقاش، فقط مجرد كلام، أشدت بهندامها وطريقة صف شعرها، وكما يبدو فإن نوع زبنائها والأماكن التي تلتقيهم فيها تفرض عليها الإفراط في التأنق. وعند السؤال عن كيفية إصابتها بالمرض، تقول صاحبتنا، منذ سنوات وأنا أحترف الدعارة، قولي منذ كان سني لا يتجاوز السابعة عشرة، تاريخ طلاقي بابنتي الوحيدة، كانت أمي تكرهني كراهية شديدة بسبب طلاقي الذي جلب لها العار وسط العائلة، امرأة أنانية حتى التخمة، لم تكن تهتم إلا بأمورها الخاصة وبابنها، فهي الأخرى مطلقة من والدي الذي لم تعرفني عليه أبدا، ولم يكن لي أحد سواها، ورغم ذلك لم أذق في حياتي طعما لشيء اسمه الحنان، عشت دائما خائفة ومرعوبة، كنت أحس دائما وأنا طفلة أن مكروها سيصيبني وكنت أخاف أن أغادر البيت، لكن من يخاف من شيء يسلط عليه، بعد طلاقي فقدت الأمل في مواصلة الحياة، لقد دمرتني أمي بوحشية سيطرتها، فوجدت نفسي مضطرة للتيه، وبحكم أني لا أتقن مهنة أو حرفة فقد خرجت للدعارة، واكتريت غرفة صغيرة بالمدينة القديمة، كان هذا قبل أن تتحسن أوضاعي المادية، وأنتقل إلى شقة بدرب السلطان بعد أن تعرفت على صديق قواد يحميني ويحرسني ويستغلني في نفس الوقت، ولأن المنافسة شديدة في عالم الدعارة لم يكن بوسعي كي أعيش أن ألزم زبنائي باستعمال العازل الطبي قبل أية ممارسة، كنت أتركهم يمارسون علي الجنس حسب هواهم، صرت بندقية بثلاث فوهات، أن تكون المرأة بغيا ليس بالأمر السهل، كل يمارس عليها شذوذه وكبته ومرضه، كنت من حين لآخر أزور الطبيب لأعالج نفسي مما كان يصيبني من تعفنات وأمراض جنسية، وذات يوم اكتشفت أني حاملة للفيروس الخبيث، فكانت الصدمة مزلزلة. حين يعلم الواحد منا بأنه مريض بالسيدا يقول إنه سيموت، تملكني إحساس شديد بالإحباط والخوف كما لو كنت محكومة بالإعدام، لم أخبر أحدا وواصلت العمل لأني كنت في حاجة ماسة للنقود كي أواصل الحياة، كان يؤلمني ويحز في نفسي أن أعدي الآخرين، لكن في عالم الدعارة كما في عالم المال والأعمال، لا مجال للعاطفة، لم يرحمني أحد فلم أرحم أحدا ثم إنه إذا علم الآخرون بمرضي سيكون مآلي الموت لا محالة، لذلك واصلت الخروج ليلا بشكل عادي حتى الشخص الذي كان يحميني لم أخبره ولعلني نقلت له العدوى هو الآخر، لقد دخل السجن بسبب المخدرات، حزنت عليه كثيرا، لقد كان على الرغم من كل شيء طيبا معي للغاية. بقيت على هذه الحال إلى أن تعرفت على خليجي من السعودية في أحد كبريهات عين الذئاب، كان سخيا معي إلى درجة كبيرة، حيث دفع لي مقدم شراء الشقة التي أسكنها الآن "بالمعاريف" وخلصني من العيش في حي شعبي حيث أعين و ألسن الجارات لا تنام ولا ترحم إذ بإمكاني اليوم أن أعود إلى بيتي ساعة شئت ومع من شئت، هذا بالإضافة إلى كون تربية طفلة وتوفير مستلزمات حياة كريمة لها ليس بالأمر الهين، أشعر أن الأمر الذي أقدم عليه فضيع ولا يطاق، لكن أجيبيني ماذا أفعل؟ فمهما كانت حياتي بائسة وقاسية فهي أرحم من الموت جوعا، وأنا حتى اليوم أعيش لابنتي، لربما تقدم الطب واكتشف دواء ناجعا لهذا الداء الخبيث والقاتل، وإلى أن يتحقق لي هذا الأمر فلا مجال لي غير اصطياد هؤلاء الذين يدفعون بسخاء.. بكت وكأنها لم تبك من قبل، تذكرت في هذه اللحظة ثمن الغلطة التي ارتكبتها بحق نفسها قبل أسرتها، التي رفضت أن تزورها أو حتى أن تسأل عنها، منذ جلسنا وهي تلتفت حولها، تتأمل الحركة الدائبة على الشارع من زاوية نافدة المقهى ، حيث عشرات الأشخاص يتحركون هنا وهناك، وهم يحملون همومهم ومعاناتهم فوق أكتافهم، وألقت نظرة حزينة على الدفتر الصحي الذي استخرجته من حقيبتها، لترى هل اقترب موعد الذهاب للمستشفى، فهي تنسى أنها مريضة ولا تتذكر مرضها إلا عندما تذهب للمستشفى، شردت ببصرها بعيدا وهي تستعيد الظروف التي قادتها إلى هذا المصير، وكذا العدد الكبير من الذين ضاجعتهم ونقلت لهم الفيروس. ابتسمت قبل أن تعلق، لقد تحول هذا الجسد إلى مقر شبيه "بجامعة الدول العربية"، بالنظر إلى العدد الكبير من الضيوف العرب الذين عاشرتهم، فهم بمثابة طوق النجاة بالنسبة لي، وبسخائهم الحاتمي أصبحت مداومة على الفنادق الكبرى، والمطاعم الفاخرة لاصطياد زبائني من مختلف البلدان العربية، فأنا على الأقل لا أشعر أنني انقل العدوى لابن بلدي البسيط الذي يئن تحت وطأة الفقر والعوز، كما أنني أنتقم للجسد المغربي الذي تحول إلى جسد مباح لهؤلاء "الحوالا" من الخليجيين، ثم تستدرك ألم تلاحظي كيف لا أعير انتباها للمغاربة الذين التقيتهم في حانة الفندق، رغم وسامة بعضهم وغناهم إلا أنني لا أستطيع أن أؤذيهم فنحن المغاربة " حنان تنربو الكبدة ماشي بحال الحوالا" تصوري لو أحدهم تشبث بي وطلب مني الزواج، ماذا سأفعل؟ وهذا ما حدث لي غير ما مرة فالعديد من أقارب صديقاتي ولأنهم لا يعرفون حقيقة مرضي تقدموا لطلب الزواج، وكنت أرفض، حيث تنهدت عائشة قبل أن تتابع سرد قصتها ، خلال هذا الأسبوع مثلا ضاجعت ليبيين وسوريين وسعوديين، فهؤلاء القوم أي "السعوديين" أشعر بأنهم أخبث شعب فوق أطهر أرض، لا يتورعون عن ممارسة ساد يتهم فوق جسدك كأنهم لم يروا امرأة من قبل، أحدهم من فرط إعجابه بجسمي خاطبني:" بدون شك أكاد أحسم أنه كانت من بين نساء هارون الرشيد مغربيات، وإذا لم يكن فتأكدي أنه لم يكن ملكا بتلك الصورة التي قدمها لنا عنه التاريخ فهن نساء سرير بامتياز، يتمتعن بدفء لن يجده المرء في نساء الغرب ونساء مصر ولبنان". مثل هذه الشهادات هي التي زادت من رغبة الانتقام لدى عائشة التي تشعر بمقت اتجاه السوري الذي التقته أول أمس في مطعم راق بالبيضاء، حيث تقول كان راقيا منذ البداية فطريقته هندامه وعطره تدلان أنه من علية القوم لكن سرعان ما ظهر على حقيقته، تقول عائشة إنه نذل وواطي، فبعد أن لعبت الخمر بعقله، ظهر وجهه الخفي وبدأ يسب المغربيات واستعدادهن لمنح جسدهن لكل الأديان، فهو مسيحي أرتوذكسي أصوله من لبنان ومقيم بسوريا لهذا فلكنة نطقه شامية، تقول عائشة "هذا النوع من البشر لن تندمي لو نقلت له كل الأمراض والأوبئة الموجودة في العالم فهو متعجرف ومتكبر، لهذا فأنا لا أشعر بأي غضاضة في أن أنقل له فيروس السيدا." حكايات عائشة مع زبنائها لا تعد ولا تحصى، لهذا فهي تبدو وكأنها تجاهد في حلبة الدفاع عن سمعة المغربيات بعد أن تذكرت بنوع من الفخر عندما خاطبت أحد السعوديين الذي استهزأ منها ذات مرة بالقول" إن المغاربة لا يتمتعون بالشهامة لأنهم هم من يشجعون بناتهم على الدعارة بحجة الفقر والعوز"، إذ لم تتمالك عائشة نفسها وصاحت في وجهه "على الأقل نحن نمارس الدعارة بسبب العوز أما نساؤكم فلا ينكحهن إلا خدامكم من الآسيويين المخنثين، وإلا بماذا تفسرون كون جل مواليدكم أشباه خدامكم من الهنود والباكستانيين، فقبل أن تسبوا المغاربة انظروا خلفكم لتكتشفوا ماذا يجري في بيوتكم "،فهل ستتورعين من نقل الفيروس لمثل هؤلاء، ففي نظري يجب أن يقذفوا بالقنابل الكيماوية وليس السيدا فقط ثم سكتت عن الكلام، أطفأت سيجارتها ورحلت. إقرأ أيضا جمال خالد:الدولة تشجع انتشار السيدا لتحصل من الغرب على مساعدات إضافية