لكل مدينة نوع من التاريخانية يميزها ويرمز الى شكل تكونها عبر الزمان. المدينة بناء تراكمي بامتياز، المدينة وعاء مكاني جغرافي،مجالي يحكي كل مكون من مكوناته تاريخا مخصوصا موشوما في ذاكرة الامكنة، بناء تراكمي تتراءى عند كل حلقة من حلقاته قصة الحلقات السابقة، وذلك بنفس الصورة التي يحيل بها فصل من رواية طويلة على فصول سابقة ويمهد لما سيأتي بعده من فصول. والمدينة أيضا هي وعاء للأحداث والتطورات الاجتماعية ولممارسة الفاعلين الاجتماعيين من كل صنف. المدينة ذاكرة حية ومفتوحة تتقاطع في تفاصيلها معطيات الزمان و المكان، حركية المجتمعات ودينامية البنيات الاقتصادية والثقافية عبر المراحل المتلاحقة. وكما أن للأشخاص الطبيعيين، للبشر، بيوغرافيات تحكي النشأة والمسار والتطور، فإن للمدن كذلك بيوغرافياتها التي تحكي ظروف الميلاد، منعطفات التحول، عوامل التغير وجدلية التفاعل بين عالم الناس وعالم الامكنة، بين الاشخاص والاشياء كما بين ذلك بيتر اكرويد، مؤرخ مدينة لندن في مؤلف جمع فيه ببراعة بين الدقة في رصد الوقائع التاريخية والتقاط ادق النبضات الاجتماعية وبين سلاسة الحكي عند استعراض محطات تطور هذه المدينة. والمدن هي في العمق، وعند المنطلق مراكز حضرية تتمدد باستمرار، غير أن هذا التمدد - أو الامتداد - ليس مجرد ملأ للفراغات يقيم مكان الاعشاب والاشجار والرمال أبنية بحيطان ونوافذ واسطح، بل هو مسلسل تصاعدي يحمل في ثناياه، وامكانية النقل التدريجي والتعميم لبنة لبنة وخطوة خطوة للتطور الذي تعرفه المراكز، تجهيزات وانماط عيش واسلوب حياة، وذلك صوب الاطراف بما يجعلها متقاربة متجانسة في الخصائص النوعية والمستوى العام مع المركز. بالطبع تبقى المراكز الاولى في المدن، في كل الاحوال جاذبيتها التي لا تقاوم، باعتبارها اماكن للذاكرة بتعبير المؤرخ بيير نورا يحكي قصة النشأة الاولى، وتبقى للمراكز بالطبع اولوية خاصة، لذلك السبب في اجندة تحركات السياح الراغبين في الوقوف على المنطلقات والاصول و على شواهد الماضي عند زيارتهم للمدن. غير أن هذه المراكز، كيفما كانت درجة تطورها او مقدار مركزيتها لا تعود، مع مرور الوقت، ومع عمليات ضخ التطور في الاطراف، جزرا معزولة وسط بحور من الهوامش والضواحي، والا افتقدت المدينة وافتقد التمدن المعاني والايحاءات الدلالية المرتبطة بهما منذ البدء. مسلسل التجانس أو التأهيل الذي يطال الاطراف ويحولها الى مراكز جديدة هو الذي يحول دون احتجاز مفعول - او مفعولات - التمدد في مجرد التوسع السكني - اتذكر بهذا الخصوص كيف كان الوافدون الجدد الى المدن، والى غاية بداية السبعينات يستخدمون كلمة «يتاوى» في تطويع بالدارجة لكلمة ايواء، حيث يصبح السكن مجرد مكان يأوي اليه الشخص بعد يوم عمل. وكان ذلك في تلك المرحلة مؤشرا على بقايا ثقافة بدوية متغلغلة في مدن تشق طريقها بسرعة نحو اشكال جديدة من التمدن. إن مسلسل تأهيل الهوامش والاطراف هو الذي يجعل مسلسل التمدد مسلسلا للتمدن في نفس الآن وليس مجرد اضافة «بلوكات» سكنية أخرى بجانبها أو حولها. أين نحن في مدننا اليوم، خاصة الكبيرة والمتوسطة من هذه الصورة النموذجية والنمطية للتطور والتي يصبح فيها التمدد مساوقا للتمدن ولا يقف عند مجرد تضخم لمجال السكن والتهاما للاراضي الفارغة بعلب الاسمنت وقضبان الحديد؟ اين نحن من هذا التطور النمطي الذي يجعل انتاج مراكز جديدة، انطلاقا من المركز الامل، اي انطلاقا مما يسميه المعماريون الانجلوساكسونيون ب «المراكز الداخلية» مسألة مندرجة بصفة تلقائية ضمن دينامية التطور الحضري ذاته، بل واحد قوانينه الموجهة؟ أين نحن من هذا التطور النموذجي والنمطي، والذي يجعل المدينة قائمة في قلب الاطراف البعيدة عن المركز الاول، عوض ان تبقى في المخيال الجماعي لساكنة الاطراف، والضواحي، وفي كل مدننا تقريبا مرتبطة بالمجال الذي يتشكل منه المركز الاول والشوارع الرئيسية الاولى، وأماكن الحميمية الاولى التي عرفت النور عند النشأة الاولى؟ اتذكر دائما بهذا الخصوص تلك اللازمة في تعبير سكان الضواحي والاطراف الهامشية حينما يخاطب الواحد منهم صديقه : الى أين انت ذاهب؟ فيجيبه الآخر بكل تلقائية «الى المدينة» في اشارة الى وسطها، إلى المركز الاول، وكأن الحي أو المجمع السكني الذي يقطنه لا ينتمي إلى المدينة وليس جزءا منها. والحقيقة أنه حينما نتتبع مسار تطور المراكز الحضرية في مدننا، فإننا نقف على ظاهرتين لا نجد لهما نظيرا في مسار تطور المدن العصرية الكبرى عبر العالم، والتي نستعير منها النماذج و التوجهات التعميرية. - الظاهرة الاولى تتمثل في أن المراكز الحضرية المنافسة للمركز الاول في المدن المغربية الكبرى والمتوسطة عادة ما تأخذ مددا زمنية طويلة جدا عند التشكل. ومثال الرباط، في هذا الصدد واضح ومعبر، فانتقال مركز الثقل من محور شارع محمد الخامس الى محور اكدال فال والد عمير، ثم حي الرياض اخذ مدة طويلة. هي نفس طول المدة التي اخذها تشكل مركز المعاريف بالدار البيضاء بعد المركز الاول محور الساحة الكبرى، نفس الظاهرة يمكن ملاحظتها بمدينة فاس، حيث ان انتقال مركز الجاذبية من محور شارع محمد الخامس الى محور علال بن عبد الله/ ملعب الخيل اخذ هذا الآخر مدة زمنية طويلة لازالت في طور السريان. وفي طنجة فإن انتقال مركز الثقل من محور شارع باستور (البوليبار) الى محور الكورنيش، اخذ ازيد من اربعة عقود من الزمن. ويبدو لي أنه من الصعب تصديق أن هذا الانتقال في مراكز الثقل داخل مدننا، وبروز أنوية مراكز جديدة يرتبط دائما بوجود او بفعالية مخططات ارادوية واعية تعرف من اين تبدأ وإلى أين تريد أن تصل. فالقاعدة العامة ان قانون العرض والطلب يشكل المحرك البنيوي الاول، ثم تأتي وثائق التعمير لتعقلن مسارا بصفة بعدية، مسارا بدأ في المنطلق بدونها. يصعب إذن تصديق أن انتاج المراكز الجديدة هو احدى بنتائج ومستتبعات سياسية ارادية وواعية للمدينة تعرض اهدافها وتعرف بمقاصدها بكامل الوضوح. أما الظاهرة الثانية فهي أن مسلسلات وعمليات التجديد الحضري في مراكز المدن عندنا عادة ماتتم بشكل جد متأخر، ولذلك،فإن نتائج المقاربات الجمالية (أو التجميلية). لاتصمد أمام الآثار التي تترتب موضوعيا عن انتقال مراكز الثقل والخدمات وأماكن الجاذبية والحميمية إلى مراكز ومناطق أخرى. ومرة أخرى، فإن مثال الرباط حول محور شارع محمد الخامس واضح وغني الدلالة على هذا الصعيد: فرغم ما صرف من اعتمادات ضخمة على سبيل التجديد الحضري ضمن هذا المحور، وعكس الانتظارات التي كانت قائمة ، يبدو اليوم أن هذا الفضاء الحضري يشكو من تدهور بنيوي لايمكن للمصابيح البيضاء ولا «الكارلاج» الرخامي المصقول في الارصفة على طول شارع علال بن عبد الله ان يخفيه او يقلل من وقعه. وهكذا فإننا فيما يبدو لانتوفر على مخططات مقنعة في مجال تجديد مراكز الحواضر (بلغة التعمير) تتجاوز مفعول هندسة الواجهات، وتتمكن من إدماج الابعاد الجمالية ضمن الابعاد الاقتصادية والاجتماعية بما يؤدي في النهاية الى تحسن في تمثل الناس لمعيشهم اليومي الحضري، السكني والخدماتي بشكل حاسم، كما يحدث مثلا في اسبانيا القريبة منا على مستوى العواصم الجهوية والمدن الكبرى والمتوسطة. لقد عرفت كل المدن المغربية الكبرى خلال السنوات الاخيرة انطلاق اشغال التجديد الحضري في محيط المراكز، استهدفت تحسين التجهيزات والطرق والمجال الاخضر وإضفاء طابع من الجمالية على الواجهات الاساسية فيما يمكن أن نسميه بمناطق النزهة الحضرية والتزامن الذي حصل في انطلاق الاشغال على هذا المستوى في كل المدن، يظهر بجلاء ان المسألة كانت في الحقيقة توجيها مركزيا فرض مقتضياته على كل مجالس المدن بصرف النظر عن ألوانها السياسية او برامجها وأولوياتها وأفضليات فرقها المسيرة، وبالتالي فلا مجال هنا ولا معنى للمباهاة - كما يحلو للبعض ان يفعل - بما حصل من منجزات ولا معنى او صدقية الإدعاء وجود النية والقصد وراء ما تم التخطيط له او تنفيذه لدى ذلك البعض. ومع ذلك لنترك الجانب السجالي / البوليميكي - والانتخابوي - في الموضوع ولنركز على ماهو أساسي ومهم ولنطرح السؤال: الآن، شهورا بعد انتهاء اشغال التجديد الحضري، تجديد بهندسة الواجهات، ترى ماهي الآثار العميقة التي ترتبت عن عمليات التجديد تلك بالنسبة لمجموع سكان المدن المعنية، وما اذا كانت آثارها على مستوى التمدن بالنسبة للضواحي والهوامش، وما مدى صحة وصلابة المنطلقات المنهجية والفلسفة التدخلية التي أملت ذلك الاختيار، بصرف النظر عن مصدر التوجيه، أكان مجالس مدن أو كان إدارات ترابية مركزية؟ لننطلق من محاولة تلمس عناصر الاجابة عن هذه التساؤلات من مدينة فاس: في الايام والاسابيع الاولى التي أعقبت ظهور شارعي الحسن الثاني وعلال بن عبد الله في حلتهما الجديدة، خرج الناس زرافات ووجدانا من مختلف هوامش وضواحي المدينة، ووقفوا مطولا يتفرجون على المنظر الاخاذ للشارع العريض وقد انبعثت منه الاضواء المتلئلئة وأخذوا صورا عائلية تذكارية بجانب النافورات وقد انسابت منها مياه بألوان قوس قزح، وقفوا يتفرجون على منظر تلك المصابيح البيضاء المثبتة على رافعات حديدية شبيهة بالقبعات الفيتنامية وهي تعكس اضواءها على احواض العشب الاخضر وقد ازدانت جنباتها بالورود الحمراء والصفراء. وقفوا يتفرجون على صفوف النخيل التي بدت كما لو أنها ولدت طويلة غليظة وفي كامل العافية. خرج الناس من أحياء الجنانات وسهب الورد والمرينيين وبندباب وظهر الخميس وظهر الريشة وعوينات الحجاج وعين هارون وبنسودة وزواغة وغيرها من الاحياء والتجمعات السكنية الشعبية، يتفرجون على هذا المولود الحضري الجديد بمزيد من مشاعر الدهشة وحب الاستطلاع والتهيب ومشاعر أخرى لايمكن ان يستوعب مضامينها العميقة غير ذلك النوع من الروائيين القادرين على سبر اغوار النفوس. بعد الاسابيع الاولى، وبعد الدهشة الاولى، عادت الامور الى مستوى متوسطها العام، والى حالة الرتابة الاعتيادية، عاد الناس الى معيشهم المعتاد في أحيائهم، وهم أكثر إحساسا باختلالات المجال الحضري، وبعد الدهشة الاولى انكشفت البقع الرمادية المجاورة مباشرة للمربعات الفضية، فما أن يبرح المارة ساحة لافياط ببضعة أمتار، يمينا او يسارا حتى يقف مجددا على المتوسط المعتاد للتجهيزات والانارة والارصفة والنظافة. بعد مضي آثار الدهشة الاولى، او الاعجاب الاول (في أقصى الحالات) لابد ان الاسئلة ستبدأ في التناسل: ما الذي يمكن ان يستقر في ذهن ساكن الجنانات او لابيطا او حي 45 من صور وأفكار عن واقع وحقيقة التجديد الحضري الذي يقف عليه ويعانيه خلال بضع ساعات من نهاية كل أسبوع عند زيارة المركز - ما الذي سيبقى ويستقر في ذهنه عندما ينزل من الحافلة المزدحمة حدا الاختناق عند مدخل الحي الذي يقطنه، وما الذي سيدور في خلده من أفكار او يروج في نفسه من مشاعر وهو يمشي وسط الازقة الضيقة الضعيفة الانارة متوجها الى بيته؟ وأي فرق في الآثار والجروح النفسية، بالنسبة لراكب الحافلة المهترئة المذكور بين رؤية السيارة الفاخرة مثلا تمر أمامه بخيلاء لايملك غير تمثلها في الخيال، وبين رؤية النافورة الجميلة المنتصبة برشاقة وسط العشب الاخضر، كأثاث حضري لايتملكه الا بصفة سطحية وافتراضية؟ أي فرق في الآثار والجروح النفسية بين الأمرين من حيث تعميق الشعور بالحرمان وبتناقض واقع ومصائر الناس وتناقض اشكال المعيش الحضري للناس داخل المدينة الواحدة؟ ونصل الى السؤال المركزي الآخر الذي يحيل الى الصلة القائمة - او غير القائمة - بين التمدن والتمدد. يقول السؤال «ماذا كانت آثار عمليات التأهيل على مستوى التمدن بالنسبة للضواحي والهوامش، وما مدى صحة وصلابة المنطلقات المنهجية وما مدى ملاءمة فلسفة التدخل التي أملت ذلك الاختيار؟ - على الرغم من كون عمليات التأهيل لم تسبقها مذكرات عرض او إعلانات نوايا تكشف بوضوح عن خلفياتها وفرضياتها الاجتماعية المضمرة، فإن هنالك عددا من المؤشرات التي تتلقى بأضواء كاشفة على طبيعة تلك الفرضيات والخلفيات، وذلك عدم جهر المخطط الحضري بها او طرحها للنقاش العام. لنلاحظ اولا أن خطاب التأهيل الحضري انطلق مع بداية التسعينات عقب الهزات والتوترات التي عرفتها بعض المدن (فاس - طنجة ومدن أخرى). ولنلاحظ ثانيا، وفي مستوى مواز أن ظواهر العنف الحضري المتواترة التي عرفتها المدن الكبرى والمتوسطة في فترات متلاحظة كانت وراء قراءة معينة، قراءة مجالية للتوترات الاجتماعية التي عرفتها المدن المغربية في سياق تطور المجال الحضري وتشعب معضلاته. ولنلاحظ ثالثا، كيف أن نفس القراءة المجالية المحدودة الافق انسحبت كذلك على بعض الظواهر والمعضلات الاجتماعية التي أفرزتها دينامية تحول المدن المغربية خلال الربع قرن الاخير، والتي ترمز الى أعلى مراتب الهشاشة الاجتماعية، كظاهرة الاطفال المشردين، والمختلين عقليا الهائمين وسط النسيج الحضري، والمتروكين لمصيرهم دون رعاية كالمتسولين، ناهيك بالطبع، وفي مستوى أقل خطورة، تلك الفئات ذات الاحتياجات الخاصة والمسنون والامهات الوحيدات المكلفات بأطفال، وكل المشتغلين على أنشطة في أقصى السلسلة من القطاع غير المهيكل. القراءة المجالية للتوترات الاجتماعية قامت إذن على فرضية وجود علاقة سببية بين التأهيل الحضري مفهوما أساسا كتحسين وهندسة جديدة للواجهات وبين تهدئة النفوس، بين التأهيل الحضري، مفهوما كتحسين للاثاث الحضري، والاستيتيقا الحضرية وبين ما يمكن ان ندعوه بتلطيف العوائد والاخلاق. تلك هي المراهنة غير المعلنة التي قامت عليها عمليات التأهيل والتي اختفت وراء صخب الخطاب حول الحيثيات المعلنة. غير ان استمرار ظواهر العنف الحضري وقضايا الامن تلقي بظلالها على معيش المدن ابرز مع مرور الوقت ضعف مردودية التأهيل الاستيطيقي على تهدئة النفوس وتلطيف العوائد. وشكل ذلك أحد الحدود الكبرى للقراءة المجالية للتوترات الاجتماعية. لقد تداعى من تلك القراءة المجالية كذلك تسييد نوع من المقاربات السطحية للظواهر الاجتماعية الجديدة التي أشرنا الى بعضها في فقرة سابقة، فلقد جرى الاعتقاد بأنها ظواهر عابرة، ولكن تبين بأنها ظواهر تستقر في الزمان، واذا كان جزء من المشهد الحضري يستدعي مقاربة علاجية يتجاوز ماتقوم به الآن مثلا سيارات وحدات المساعدة الاجتماعية. وبهذا الخصوص لايبدو اليوم ان الجماعات الحضرية، على تجسد التصور وفلسفة التدخل ولا على صعيد المجالات الاجتماعية والامكانيات وآليات العمل في المصالح والاقسام الاجتماعية، لايبدو ان الجماعات تتوفر على إمكانيات فعلية لمواكبة ظواهر استقرت وأضحت تتطلب مقاربة شمولية ومتعددة الابعاد. ويبقى السؤال: بأي معنى يجب ان نفهم التمدن بالنظر لأوضاع مدننا اليوم، الكبيرة والمتوسطة وهي تتوسع مجاليا وسكنيا؟ ان التمدن هنا لايحيل على الدلالات المألوفة والتي تربط المفهوم بمعطيات تطور الاذواق وأنماط العيش والاستهلاك وما إليها من المعطيات الجمالية والسلوكية، ان المعنى الذي نعطيه هنا للتمدن يربط المفهوم بالوظائف التي اضطلعت بها المدينة دوما - والتي يبدو أنها افتقدته تدريجيا، وظائف الادماج الاجتماعي وخلق شروط التجانس بين الساكنة بمختلف شرائحها وطبقاتها ومجالات سكنها، بما يولد لديها الاحساس بالانتماء الى مجال موحد وان تباعدت اطرافه، وبالسعي الى تحقيق اهداف متقاسمة وان اختلفت الدرجات والمراتب الاجتماعية. ان هذه الوظائف، التي أسماها المفكر الفرنسي جاك لوكوف بالوظائف التوحيدية التجمعية (والتي اعتبرها عن حق إحدى الوظائف الاولى والاساسية للمدن) هي ما باتت تفتقده مدننا اليوم، والتي أصبحت مقارنة حتى مع السنوات الاولى التي اعقبت الاستقلال، مدن تنتج الافراد عوض المجموعات، مدن تنتج الوحدة والوحشة عوض الحميمية، مدن تنتج الفوارق عوض القواسم المشتركة، وفي الجملة مدن تنتج اختلاف المصائر بدلا من إنتاج تقاطع المصالح. وفي النهاية، وبسبب تلك الخصائص السوسيولوجية الغالبة، وكنتيجة منطقية لها، مدن لايرافق فيها التمدن التمدد، هذه الوضعية تطرح جملة من التساؤلات تمس منطق التأهيل الحضري القائم عند مرتكزاته وأساساته. - هل يمكن بناء سياسة للمدينة بدون سياسة للأحياء والضواحي. وهل تصبح المراهنة على ميكانيزم المد الصاعد (أي من المركز الى الاطراف) أي المراهنة على قدرة دينامية تطور المراكز على إنتاج آثار على أوضاع الهوامش. - ما حدود القراءة المجالية للتوترات الاجتماعية، وللظواهر الاجتماعية التي أصبحت مزمنة، بل ولمسار التطور الاجتماعي برمته، وهل يمكن بناء سياسة للمدينة بمعزل عن سياسة للتماسك الاجتماعي؟ اسئلة لابد أنها تعيد النظر وتدفع الى مراجعة اساسيات المنطق التكنوقراطي الهندسي وبديهياته المزعومة عند التفكير في واقع مدننا اليوم.