بسم الله الرحمن الرحيم إن النفاذ إلى عمق المشاكل وجذورها،وتناولها بالتشخيص والتحليل والتفسير،هو الكفيل بمعالجة الظواهر الشاذة التي ينتصب فيها أضعف المجانين والمُحبِّين للرئاسة والزعامة والتطاول على الخلق بادعاء الاختصاص بقدرات خارقة،أو ادعاء اصطفاء إلهي يستوجب تقديم الهدايا والقرابين،والبيعة على الجود بالمال والنفس،والنساء أيضا،لقد سبق وقلنا وكتبنا واليوم نؤكد على أنه عندما يغيب المشروع المجتمعي الذي نريده نجد أنفسنا أمام بنية دينية وثقافية وسياسية واجتماعية هشَّة مُعرَّضة للاختراقات من كل صنف ولون،وعندما نقع في الأزمة نلقي بالتبعة والمسؤولية على الآخرين،ولهذا يجب أن تُعطى الأولوية للتحصين الداخلي،وإشاعة ثقافة المناعة لا المنع، وإشراك كل الفاعلين في صياغة المشروع المجتمعي الذي نتوخاه،كما أن ثمة من يسعى إلى تكريس مفهوم مغلوط لمعنى الأمن ،فعندما أطلَّت برأسها ظاهرة "عبدة الشيطان" حضرت المقاربة الأمنية وأحيل المُتَّهمون على المحاكمة،كما حضرت ذات المقاربة في ملف"السلفية الجهادية"واعترفت السلطات العليا بالتجاوزات التي وقعت في هذا الملف،وملف "خلايا التشيع"،والآن في ملف "الجماعة المهدوية"،ولا مرة سمعنا حديثا عن مقاربة علمية وتربوية تعتمد الحوار مع العلماء والمثقفين الراسخين مدخلا لتناول الملفات المذكورة وتقويم اعوجاج المُنحرفين،فهم المسؤولون قطعا عن حماية الدين من التزييف والتحريف تكليفا شرعيا بمقتضى الحديث الشريف:"يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين،وتأويل الجاهلين،وانتحال المبطلين". لقد ادعى "المهدوية" في التاريخ جمع غفير من الشيعة والسنة،فيرد ذكرها عند أهل السنة في سياق بيان أشراط الساعة الكبرى،أما عند الشيعة فالمسألة ذات جذور سياسية تمت إحاطتها بتقعيد عقدي،وترتبط بالخلاف حول من هو الأحق بالحكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم،فساقوا الإمامة في اثني عشر رجلا هم:علي بن أي طالب،الحسن بن علي،الحسين بن علي،علي بن الحسين،محمد بن علي،جعفر بن محمد،موسى بن جعفر،علي بن موسى،محمد بن علي،علي بن محمد،الحسن بن علي،محمد بن الحسن الذي يعتقدون غيبته وأنه سيرجع في آخر الزمان لينتصر لأولياءه وينتقم من أعدائه. وترتب عن القول "بغيبة الإمام الثاني عشر ومهدويته" أمران خطيران: - الأول:كثرة ادعاء النيابة الخاصة أو العامة عن "الإمام الغائب"،ففي مرحلة الغيبة الصغرى فقط ادعى النيابة الخاصة ما لا يقل عن ثلاث وعشرين شخصا،أما النيابة العامة فهي مسلمة للفقهاء وباسمها يأخذون الخمس من أموال المقلِّدين. - الثاني:تفشي عقلية الانتظار، ولقد حمل الدكتور علي شريعتي مسؤولية انتشار عقلية الانتظار السلبي للدولة الصفوية، ووصف هذا الانتظار بأنه هو"الاستسلام الروحي والعملي والعقائدي للأمر الواقع والوضع السائد ،تبرير الفساد في الأرض،والنظر للأمر الواقع وكأنه قدر لا يمكن رده،إلغاء الدور المسؤول للإنسان ،اليأس من من كل إصلاح وتغيير وإدانة أي محاولة في هذا المجال بدعوى استحالتها قبل ظهور الإمام"1، وشارك شريعتي في التنبيه على مخاطر الانتظار السلبي مفكر شيعي آخر هو مهدي بازركان الذي قال:" لنسأل أنفسنا من ننتظر؟الإمام الغائب؟وما نعني بالقيام والثورة؟ومن أجل ماذا؟ (...)إن هذا الطرح لمسألة الإمام الغائب أصبح بلاء علينا نحن المسلمين في الظاهر والكسالى وطلاب الراحة في الواقع،وهذا الموقف يعني أن نترك الظالمين والغاصبين يفعلون ما يشاؤون،ويحكمون كما يريدون،دون أن نتصدى لمنعهم حتى في حالة الدفاع"2. وقد عانى أهل السنة أنفسهم من الانتظار السلبي الاستسلامي تحت عنوان"عقيدة الجبر" التي عمل كثير من حكامهم المستبدين على نشرها والترويج لها،فإذا أراد حاكم أن ينهب المال العام تعسف في إفهام المسلمين أن مالهم هو مال الله (كلمة حق يراد بها باطل) ،وإن أراد أن يعهد بولاية العهد لابنه قال لهم:"إن الله أرى أمير المؤمنين في ابنه رأيا حسنا " وإن عارض معارض اتهم بشق عصا الطاعة،ومفارقة الجماعة، ومعاكسة "قدر الله"،وهكذا دواليك. وهكذا فتح باب من الادعاء صعب إغلاقه إلى الآن،فما نُقل عن "الجماعة المهدوية" من تعاطي ممارسات مخلة بالآداب ومُمعنة في الفساد يُذكِّر بجماعة "الحجتية" التي سبق أن ظهرت في إيران،والتي تعتقد أن تعميق الظلم وتكريس الفساد من شأنه أن يُعجِّل بظهور المهدي،ويُذكِّر أيضا بجماعة "احمد بن الحسن" في النجف بالعراق،وحدث أن قام "جيش المهدي"(التابع لمقتدى الصدر) بطرد مجموعة أطلقت على نفسها اسم جماعة "روح الله" تعتقد بأن الخميني لم يمت وأنه سيرجع،وادعاها من أهل السنة الكثير وفي جل البلدان،فأشهر من ادعاها في المغرب ابن تومرت،وأشهر من ادعاها في السودان المهدي السوداني،وعرف عام 1979 حادثة الحرم المكي حيث كان جهيمان العتيبي يأخذ البيعة لصهره محمد بن عبد الله القحطاني على أنه هو المهدي المنتظر،وتم احتجاز المصلين بالحرم إلى أن أخمدت السلطات السعودية التمرد. والقدر المشترك والمتفق عليه بين أهل السنة والشيعة بشأن مسألة المهدي هو أن المهدي سيظهر في آخر الزمان،وهو من أهل البيت،ورسالته هي نشر العدل وإزالة الظلم،والأحاديث حول ظهوره تبلغ حد التواتر عند أهل السنة،ولعل أشهر من ضَعَّف منهم أحاديث المهدي هو العلامة المؤرخ ابن خلدون،ورد عليه الكثير من العلماء، والاعتقاد بولادته وغيبته وظهوره هو من ضروريات مذهب الشيعة الاثني عشرية،ولا يعتقد أهل السنة بولادته حتى يؤمنوا بغيبته،بل يعتقدون بأن ولادته وظهوره سيكونان في آخر الزمان ،ولقد رام الدكتور يوسف القرضاوي قطع مادة الجدال حول قضية المهدي بقوله:" ومن المبشِّرات المشهورة في السنة : الأحاديث التي جاءت في شأن ظهور المهدي،والصحيح الذي لا اعتراض عليه،ولا ينبغي أن يخالف فيه مخالف،أن هناك حاكما مسلما ملتزما بالإسلام،سيظهر بعد عهود جور وفساد،يقيم دين الله في الأرض،ويملأها عدلا،كما ملئت ظلما وجورا،وأما الخلاف فهو في نسبه واسمه وشكله وصورته ووقت ظهوره،وهذا لايهمنا،إنما الذي يهمنا هو الفكرة نفسها وهي مسلمة،وهو إحدى البشائر النبوية"3 واتخذ البعض من توالي ادعاء "المهدوية" ذريعة لاعتبارها دخيلة على الاعتقاد الإسلامي،منهم الشيخ طه جابر العلواني الذي يعتقد أن فكرة المهدوية هي نفسها فكرة المُخَلِّص المعروفة في النصرانية وقد تسرَّبت إلى الأمة الإسلامية من خلال التفاسير،ويتساءل ما الجدوى من نزول المسيح أو ظهور المهدي مع ختم النبوة واكتمال الدين. إن تعليق كبير الأهمية على الجانب الغيبي لإحداث التغيير يَنِمُّ عن وجود خلل في التَّصوُّر والاعتقاد يتبدى في صورة انتظارية قاتلة تخدم دوائر الاستكبار في الخارج والمستبدين في الداخل، فالتغيير لا يكون بضربة سحرية تخرِق نواميس الكون،بل ببناء تراكمي قوامه الوفاء للإسلام وتَمثُّل أخلاقه وقيمه والاستفادة من الحكمة العقلية والتجربة البشرية والخبرة العملية المبثوثة في تراث العالمين. أي دور للعلماء والمختصين إن الشأن الديني الرسمي في المغرب أناط بالعلماء دورا جد محدود لا يتعدى في كثير من الأحيان البَصم على السياسة الرسمية ،ولم تُعط لهم بتاتا صلاحية الاعتراض عليها،فخطة ذلك الشأن تنص على ما يلي"فالسياق الديمقراطي حقق للدعاة والعلماء والأئمة مزايا عديدة، وخفف عنهم أعباء كثيرة، فتكاليف الأمر بالمعروف صارت اليوم من اختصاص مؤسسة البرلمان، وعبء التشهير بالمنكر صار من اختصاص الصحافة، وأمانة الحسبة صارت من اختصاص القضاء والشرطة وأجهزة الأمن، وإسعاف المظلومين ونصرة المحرومين صارت اليوم من اختصاص المجتمع المدني.لم يبق للعلماء والدعاة والأئمة إلا استعادة وظيفتهم النبيلة، وهي النيابة عن الإمامة العظمى،والوفاء لعقيدة البيعة والإمارة"4،كذا،مهمة وحيدة:الوفاء لعقيدة البيعة والإمارة،مع ما يحمله إدخال الحكم ومسائله في مسمَّى العقيدة من مغالطة وتدليس وذريعة لتكفير المعارضين والمخالفين وقمعهم وسفك دمائهم،بينما النظر في الحكم مُفوَّض إلى الخلق ولا علاقة له بالعقيدة. وحسب الخطة نفسها فإن العلماء ليس لهم إزاء السلوكات المخالِفة للأخلاقية الإسلامية إلا التصبُّر على الأذى:"إن حرج العلماء أمام ممارسة الحرية التي لا تزينها الأخلاق ولا يزجرها القانون،لا يمكن أن يخفف منه إلا التصبر على الأذى"،ولم يُعترف لهم بخصوصية معينة خشية منافسة الإمارة،وما يصدر عنهم من رأي فهو على وجه الخبرة لا أكثر،فهم يمثلون" جهة الخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع،وهم يؤدون عملهم من موقع تأهلهم العلمي وقدرتهم على الكشف عن الحكم الشرعي (عن قول المعصوم) ،لا من موقع تفردهم بخصوصية معنوية تمنحهم سلطة دينية لا تراجع"، وحتى تأمن سياسة الشأن الديني من المنافسين نصَّت على العمل من أجل: - "كف تصرفات المنشقين والمهددين للسكينة العامة"5،وهذا الكف يعتمد أساسا على المقاربة الأمنية. - "سد الطريق على كل من له شهادة تخصصية في دراسة الدين،وكل من له عقيدة شخصية،وكل من له إعجاب بمذهب فقهي آخر،وكل من له موقف مناهض للتصوف"6 (التصوف التبرُّكي الطُّرقي طبعا)،وهذا السَّد يُسهم فيه بعض العلماء الذين نصَّبوا أنفسهم "شرطة للأمن الروحي". - "صيانة السكينة من خلال ضبط المنابر،وتوحيد أداء الشعائر،ومظاهر التعبير الفردي والجماعي عن الدين،بسن القوانين ووضع القواعد والضوابط"7،وهي قواعد وقوانين تُعرِّض المخالِفين للاتهام بالتشويش والتشغيب. وهكذا آل الأمر بالكثير من العلماء إلى استكانة أفضت إلى تساكن مع استبداد أقنعهم بالانصراف إلى الاهتمام بالفرد فقط في خاصة شأنه العبادي والمعاملاتي،وإلى محاربة طاغوتية البدع والشرك فحسب،وشَلَّ الخوف والرقابة الذاتية الزائدة حركتهم وأفقدها الفاعلية في الواقع،كما شلَّها التشوف إلى التعويضات والمنح والمكافآت وهدايا الداخل والخارج،وتَكلُّف القول "الوعظي الإرشادي" الذي يُدِرُّ الأموال ولا يزيد الإيمان،وعندما "تقلَّصَ ظل العلماء وضعفت إفاداتهم التربوية راجت الخرافة ونَفَقَتْ في أسواق العِرافة والشعوذة والسحر وتعبير المنام، يتصدّى لتعبيره بالرأي الكالِّ والفهم السقيم والنية الكاذبة كل من هب ودب، وتُبنى عليه العزائم والأعمال، ويَفْصِل في الأمر العويص ظهورُ شبحِ شَيْخٍ لحالم مُتَبَرِّعٍ أو لمُتحلِّم محترف،وكان للشيطان، ولا يزال، الحفلةُ الكبرى في خطوطه الهاتفية، يوحي إلى أوليائه في المنام ما عجز عن تفهيمه لبلداء أنصاره وأتباعه في اليقظة"8 ولا غرابة بعد ذلك إن نجمت بقرنها ظواهر شاذة من قبيل "جماعة المهدي" أو "جماعة المثلية الجنسية" أو "جماعة وكالين رمضان" أو "جماعة الخارجين إلى الشارع العام عراة" أو..أو..،مما يتطلب تضافر الجهود بين علماء الدين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع لرسم خطة تنهض بالتوعية العامة حتى لا تنطلي حيل وتَخيُّلات النَّصَّابين على الناس،وإذا انطلت كان العلم بالجهل أشبه،ثم يؤول مصيره إلى العدم،والحديث المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واضح في هذا المعنى (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رءوسا جُهَّالا فسُئلوا فأفْتَوا بغير علم فضلوا وأضلوا)9. وقد رُسخ انسحاب العلماء من الرقابة على الشأن العام أيام الحسن الثاني- رحمه الله- إذ خاطبهم قائلا:" إياكم ثم إياكم الانحراف،فدروس العشاءين ليست دروسا للترهيب بل هي دروس للترغيب،ليست دروسا للسياسة،حينما أقول السياسة أقول السياسة اليومية ولا أقول سياسة التخطيط وسياسة النماء ... إياكم والدخول فيما لايعنيكم،إذا ارتفع سعر الوقود أو سعر الدخان،إني أضع النقاط على الحروف أملا أن تكون جميع الصدور التي هنا حاضرة والتي ليست حاضرة من العلماء الآخرين نقية طاهرة وأن طويتها طوية طاهرة وأن طويتها طوية العلم لا طوية اتخاذ المساجد كمنابر لدعاية منحرفة.وفيما إذا وقع لا قدر الله ما وقع فواجبنا حماية الدين يفرض علينا بأن نحمي الدين من أي شيء ومن كل شيء حتى من بعض العلماء إن اقتضى الحال"10. وغداة إقرار خطة إصلاح الشأن الديني صدر توجيه يُحذِّر المؤسسة العُلمائية الرسمية من أن تصير جزرا معزولة عن العلماء الآخرين الموجودين خارجها،فضُرب عن عمد بهذا التوجيه عُرض الحائط،وأصبحت المؤسسات الدينية بالفعل جزرا معزولة عن العلماء خارجها،وأشبه ما تكون بإكليروس ديني يراد له أن يحتكر تأويل الدين والنطق باسم الله،في مسعى أحادي الجانب "لتدبير الكلام في الدين"،ثم ما الذي بقي للعلماء فِعلُه بعد خروج البرلمان مُنتصرا في معركة تنازع التشريع بينه وبين العلماء هؤلاء الذين لم تُعط لهم أيضا صلاحية مراقبة القوانين والتشريعات كي لا تصطدم بالشريعة. إن الحاجة ماسة إلى وضع منهج جديد لتدبير السلك العلمائي يقوم على أسس دستورية تضمن - أولا: استقلال مؤسسة العلماء حتى لا تُحسب اجتهاداتهم ولا مواقفهم على أية جهة من الجهات - ثانيا:تشرك أهل الخبرة في العلوم الدقيقة والمُعاصرة في اجتهاد جماعي - ثالثا:الاستعانة بما تُقدمه العلوم الإنسانية في مجالات تشخيص الظواهر الاجتماعية والإحصاءات والدراسات النفسية. - رابعا:ضبط الفتوى في ضوء ما يعتريها من فوضى وتخبُّط وتسيُّب،وما تثيره بين الفينة والأخرى من نقاشات وجدالات بين مختلف الهيئات السياسية وبعض أطراف الحركة الإسلامية على أعمدة الصحف والمجلات، والمعروف هو أن الفتوى هي بيان الحكم الشرعي في نازلة تهم مناحي الحياة الخاصة أو العامة للناس،وعندما نقول بيان الحكم الشرعي،فيلزم بداهة الإحاطة بالشرع وأدلته ومصادره،والفقه الدقيق للواقع وطبائع النفوس البشرية،وحتى طبائع العمران البشري على حد عبارة ابن خلدون المؤرخ،والأهم من ذلك النظرة الكلية للأمور حيث ترتبط الدنيا بالآخرة،والدين بالسياسة،والدعوة بالدولة،والخلاص الفردي بالخلاص الجماعي،والرحمة بالحكمة،والرفق بالمدافعة السلمية القوية(لا العنيفة).نعم قد تبدو الشروط التي اشترطها العلماء في المُنتصِب للفتوى قاسية فإنها في الحقيقة كانت ترمي إلى تأمين التعامل مع النص، واجتناب التسيب في الفتوى،وتعكس المستوى العلمي العالي الذي بلغوه، وما يلاحظه المرء من تسيب في الفتوى هو في أغلبه انعكاس للتجزئة السياسية المعاصرة ،وانعدام التدبير الحسن للاختلاف،باختصار يجب إحاطة الفتوى بعدة ضوابط: - ضابط ذاتي:أي التعويل قبل كل شيء على أهلية من يتصدى للفتوى:ورعه وحظه من الله وحظه من العلم وحظه من المعرفة بالواقع وطبائع الناس وقدر عقولهم. - وضابط تاريخي:وذلك بمعرفة التغير الذي طرأ على الحكم وجَرَّ معه التَّغيُّرات التي طرأت على مجالات اشتغال العلم كتضخُّم القول في الشأن العبادي وضموره في الفقه السياسي،وبعدم الخضوع للفتاوى المظروفة بظروفها أو المُحرَّرة تحت الطلب. - وضابط علمي:بتحصيل النظرة الكلية والفقه الجامع ،بين النصوص وأدوات الفهم والتأويل والتحليل والاستقراء. - وضابط منهجي: بالتأكد من أهلية الاجتهاد أو الإفتاء بوسائل التقييم الصارم، وفرز مجالات الاجتهاد. - وضابط تنظيمي: بإنشاء معاهد لتكوين الأطر العلمائية،وبضمان استقلال مؤسسة العلماء عن الدولة،وبالإمكان أن تشكل أموال الوقف بعد إعادة النظر في تنظيمه القاعدة الاقتصادية لاستقلال السلك العلمائي،وهذا ما كان الأمر عليه قبل أن تطأ قدم المستعمر الأرض الإسلامية،ومن تلك الأموال كان يُنفق على التعليم الذي كان يتولاه المجتمع المدني،وأكاد أجزم بأن العالِم الذي يتقاضى أجره من الدولة لا يُمكِنه أن يكون مُتحرِّرا حين القيام بتفكير اجتهادي أو حين التقدُّم برأي فتوائي،وإذا كانت الدولة هي التي تَتَحكِّم في أرزاق العلماء السنة،فإن العوام هم الذين يتحكمون في أرزاق العلماء الشيعة، وهذا التحكم مثَّل مُشكلة عبَّر عنها بدقة الشيخ محمد مهدي شمس الدين عندما أفاد بأن العلماء "يواجهون ضغوطا شارعية"11، هذه الضغوط تُقوِّيها طبيعة المؤسسة الدينية الشيعية التي يوجد على رأسها الفقهاء ومراجع التقليد الذين يتلقَّون الخُمس من الأرباح التي يدفعها كل مقلد باسم "سهم الإمام"، مما جعل المؤسسة الدينية تحافظ على استقلالها المالي مستغنية عن الهبات والمساهمات التي تقدمها الدولة. وقد اعتبر المطَّهري تسلُّم الفقهاء لسهم الإمام موضع ضعف وموضع قوة في آن واحد: فيعتبره موضع قوة لأن "علماء الشيعة لا يتقاضون ميزانيتهم من الحكومة، وأن تعيينهم وعزلهم ليس بيد الدولة، وعلى ذلك فاستقلالهم محفوظ دائما في قبال الحكومات (...) إذ هذا الاستقلال في الميزانية، والاستناد إلى عقيدة الناس هما السبب أحيانا في الوقوف بوجه انحرافات الحكومات، ومعارضتها وإسقاطها"12، ونقطة ضعف لأن علماء الشيعة "مضطرون إلى مجاراة أذواق العامة وعقائدها، للإبقاء على حسن الظن بهم، وهذا منشأ أغلب المفاسد الموجودة في السلك الديني الشيعي"13،ويخلُص إلى القول: "إنَّ المُنظمة التي تتكئ على الناس تكون قادرة على محاربة ظلم الحكومات وتجاوزها، لكنها ضعيفة في محاربة خرافات الجهلة وعقائدهم الباطلة"14،ومن ثم دعا المطهري إلى ترتيب وإصلاح النظام المالي، وتنظيم ميزانية الفقهاء كي تتوفر لهم الحرية والقدرة على محاربة الآفة التي يسميها "آفة الإصابة بالعوام"15، ثم يقول: "إن منظومتنا الدينية على إثر إصابتها بهذه الآفة، لا تستطيع أن تكون طليعية فتتحرك أمام القافلة (...) وإنها مضطرة إلى التحرك وراء القافلة". ولا ترجى نهضة السلك العلمائي من كبوته ما لم يتحرر من "آفة السلطة" (ولو كانت راشدة) بشكل تدريجي ومرن ورفيق وسلس،وما لم يتوقف عن التحول إلى نخبة منقطعة عن الشعب. الهوامش 1 فاضل رسول،هكذا تكلم علي شريعتي،ص 181 2 مهدي بازركان،الحد الفاصل بين الدين والسياسة،ص39-40 3 يوسف القرضاوي،المبشرات بانتصار الإسلام ،ص 39-40 4 حوار وزير الأوقاف مع جريدة"الاتحاد الاشتراكي" أكتوبر 2005،نشر كاملا بموقع الوزارة في 12/3/2010 5 دليل الإمام والخطيب والواعظ،وزراة الأوقاف،المغرب 6 نفسه 7 نفسه 8 الإحسان 1/34 9 صحيح البخاري،كتاب العلم،باب كيف يقبض العلم 10 كلمة الحسن الثاني في ختام الدورة الأولى للمجلس العلمي الأعلى. 18/7/1982 11 محمد مهدي شمس الدين، الوحدة الإسلامية، مجلة المنطلق، عدد 113، ص: 20. 12 مرتضى المطهري، الاجتهاد في الإسلام، ص: 58- 59 13 المصدر نفسه 14 المصدر نفسه، ص: 61 15 المصدر نفسه، ص: 62.