عقب الثورة لإسلامية الإيرانية خلال القرن الماضي ،ساد العالم العربي مفهوم "الصحوة الإسلامية "على نطاق واسع ،عند شريحة صنفت على التيار الإسلامي. آنذاك، قيل عنها يومها أنها منتمية لتيار متأثر بنظريات ورؤى شيعية،ترتبط بأفكار المنظر الشيعي"علي شريعتي ". هذا المنحى في الفهم لهذا المصطلح الذي عد جديدا،سرعان ما دفع بمتبنيه" إلى تجاوزه نحو مصطلح آخر ومفهوم جديد بديل لا يوحي على المعسكر الشيعي ، خاصة لما تزايدت الحساسية من قبل من ليست له مصلحة في امتداد شظايا الثورة إلى بلدانهم .والإيرانيون يومها لم يخفوا رغبتهم في تصديرها إليهم (أحداث موسم الحج 1990 التي تطلبت تدخلا عنيفا للجيش السعودي لفض مظاهرة إيرانية داخل الحرم، لا تزال عالقة في الأذهان). هذا المنحى إذن دفع الكثير من المفكرين العرب إلى الاستعاضة عنه بمصطلح جديد يتوخى تجاوز حساسية المصطلح الأول من جهة ،ويبشر في الآن نفسه بميلاد مفهوم "التأسيس" بدل "الصحوة "حتى يبرهن قدرته في البناء النظري،بعيدا عن أي تأويل .. والحق أن ما تحقق عقب الثورة الإيرانية بالنسبة للعقل العربي ،كان له مفعول السحر، ليس بالنسبة للفكر "السني" فحسب ،بل للمنظومة الفكرية العربية كلها ،إذ للمرة الأولى تساءل أهل العقل والنهى عن إمكانية التغيير،هذه المرة ، من قلب المنظومة الدينية ،مما فسر حينها بعودة الظهور إلى السطح، لجدلية "الدين والسياسة "في البناء الذاتي والتغيير الحضاري ،في وقت كاد فيه أن ينزوي الخطاب الديني(القرآن والسنة) في رف "المتلاشيات" و "المتروكات " من كتب التراث. فالذي حدث عقب الثورة الإيرانية هو أن رجة عنيفة وعميقة أصابت العقل العربي في الصميم، تساءلت معها النخب المثقفة، عن سر نجاح الثورة الإيرانية من جهة ، وعن مدى إمكانية تثوير" البنية العقلية والنفسية للمواطن العربي من خلال موروثة الحضاري دون اللجوء إلى جلب "نظريات الثورة "أو الإصلاح من الخارج من جهة أخرى ؟ لذلك انصب اهتمام هذه النخبة ،ذات الثقافة "العضوية"،المنخرطة بأفكارها في التغيير والبناء، على تأسيس مفهوم مغاير للثورة،يستلهم ما تحقق في"إيران الثورة" هذه المرة،وليس في الثورة الثقافية "الماوية"أو "البولشوفية السوفياتية"، و متجاوزة في الآن نفسه ،إفلاس النظرية الاشتراكية الأممية والليبرالية المتوحشة، خاصة وأن الجنود الروس قد ولغوا حد الثمالة في دماء المجاهدين الأفغان من جهة، وتورط الغرب في انحيازه الأعمى للمشروع الصهيوني من جهة أخرى .. هذا الفهم الجديد للثورة سيستوجب تأصيلا نظريا يعتمد المصالحة مع"التراث" كمرجع مؤسس،لا يتحرج الدارس الباحث عن التغيير والبناء الحضاري ،في الارتكاز عليه قصد الإجابة على سؤال إمكانية "تنوير" العقل العربي الإسلامي"من خلاله ، وليس من أية فلسفة مستوردة، حتى وأن كانت فلسفة مفكري عصر الأنوار. سيتعاظم الاهتمام إذن ،ابتداء من هذه الفترة، بكتب الفقه والحديث والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي على الخصوص،الذي شرع في قراءته قراءة تتجاوز النظرة العسكرتارية للفتوحات الإسلامية الموروثة عن الفترة القرونسطية الأوربية،والمعززة بالنظرة الإستشراقية. وهي النظرة التي ساهمت إلى حد بعيد في ابتكار العديد من النقائص وإلصاقها بحركة الفتوحات الإسلامية على الخصوص لما لها من أبعاد تتعلق بجوهر الحضارية العربية الإسلامية، ومستقبل العلاقة بين العالم الإسلامي و"ألآخر". وهذه النقائص المفتعلة والمدسوسة ،زورا وبهتانا، بين طيات العديد من كتب هؤلاء المستشرقين ، لا تخطئها عين الفاحص الدارس، إذ يسهل تعقبها في كتب"ارنست رينان "وكارل بروكلمان" "وفولهوزن "مثلا.. وهم الذين شكلوا للأسف،الركيزة الأساسية في البحث الأكاديمي ،في كل ما يتعلق بتاريخ حضارتنا العربية الإسلامية لفترة طويلة . ومن هنا كانت مسألة التأصيل "للفكر الثوري" من خلال الموروث الثقافي،عقب الثورة الإيرانية، تتخذ طابعا" وجوديا" وليس ترفا ثقافيا كما قد يعتقد البعض .. والحق أن ما يمكن رصده في هذا الصدد هو أن ثمة تراكما معرفيا قد حصل ،و في الحقل التربوي والبناء الذاتي بامتياز. إذ انصب اهتمام جل المفكرين التربويين في العالم العربي بعد هزيمة -67 النكراء،الهزيمة التي لم يتجرعها العقل العربي على الإطلاق فوصفها في أديباته ب"النكسة". انصب الاهتمام إذن،على البناء الروحي للأمة قبل أي بناء عسكري أو مادي . فالهزيمة هزيمة روح وهمة بالنسبة إليهم،قبل أن تكون هزيمة جيش وفساد عتاد وعدة. الهزيمة هي هزيمة "الأنا "العربية الإسلامية" وضمورها أمام "الأنا الإسرائيلية العنصرية المتعالية".. التأصيل النظري للمسألة الثورية قاد بالضرورة إلى التفكير في صياغة مفهوم خاص بهذه "الثورة العربية" المراد تحقيقها. وهاهنا كان التساؤل على النحو الآتي : هل العقل العربي ملزم بإتباع المسار الذي سلكه نظيره الغربي، في طريقه نحو"الديمقراطية ". هذه الديمقراطية التي أريد لها أن تكون حقا مشاعا بين الناس ، بعدما لم تعد منتوجا غربيا خالصا. " ....؟ أم أن الثورة العربية، الطامحة هي الأخرى في جني ثمرات هذه الديمقراطية الغربية بعد تكييفها حسب خصوصياتها ،لها مسار مميز عن نظيراتها في الشرق و الغرب ؟ سيكتشف العالم العربي مدى غيابه العميق عن التواجد الحضاري في المشهد السياسي الحديث ، خاصة حين بدأت أطرافه تتآكل شيئا فشيئا و تسقط كأوراق التوت تترى في شراك الإمبريالية الأوربية. حدث بالمنطقة العربية هو أن عصورا طويلة وصفت بالمظلمة،قد خيمت ظلالها على المنطقة، تساكن معها العقل العربي، حتى غدا عقلا مغتالا،يمعن في الخرافة ويستسلم للانحطاط والجمود. وفي هذه الفترة، تعزز الغياب الحضاري للأمة لصالح قوى أجنبية، كانت متعطشة للريادة والقيادة ،فسارعت إلى سحبها من أيدي العثمانيين الذين ظلوا ينازعون الغرب في سيادتهم على عالم البحر المتوسط منذ القرون الوسطى.. هذا الغياب المؤسف للوجود العربي الإسلامي، والذي قابله حضور قوي لنظيره الغربي بالمنطقة ،سيترتب عنه شرخ كبير وخلخلة موجعة في بنية التفكير في الفكر العربي ،فحار معها بين ثقافته الأصيلة،التي لم تعد قادرة على صيانة ذاتها، ناهيك عن اشتداد الغزو الثقافي الغربي،مما سيجعله رهينة ازدواجية موغلة في التطرف أحيانا شكل تحديا صارخا في وجه النخبة التي وقع عليها عبء الجواب على السؤال الأنطلوجي : أي ثقافة /ثورة ستتبناها بغية تحقيق الشهود الحضاري؟ لم يكن من السهل إيجاد أجوبة جاهزة على طريقة "ضغط الزر"لتحديد وجهة المسار، خاصة وأن الصورة تعقدت والرؤيا تضببت واسشكلت حتى على من هم محسوبون على الإنتلجينسا العربية .فالمسألة أعمق من أن تصاغ "نظرية مدرسية" واضحة المعالم ،محددة الخطى ،على غرار خطة للإقلاع الاقتصادي أو النهوض الاجتماعي، في مخطط خماسي أو ثماني مثلا..المسألة أعمق من ذلك كله ..فهي تتجاوز هذا التبسيط النظري في أبعاد أخرى، تتناول مناحي الحياة بمختلف تمفصلاتها وتمظهراتها.فكان السؤال /الوجع :من أين البدء؟ غير أنه ومع ذلك يمكن رصد تراكم "معرفي" ، نظري وتطبيقي يمكن اعتباره قاعدة صلبة للمحاولة والانطلاق نحو أفاق "المعرفة الإستراتيجية لبناء التصور العملي للنظرية العلمية في بناء النهضة .ذلك أن ما حصل في الساحة الفكرية من تداولات وسجالات عميقة بين هذه النخب ،في الجامعات والمعاهد العليا ،على مدار قرن من الزمان ،مستفيدة إلى حد بعيد،من انفتاحها على المعارف الحديثة القادمة من نظيراتها الغربية..ساعد الى حد ما على تشكل انتلجنسيا عربية تستطيع استخدام المتاح والمتوفر من الأدوات العلمية الحديثة في هذه الجامعات والمعاهد.العليا ..بل إن بعضا من مراكز الدراسات الإستراتيجية شهد النور لأول مرة،وإن كانت لا تزال ثم إن ما تم انجازه على ارض الميدان عقب الثورة الإيرانية ،كان أملا للأمة الإسلامية جمعاء بحيث توالت الانجازات الميدانية في العديد من الدول التي عدت على المعسكر العلماني المنيع ،فتمكنت هذه الحركات الإسلامية من بناء الذات والشروع في تنزيل الفكرة الإسلامية وفق آليات الديمقراطية وشروطها.هذه الحركات والأحزاب انخرطت بطريقة أو بأخرى في معارك سياسية انتخابية، فاز فيها ببعض المقاعد البرلمانية والمشاركة السياسية . منها من استطاع الوصول إلى قمة الهرم السياسي لولا الانقلابات العسكرية ضدا على الشرعية.ثم إن بعض الانتصار الأول في جنوب لبنان على يد المقاومة اللبنانية الشيعة كان له وقع افعل السحري عند شريحة من المثقفين المتغربين من الأمة ومن والقوميين العرب آنذاك. فلأول مرة تشهد الساحة العربية قبول "الآخر العربي"(حدة التنافي وإقصاء الآخر كانت شديدة لدرجة لم تكن تسمح بجلوس إسلامي إلى جوار قومي على طاولة حوار واحدة) . ولعل ما تشهده الساحات العربية من ثورات حقيقية على أنظمتها المتهرئة المتهالكة ،ويساهم فيها "الإسلامي" و"القومي "و"الليبرالي"إلى جوار التيار الوطني؛ حتى وإن اختلفت عقيدته (في مصر تناوب على الحراسة الليلية في ميدان التحرير المسلمون والأقباط على السواء)،هو ثمرة هذا النضج المعرفي الذي سيؤسس حتما لأنتلجينسيا عربية في المستقبل بإذن الله.