أحيانا يدهش الإنسان عندما يلحظ مثقفين يُفلسفون الواضح و يلتمسون الأعاذير ، أحيانا يتحول المثقف إلى أداة تسلط فكري بلباس أكاديمي يمارس الدجل و السفسطة عبر عناوين زئبقية تُخفي تحتها واقع الانحناء و الركوع المذل لأسياد الاستبداد ، كنا نرصد في تاريخنا الإسلامي أضرابا من البشر جعلوا من مهامهم تزيين ظلم الظالم و تبرير الإجراءات الدموية التي يسلكها رجل السلطة من خلال أشعار رقيقة أحيانا و من خلال لغات التزلف طمعا في الهبات أو خوفا من بطش المستبدين . إن أسوأ ما يمكن أن يصيب المرء و هو في مسيرة البحث الفكري أن يُخضعَ الأدوات اللغوية و المفردات التعبيرية لتكون في خدمة الجزارين و المستكبرين من دون التزام لوظيفة المثقف في التدافع السلمي لرد الظلم ، فالوقوع في هذا المستنقع يدل على أننا لا زلنا نعيش في فضاء الاصطفافات الساذجة و التي حولت بعض المثقفين أشبه بجراثيم سامة لا تختلف عن أساليب البطش المباشر للطاغية ، و من المؤسف جدا أن الذين يشتغلون بالثقافة التبريرية و الأوهام النخبوية يحاولون بطريقة مُخزية التغطية على كل أشكال الدمار التي تلحق بالعمران و البشر بما يذكرنا أن عصر السفاسطة لم ينتهِ بعد ، فلكل زمن سفاسطته و لكل دولة عبيدها يتكلفون بالذود و التستر على جرائمها . لكن الغريب حقا أن تجد المثقف يُبَيِّضُ الوجه الكالح للطاغية " نقار الجسد" من موقع الانتماء الطائفي ليس إلا بعيدا عن اعتبارات موازين العدالة و الحقوق الإنسانية ، و البعض الآخر تأخذهُ النخوة " العروبية" المفرطة فيحسب أننا بإزاء مؤامرة صهيوأمريكية وجب مقاومتها ، قد يصدق بعض البلهاء خرافة المقاومة السورية و قد يتخذ بسبب ذلك موقفا مما يجري في سوريا اليوم ، لكن قطعا لا أعتقد أن ما يرتكبهُ اللانظام العبثي من همجية فاقت حدود الخيال أن غبيا أميا مفصولا عن صور المعلوميات المتدفقة و عن حجم الدمار الهائل المعروض- فضلا عن السياسي و المهموم بقضايا أمته- لا أعتقد أنهُ سيميل لتلك الخزعبلات التي يُروِّج لها أقلام أعوان الظلمة و عبيد الطائفيات . حينما جاءَ رجل لسفيان الثوري يسأله قائلا : إني أخيط الثوب للسلطان أتراني من أعوان الظلمة ؟ أجاب : بل أنت من الظلمة أنفسهم ، إنما أعوان الظلمة من يبيعون لك الخيط ، نستسمحك فقيهنا ففي زمننا دولا تُقدم سيوف الغدر لتذبحَ الأطفال و تُدَمِّعَ حياتهم بالبؤس الدائم ، تُقدّم العتاد و الرجال في العلن و لا خجل ، أشكالا بشرية تُمِذُّ الظالم بأنياب وحشية لتُبيدَ كل شيء باسم بقاء دولة "الممانعة" ، أشكالا تتحصن وراء الانتحال المفاهيمي و الدجل السياسي و المكر الثقافي لتُرصِّعَ سيوف الجزارين و تحد شفرة خناجر الغدر تماما كما حاولت جمعية " الذاكرة المشتركة " سابقا أن تمارس- في وقت الإبادة للفلسطينين- التطبيع مع الصهاينة باسم عناوين الثقافة و الصداقة التاريخية ، لا فرق عندنا بين من قتلَ – و لا زال - الفلسطينيين و سفك دماء الأطفال تحت أنظار العالم باسم الحفاظ على وجود الدولة الظالمة و بينَ من يشن حملات إبادة لأبناء الوطن تحت عناوين وهمية خادعة ، و من كانَ يدافعُ من بعض نخبنا المتصهينة عن مجازر الصهاينة آنذاك لا يختلف وضعهُ إطلاقا عن من يأخذ قلمهُ ليغازل نظاما عبثيا فيمطط في الكلمات و يفخخ في أساليب التعبير البياني ، أليسَ غريبا أن يكون الجاهليون ينتصرون للمظلوم قبل الإسلام في " حلف الفضول " و بعض كتاب الاستبداد ومثقفو السيوف ينتصرون للظالم بشكل جعلهم حقا رواد الانبطاح القيمي و الخزي الأخلاقي ، نلوم الجاهليين و بجنبنا من فاقوهم في الخزي و العار ، نلومهم و تحت أنظارنا من أعمتهُم الطائفية البغيضة حتى أردتهم أجسادا بلا قلوب ، خَشبا مسندة ! يا للفاجعة. حقا إنهُ لغريب أن تُدكّ مدن و تُمطَرَ بأشكال شتى من المدافع الانفجارية و لا يزال العالم يناقش إن كان الأمر يستوجب تدخلا عسكريا ! غريب حقا أن تَشن حرب إبادة مغولية و لا يزال الضمير العالمي يدور في حلقات إمكانية إنشاء قنوات عبور الإغاثة الإنسانية ! ما يمنعُهم من تسليح المعارضة الشريفة و دك أسوار اللانظام العبثي إلا حسابات المصالح و حصص المؤونة ، ما يجعلهم يدورون في دوائر الكلام الإعلامي الخجول غير انتظار تفتيت الدولة من الداخل عبر صراعات أهلية يستفيد الاستكبار العالمي منها من خلال الحد من النفقات الحربية في التمويل العسكري ، عالم بشري في سوريا يموت تحت القصف و عالم أممي يُتمتم حول إمكانية التدخل العسكري ، أيُّ عالم هذا الذي نعيشهُ ؟ لا نظام عبثي وحشي قتّال لا يراعي و لا ذمة في مقابل مسيرات سلمية ثم يُقال لها لا تتسلحي دع السفاح يصوب دباباته لصدرك لا تقاومي بالسلاح حتى لا تُسمِّين "إرهابية " ، لا تدافعي عن نفسك حافظي على سلميتك حتى لا يُنعِتكِ أقلام الطغاة بتنظيم "القاعدة" ! يقتلون الأب و الإبن و الصغير ثم ينتفض زبانية السفاحين ليتمموا مهمة تلبيس إبليس . قد لا نلوم كثيرا أولئك الأعوان الظلمة من الشعراء و بعض الفقهاء و الأدباء الذين وجدوا في تزلفاتهم للطاغية حجابا يقيهم من بطش المستبد بحكم التجاوزات الفردية التي تطال المعارضين للسلطة و التي لم تصل لحد التدمير الذي نشاهده في زمننا على البلاد و العباد ، أما الآن في عصر الدبابات و المروحيات التي تُمزق العوائل فتحولها رميما فلم يعد هناك مكان للمثقف المستبد المُلحَق بأجنحة ذل الطاغية يرصِّعُ و ينمق إجرام الديكتاتور السوري إلا أن يكون جاهلا يدري أنه لا يدري أو عميلا وضع إمكاناته الثقافية رهن تصرف الطاغية . الأستاذ إدريس هاني أحد المثقفين الذين اجتمعت فيهم عجائب التناقض في التحليل السياسي الزائد ، يُكثر من اللغو السياسي و النقد الفارغ و يأبى أن يخضع فكره للنقض ، أسلوب طحالبي يدور على نفسه فيحسبهُ مراسا سياسيا ، تأخذهُ العنجهية المتكبرة و الخشونة اللفظية فيبخس حق الآخرين دونما اعتذار أو احترام ، دخل ساحة الفكر النقدي و في أعشاش مخه تجاعيد طائفية مُغلفة برداء الوشاح الثقافي العقلاني تتحكم في خريطة النقد الساذج لديه ، أوَ ليستِ القاعدة الشيعية أنهُ يبدأ متمسحا بالعموميات و العناوين التي تُخفي المقاصد الكلية و الخلفيات المحركة ثم يشاء القدر أن ينزع عنهُ أقنعة الرياء فتسطع الحقيقة شامخة بعدما يحس بانكشاف الوجه الثابت ؟ من محاسن الثورات إذن أنها تعطي كل مثقف حجمه الذي يستحق ، و من سخريات القدر أن تسخر فلسفة الثورة من كراكيز مُحرَّكة تنصب نفسها كما لو أنها منظِّرَة لها حيث تصير لدى العموم هي مَن تُوّلد حركتها و تنفخ في هياكلها الهزيلة ، و لعل قراءة سريعة في التعليقات التي تلي مقالات الأستاذ هاني تكشف لنا قدرة الشرفاء المغاربة على رصد حقيقة من يُتاجر بفلسفة الثورات و من يمارس الدجل السياسي باسم المظلوميات ، فيكفي هذا دليلا على تسخيف مهاترات الأستاذ التي امتلأت حشوا فاحشا . يمارس الأستاذ هاني وصاية فجة على الآخرين فهو يحسب نفسهُ محللا اجتماعيا و سياسيا و فيلسوفا ثائرا في مقابل المريدين الذين لا يزالون في مبتدأ الطريق نحو النضج الفكري ، تنتفخ أوداج دماغه فتصير معيارا و حَكما ثم يفرغ نقده اللاذع على كتاب قاصرين على إدراك كنه الأمور ، يقرأ له العادي لأول مرة فيكتشف عقد النقص التي تلف تلابيب العقل الشارد فلا يقبل نقد الآخرين لهُ إلا بالتأنيب و التسطيح ، فعجبا كيف يجيز لنفسه نقد علي حرب و يفكك مضمون فكره فيلومه على عدم قبوله من يفكك أطروحاته عجبا لهاني كيف يتزأبق فلا يقبل مؤاخذات الآخرين له ؟! هل صار الأستاذ "مرجعية " شيعية يصمت حيث يكثر النقد و ينقد حين يكثر الصمت ! حقا ، إن "التاريخ لا يجامل المستبدين " فقط و إنما أيضا لا يرصع صورة أعوان الظلمة أعوان السياط البعثي الذين مزقوا الأطفال و أبادوا الشرفاء الثائرين ، التاريخ لن يرسم إجرامات الديكتاتور العبثي إلا بأياد الدماء الطاهرة التي سُفكت على الملأ ، التاريخ يحتفظ بذاكرته كل الطغاة في تاريخنا الإسلامي منذ الانقلاب الأموي و يسجل لنا أقلام العهر السياسي التي أرادت أن يرتفع كعبها على أنقاض المستضعفين ، ما يكون مصير المزايدين و طلاب الشهرة بأكثر من مصير " ديدان القراء " الذين أصبحوا رموزا للسخرية العامية . لكن ما بال الرجل يحاول عبثا تعليل ما يقوم به " نقار الجسد " بسخافات استقدام " التدخل الخارجي " ؟ ما بالهُ ينتصر هناك لشرعية الثورة البحرينية فيكرس قلمه المسموم لخدمة المشروع الشيعي بالمنطقة ثم يطأطئ رأسه مستكبرا لنزع شرعية الثورة السورية ؟ هل خرجت التقية السياسية عن صمتها و كشفت أنيابها عندما قالت دول التشيع كلمتها ( إيران ، العراق ، لبنان ) في حق عصابات اللانظام العبثي ؟ ربما لم يجد الأستاذ أية ذريعة يسوقها لتبرير مجازر صعاليك الدولة السورية إلا أوراق الخوف المصطنع من تدخل خارجي ، يحاول التمظهر برداء المقاوم للهيمنة الخارجية و بجانبه دولة إيران ابتلعت العراق و لبنان و أفغانستان فلا نقد ، يكتب عن ثورة ليبيا ممتدحا إياها " الشعب الليبي يصنع ثورته " ، ثارت ليبيا ضد أحد الطغاة مستعينة بالتدخل الخارجي فأسقطته ، لكننا لم نجده يعير اهتماما لهذا التدخل الخارجي ، لم يلحظ في تدخل إيران و الصين و روسيا غزوا خارجيا ، المثقف الحصيف لا يقرأ حقائق الواقع بعيون طائفية و لا تتحكم فيه اعتبارات الانتماء المذهبي و إلا أصبحنا أمام تعصب أعمى لا يبقي و لا يذر . يا ترى لو غيرت إيران موقفها من طاغية سوريا هل يمتلك " المرجع " المقلد كالأستاذ هاني الشجاعة و الجرأة الكافية للبقاء في موقع مدح جرائم الديكتاتور ؟ هل بإمكانه أن يتحرر من وصاية الآخرين فيثبت أنه مثقف مستقل حر في تفكيره ؟ أم سيبحث عن مناورات بلاغية جديدة يسفسط بها القارئ فيسقط في نقد الشيء و نقيضه ؟ . للأسف فقد أخفقت إيران في تقديم شهادة الصدق السياسي للعالم الإسلامي و أثبتت مدى استعدادها لاحتواء نظم من خلال اللعب على الوجدان الجماهيري الذي خاصم الغرب إلى حد الصدام ، هل يعتقد هاني و أمثاله من رسل الطائفية أن الشعوب الثائرة يمكن أن تصدها خزعبلات التخويف من الاحتلال الأجنبي و الشعوب تسجل كل يوم و بامتعاض شديد ما آلت إليها مواقف " الممانعين " من بشاعات الديكتاتور السوري ؟ صحيح أن لا أحد بإمكانه الوثوق بالقرارات الغربية تجاه العالم الإسلامي و أن الغرب بطبيعته التكوينية "إمبريالي" و عدواني و لا يتحرك إلا بدافع المصلحة و حماية أمن الصهاينة ، لكن من الخطأ الجسيم فصل ما يقوم به الديكتاتور من عملية إبادة عفلقية لأبناء الوطن عن ما يرتكبه الغرب من مجازر ، فالكل سواء في الهمجية المقيتة و الوحشية ، ثم كيف يمكن لمثقف يتباكى على اضطهاد الدولة البحرينية لثلة من البحرينيين ( و لا ندافع عن الدولة ) و يكتب بمرارة عن آلة القمع و التدخل الخليجي ثم يصب غضبه على الثائرين السوريين مع تزكية فرعون سوريا بوسام " المقاوم " البطل ؟ هل أصبح للقمع معنيان عند هاني يختار ما شاء و يدع ما يشاء ؟ أم هي الطائفية تفعل فعلها البغيض دونما خجل و احترام للإنسانية ؟ ما الذي يسكن عقل هاني و هو يسخر من تسليح المعارضة بألفاظ مسرحية رديئة ملّ الشعب المغربي من ترديد أسطوانتها في الإعلام الطائفي إلا التعصب الأعمى الذي حوَّل مثقفينا إلى سيوف الذل ونبال في يد أولي الأمر هاني و المقاومة : مما كانت تمتاز به إذاعات دول "الممانعة" أنها أرادت أن تجعل خيار المقاومة رديفا للجذور " الحسينية " في مقارعة الظالمين ، و لسوء حظ تلك الدول الآن تعيش في أسوإ حالاتها بعدما انحدر منسوب الشعبية لديها ليصل إلى الحضيض ، فبعدما كانت المقاومة اللبنانية قد حضيت بمباركة واسعة من حركة الشعوب من خلال مسيرات الدعم غدت تلك " المقاومة " الآن في قفص الاتهام و محل نظر عند كثير من سواد الأمة نظرا لما كشفت عنه الوقائع الجارية في سوريا من " مقاومة طائفية " تحددت معالمها و أبانت عن حدود مضامينها . أما مثقفونا مثل هاني فقد سارعوا إلى دبج مقالات هلامية تعطي الحق للديكتاتور لسحق المعارضة و تنزع عن المظلومين المستضعفين حقهم في رد العدوان الهمجي ، هكذا أراد هاني أن يجعل المقاومة حِكرا على الطاغية في مسلسله الدرامي المحزن ، و هكذا تتحول المقاومة عندهُ واجهة ديكورية تكشف عن انتهازيتها الفاضحة بلا حجاب . و لطالما أراد هاني بطائفيته أن يوهم الناس بمعادلة ساذجة محتواها أن سوريا الأسد بديكتاتوريته الحالية "مقاوم" للأطماع الخارجية و حاجز للتدخل الصهيوني و أن الثائرين يسعون بمعية أياد خارجية للإطاحة بنظام استعصى عن الاختراق ، هذه المعادلة لها ضلعان : الأولى تفيد أن اللانظام البعثي مُقاوم فعلا للكيان الصهيوني و التدخل الغربي و هذا الأمر فيه مغالطة بحكم أن أقصى ما قدمته الديكتاتورية السورية أن فتحت التمثيليات الدبلوماسية لحركات المقاومة الفلسطينية في الوقت الذي عجزت فيها الدولة الدفاع عن أراضيها بقوة السلاح التي تقتل الآن أبناءها ، فمتى كانت المقاومة أخت الجزارين و رديفة الطغاة الأفاكين ؟ المقاومة الشريفة لا تجتمع إطلاقا مع قهر الشعوب بالأسلحة الفتاكة و لا تتعايش مع قمع الوطنيين ، لذلك نحيي بإجلال و إكبار موقف إسماعيل هنية الواضح تجاه ما يحدث من تقتيل باسم الحفاظ على المقاومة حيث قدم درسا بليغا لمنتحلي المقاومة . و الضلع الثاني تكهني سخيف يحاول أن يصور دولة الأحرار الثائرين بدولة تخاصم المقاومة و تدعو للتطبيع ، اتهام لا يقل تفاهة عن أولاه لأن الأمر يتعلق أولا بقراءة باطنية متخرصة و لا تستند لأية أدلة ثابتة و لأنه لم يثبت أن رُفعت شعارات أو خطابات تنادي بوضع حد لخيار المقاومة ،و في ظننا فإن الحراك الشعبي الحر قد أماط اللثام عن "طَباخي "المقاومة و عن صناع المقاومة الحقيقية و أسقط القناع عن الوجه القبيح لدولة فاشية لا تقل سوطا عن أسياط النازيين .