بعد أن تسللت إلى الإعلام صورة تجمعني بالأستاذ محمد اليازغي ، الكاتب العام لحزب الاتحاد الاشتراكي، وعلى يساري الأستاذ ابراهيم كمال الزعيم التاريخي لحركة الشبيبة الإسلامية، والمتهم في قضية قتل عمر بنجلون قبل أن يبرأ من ذلك براءة تامة غير منقوصة ، خلال الحفل الذي نظمه حزب النهضة والفضيلة يوم السبت الماضي على شرفنا، ببيت العائلة الكتانية. ونظرا للاستغراب الذي خلفته هذه الصورة ، إذ كيف يجتمع هذا الشيخ السلفي، -هكذا تصر وسائل الإعلام على تصنيفي، وكما قال لي الأستاذ توفيق بوعشرين، لم يعد بالإمكان التخلي عنه إعلاميا، رغم أني أعلنت مرارا وتكرارا عدم اقتناعي بهذه النسبة، لأني أحب أن أكون لكل الأمة ولكل الناس وليس لتيارمعين أو فصيل محدد، بعيدا عن كل خندقة أو تقزيم- ، وزعيم أعرق الأحزاب الاشتراكية ببلادنا، بل الرجل الذي اتهم بأنه كان من أشد من حرض على اعتقالنا ورمينا في السجون، فقد طلب مني كثير من الأحباب والإخوان عرض تفاصيل ما جرى في هذا اللقاء المثير ، حتى لا أترك مجالا للتأويلات و التخمينات والتحليلات التي تشرق وتغرب بعيدا عن الحقيقة و الإنصاف. لا بد من الإقرار أولا أن الرجل هو من بادرني بالسلام والتهنئة بالسلامة، وكان في حواري معه والذي امتد لأكثر من ساعة لطيفا مؤدبا ، ينصت لي باهتمام، ويحاورني باحترام، في أول لقاء يجمع بيني وبينه، وقد كان هو الذي بادرني أيضا بالحوار، حين سألني عن العبرة التي استخلصتها من هذه المحنة، وكأني فهمت من سؤاله أنه يلمح إلى توبتنا من الإيمان بالتكفير والتقتيل و الغلو والتطرف، فلذلك لم أترك الفرصة لأؤكد له على أن هذه الأفكار لم تكن يوما من علمنا ولا عملنا، وأن الإعلام خاصة الصحف اليسارية عملت على تشويهنا و تشويه أفكارنا وتشويه أصولنا ومبادئنا، وأننا كنا دوما ولانزال مشروع بناء لهذا البلد وليس معول هدم كما صورنا المغرضون، فكانت المفاجأة أن الأستاذ اليازغي وافقني على كل ما قررته، بل ذهب أبعد من ذلك حين ذكر لي أنهم سنوات الرصاص عانوا من مثل ما عانينا منه، حين اتهموا بالمروق عن الإسلام، واعتناق مذهب الإلحاد، والتمرد على الشريعة، مع أنه شخصيا لم يتذوق يوما في حياته كأسا من الخمر، وما ترك الصلاة والصيام منذ أن فتح عينه على الدنيا ، وأن الاتحاديين خاصة لم يحاربوا الإسلام قط ، بل كانوا حماته والذائدين عنه، وقد كان منهم العلماء والفقهاء كبلعربي العلوي والحبيب الفرقاني وغيرهما، مما دفعني لسؤاله عن الفرق إذن بين الأحزاب الإسلامية و حزب الاتحاد الاشتراكي من حيث تبني المرجعية الإسلامية فأخبرني أنه لا يرى أي فرق ويستغرب لهذه التصنيفات التي تفرق بينه وبينهم. ولما كنت مصدوما بحديث الرجل ، أصررت على استبيان الموضوع، فقلت لعل الحزب به تيارات متدافعة، ما بين تيار يميل للمرجعية الإسلامية و آخر استنسخ الفكر الاشتراكي بكل حمولته العقدية والفلسفية، لكن الرجل أصر على أن حزب الاتحاد خاصة لا يعرف مثل هذا التدافع، و أن ما أشرت إليه حاصل في اليسار بعمومه، وليس في الاتحاد، مما استفزني للسؤال عن الخصومات التاريخية التي جمعت المعسكرين، فنفى ارتكازها على أي أساس عقدي أو ديني،بما في ذلك مايتعلق بالحريات أو المرأة أو حقوق الإنسان ، وأن الاشتراكيين لا يعارضون الشريعة في أي تفصيل من تفاصيلها، بقدر ما يدعون للاجتهاد في غير الثوابت التي لا يمكن المس بها و لا حتى الحوم حولها. ثم جرتنا الجزئية الأخيرة للحديث عن البرلمان ودوره في الدولة الإسلامية، ليفجر الأستاذ في وجهي قنبلة أخرى، إذ يرى أنه لا يحق للبرلمان أن يشرع قانونا مخالفا للشريعة، بل يرى أن مؤسسة البرلمان هي وحدها من تملك حق الاجتهاد والتجديد ضمن ضوابط الشريعة، ولما اعترضت بأن البرلمانيين لا تتوفر فيهم شروط الاجتهاد بل أكثرهم ليس فيه حتى أدناها، أجابني بأن البرلماني لا يمثل نفسه، بل يمثل هيئة سياسية لها علماؤها الذين لن يسمحوا للحزب باقتراح قوانين تعارض الشريعة الإسلامية. انتقل بنا الحديث بعد ذلك لمواضيع متنوعة، تحدثنا طويلا عن دور العلماء في الأمة، بل شاركني الألم في غيابهم عن أداء أي دور حيوي في المجتمع، وإن كان الخلاف بيني وبينه هو أنني حملت المسؤولية في ذلك للسياسات المتبعة، وأصر على أنهم هم من قصروا في أداء دورهم، تحدثنا عن مقاصد الشريعة وضرورة الاعتناء بها لخدمة الإسلام، وقد أشاد الأستاذ كثيرا بفقه الفاروق عمر –رضي الله عنه-، واعتبره أحد أكبر مجتهدي الإسلام وعظمائهم، تذاكرنا في الاجتهاد وضوابطه وشروطه و حدوده، تحدثنا عن تجربة التعايش بين المسلمين والهندوس في الهند، وقصة انفصال الباكستان، عن تجر بة إيران والثورة وولاية الفقيه، والنظام السياسي الإيراني، والانتخابات الإيرانية الأخيرة، ونتف متفرقة من العلم والفكر والسياسة. وطبعا لا يمكن إغفال مثل هذه المناسبة، دون التذكير بمآسي من تركنا خلفنا في السجون، ممن لا زالوا يتجرعون مرارة الظلم ، ويكتوون بنار الحيف، ففاجأنا الأستاذ اليازغي مرة أخرى بأنه لم يك يوما موافقا على ما انتهجته الدولة بعد أحداث 16 ماي من حملات عشوائية ومحاكمات ظالمة، و أنه نصح الدولة ولم تنتصح، لينتهي الحوار كما بدأ بكل أدب واحترام، وعلى وعد من الأستاذ اليازغي ليفتح لنا صحافة حزبه، لتصحيح الصورة ، وتفنيد كل التهم، وإزالة الغبش. هذا كل مادار في اللقاء بكل أمانة، وكل التكهنات و التأويلات التي صدرت من محللين وغير محللين بعيدة كل البعد عن الواقع، و لا أدري أيراد بها الاستهلاك فقط ، أم أنها رميات من غير رام، أم أنه نفس المسلسل الإعلامي القديم بثوب جديد؟. صفحة (أبو حفص) على الفايسبوك [email protected]