مظلومة أنت يا قدس في هذا الربيع الأعرابي. فزهرة المدائن لا تنبت في صيف قائض. متى يا ترى يكفّ الربيع العربي عن أن يكون ربيعا أعرابيا؟ فهل يا ترى يمكن أن يكون يوم الأرض مناسبة لهذا العود الأحمد؟ ظلمت القدس لأنها لم تدرج ضمن أجندت الحراك الشعبي وفي سياق مآلات الأمور التي غلب عليها منطق الصفقات. سيكون يوم الثلاثين من الشّهر الجاري مناسبة لإحياء ذكرى يوم الأرض الذي إما أن يكون مناسبة لتصحيح مسار الحراك العربي أو لا يكون. ستلبس هذه الأمة المضامة ما تبقى من دروعها الرمزية لاستقبال هذا اليوم بالمسير الأعظم. من أجلك يا مدينة الصّلاة، ستمشي الوفود وتنطلق المسيرات وتهتف الشعوب باسم القدسوفلسطين. مع هذه المناسبة تختبر إرادة الأمة السياسية وترسم خريطة فلسطين مجددا في نفوس العرب والمسلمين لا يوجد هنا استثناء. فلسطين وحدها تملك أن تضع العرب على السّكة وتعيد إلى الأمة رشدها النّضالي. وقد يكون من المؤسف أننا ندخل حرم القدس الذي بنيناه في قلوبنا دون أن نقول حطّة لتغفر لنا خطايانا. هي مدينة الصلاة فلنصلّ. إنّ يوم الأرض هو مناسبة لتخلية النفوس من حسابات السياسة والحزبية والمصالح الشخصية والفئوية. هذا الإخلاص للقدس وفلسطين لم يتحقّق بعد إلاّ في نفوس عرفت طريقها إلى القدس بصدق وعرفان. سيكون مؤسفا أن يزايد أحد على أحد في مسيرة القدس. فهذا يوم لاستعراض الأمة جميعها عضلاتها ضدّ أعدائها التّاريخيين وليس مناسبة لاستعراض عضلات أحزاب وجماعات تريد أن تستغلّ القضية الفلسطينية في صراعها مع خصومها السياسيين. ستصغر فلسطين لا محالة إذا ما خضعت لهذه الحسابات الصغيرة أو حينما نجعلها وصلا تجاريّا في دورتنا السياسية. لقد تأخّر الحلّ في فلسطين بسبب هذا الإخضاع القسري لمنطق المتاجرة. فلسطين ليست صفقة بل قضية حقيقية.لسنا ضدّ الربيع العربي، لكننا ضد الربيع الأعرابي. هذا الأخير فرض وجهة نظره على الأحداث، فجعل انبعاث الشعوب العربية لا يبلغ محلّه. فلقد نجحوا حتى الآن في أن لا يجعلوا للتحرر الاجتماعي العربي صلة نسب تاريخية بالتحرر الوطني والقومي، فخاب نضالنا المزدوج. ففي أواسط الطريق انبرى من قلب الحراك العربي من يعبّر عن الربيع الأعرابي، لمّا تحدّثت بعض القيادات الإسلامية عن أن فلسطين ليست أولوية. وأيّا كانت دوافع هذا الكلام لا يمكن أن يستند إلى شرعية جماهيرية، لأنّ موقع القضية الفلسطينية هو أكبر من لعبة صناديق الاقتراع. فهذه الأخيرة ،وتحت مناخ سياسي ما، قد تأتي بقوى لها علاقة ببرنامج انتخابي محلّي مرتهنة للعبة انتخابية محكومة إلى ضرب من التقطيع الانتخابي لا يمنح هذه القوى أيّا كان شأنها نفوذا جماهيريا لنزع القضية الفلسطينية من نفوس العرب والمسلمين. إنه لا ينفع أن نخادع أنفسنا ونخادع فلسطين. نصرة القدس هي مهمة تفوق الجهاد بالمراسلة، كما تفوق التمسرح على ركح الأحداث. فقد ندعوا إلى أكبر مؤتمر عن القدس ، لكن قد نقيم أكبر قاعدة عسكرية ونرسي أكبر تعاون عسكري لانطلاق طائرات العدو لقصف الأطفال في غزّة. إن حكاية القيام بأكبر الأشياء في هذه البلدان لا يقدّم شيئا لفلسطين.لأن القضية الفلسطينية تحتاج إلى العمل المقاوم. ستكون هذه فرصة أخرى للربيع العربي أن يقلب الطاولة أمام الربيع الأعرابي ليعود إلى أصل الحكاية، هو أن المقاومة هي بالنتيجة بنت الثورة الفلسطينية ، وأن من شأن فلسطين أن تصحّح مسار الانبعاث العربي. إننا نقولها بصراحة بدء من المحيط إلى الخليج،لا أحد يزايد على أحد. لقد كان أداء الحكومات الإسلامية التي جيء بها في الربيع الأعرابي غير مريح إن في الخطاب أو الموقف. ولولا يقظة الشّعوب لما توقّف انحدارها لا سيما بخصوص القضية الفلسطينية.يحاول الإسلاميون في مصر أن يلتفّوا حول القضية الفلسطينية. لقد ساعد في إسقاط حسني مبارك حرصه الأسطوري على حصار غزّة من خلال إغلاق معبر رفح وتحصين الحدود من الأنفاق بإقامة جدار فولاذي ينفذ في أعماق الأرض. لكن يظلّ السّؤال: ماذا يا ترى فعل الإخوان بخصوص فكّ الحصار على غزّة ومعبر رفح بصورة كاملة؟ فالثورة المصرية أكبر من أن تبقي على هذا الحصار أو اللجوء إلى سياسة التقطير تخفيفا من وطأة الضغط الشعبي. فالإسلاميون اليوم في مصر يتصرّفون ليس كقوى حية في ثورة منتصرة. فبعد أن عاشوا طيلة هذه السنين على سبيل الامتعاض والرّفض لاتفاقية السلام المبرمة بين تل أبيب والسادات، عبّروا في عزّ انتصارهم عن وفائهم للاتفاقية المذكورة واحترامها. وإذن لم قتلوا السّادات إن كانوا عادوا في نهاية المطاف ليباركوا هذه الاتفاقية تحت طائلة الخوف والرغبة في إنجاز صفقات سياسية؟ لكن الشعب المصري ومن خلال شباب ال 25 يناير، كانوا قد غيروا مزاج الثورة المصرية من حالة الاستسلام والتبييض الديني لاتفاقية الذّل، حينما اقتحموا السفارة الإسرائيلية بأدوات بدائية لكن بقلوب حيّة وعقول يقظة، ليمنحوا لربيعهم العربي نكهة مقاومة تستجيب لواجب الممانعة والكفاح والتّحرر. يومها أدرك هؤلاء الفتية أنّ تحررهم الوطني لا يستقيم إلاّ بتحررهم القومي. وبأنّ القضية في النهاية أن لا قيمة للحرية في وطن غير محرّر. وفي تونس التي تواجه اليوم تحدّي تحريف الثورة وقفت الحكومة الإسلامية موقفا غير واضح أو حاسم إزاء القضية الفلسطينية. وكما لو أنّنا أمام حالة من العدوى، بات الموقف أكثر إذعانا وانقيادا لمنطق الصفقات. تمر القضية الفلسطينية من خطاب هؤلاء القادة الجدد مرور الكرام وتحضر على استحياء وتشكل حرجا شديدا. لقد استقبل إسلاميو تونس مؤتمر أصدقاء سوريا بحماسة عالية وسرعة فائقة وتحدّي كبير، لكن لسان الحاكمين الجدد يبدو قصيرا حينما يتعلق الأمر بفلسطين. فمن قول بعض قيادتهم إن فلسطين ليست أولويتنا الآن. والتّموقف الإيجابي من خصوم فلسطين والتموقف السلبي من أنصار فلسطين ، كلّ هذا أدخل الثورة في التباس شديد هو اليوم محلّ مراجعة من الشارع والقوى الحية داخل تونس.وفي المغرب الذي تحتل القضية الفلسطينية مكانة استثنائية، وجدت حكومة العدالة والتنمية نفسها في حرج شديد للغاية وهي في أولى تجاربها عجزت عن أن تقدّم تفسيرا حقيقيا عن تسرّب عضو الكنيس وممثل الكنيست الإسرائيلي في مؤتمر «الجمعية البرلمانية المتوسطية»، ديفيد سرانكا، في دورته الثامنة. نقول حكومة الإسلاميين ولا نحمّل المسؤولية لشركائها من الأحزاب الأخرى لأسباب أهمها أنّ الحزب الإسلامي هو الذي يرأس الحكومة أولا وهو الذي يدير الخارجية ثانيا وهو الذي يشكّل الأغلبية البرلمانية ثالثا وهو الذي تزعم مناهضة التطبيع رابعا ولأن رئيس مجلس النواب الاستقلالي تحدث بوضوح أكبر حينما وعد بأنه ندّد بالسلوك الإسرائيلي المتغطرس ضدّ الشعب الفلسطيني بسبب " الاغتيالات الممنهجة، والاعتقالات غير المشروعة، بما فيها اعتقال النواب الفلسطينيين المنتخبين"، الموقف الذي لم نجد له نظيرا عند الإخوان في الحكومة لا في المعارضة. فقبل سنوات، شارك وزير الخارجية في الحكومة الاسلامية الحالية، في وقفة احتجاجية ضد زيارة ليفني للمغرب في إطار دعوة من معهد 'أماديوس. اليوم نسمع تبريرا عجيبا مفاده أن عضو الكنيست غير المرغوب فيه مغربيا لم يمنح تأشيرة دخول من الخارجية ويفترض أنه دخل بجواز سفر أوربي. في عرف الدبلوماسية لا يستقيم هذا الكلام. وفي منطق الحكومات لا يمكن أن يشارك في أشغال الاجتماع شخص كما لو كان سائحا. من منح يا ترى التّأشيرة لعضو الكنيست غير خارجية حكومة الإسلاميين؟ ولا يكفي هنا أن يتّخذ نواب الحزب موقف الاعتراض ومقاطعة جلسة البرلمان، لأنّ قيمة هذا الموقف تتحقّق في وضعية المعارضة لا الحكومة. حيث كان المطلوب أن يتصرّف الحزب كحكومة وليس كمعارضة. سيكون الفضل في انسحاب العضو في الكنيست من الباب الخلفي للبرلمان إلى ضغط الشارع المغربي الذي يرفض التطبيع. إن قضية القدس هي قضية الشعوب العربية والإسلامية وأصحاب الضمائر الحيّة في عالمنا. لن تتحرر فلسطين انطلاقا من إسطنبول أو قطر أو أيّ من هذه الدّول التي تمد يدها لإسرائيل فيما تعير لسانها للفلسطينيين.قلنا مرارا: إن الربيع العربي إما أن يكون فلسطينيا أو لا يكون. وهذا ما نحسب أن تجيب عنه مسيرة القدس في الثلاثين من الشهر الجاري.