بسم الله الرحم الرحيم وظيفة الدعوة لها أكبر تعلق بالتعليم والتربية والتزكية،وهي تبع لوظيفة الأنبياء(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)1،فعندما نتحدث عن الدعوة نتحدث عن قناعات يتقاسمها أكثر من مليار ونصف من البشر يعتقدون بأن لهذا الكون خالقا ،وأنهم مأمورون بعبادته والتقرب إليه لا لحاجته إلى طاعتهم بل لحاجتهم هم إليه،وأن الدنيا ليست دار مقر بل هي دار معبر إلى الآخرة،وأن الذي حمل إليهم رسالة الله هم الأنبياء عليهم السلام،وهي رسالة شكلت معينا لا ينضب من القيم الأخلاقية التي توجه السلوك وتشكل العقول وتدل على طرق التحرك بين الناس،من غير إكراه للناس حتى يعتنقوا كلهم تلك القناعات (لا إكراه في الدين)2،ومن غير أن تكون مجرد توجيهات لا صلة لها بهموم الناس ومطالبهم المادية،ولذلك كان – ولا يزال- مبرر ظهور الحركة الإسلامية هو إقامة أمر الدين،وما الدولة إلا وسيلة،يترصدنا هناك في مقام الاستماع أفاضل من العلمانيين يتخوفون من التسلط على الناس والتدخل في خصوصياتهم باسم الدين،تخوفهم مشروع ما دام يظهر بين الفينة والأخرى أناس يريدون فرض كل شيء بإرادة فوقية،ويصورون الشريعة كأنها ترسانة من القوانين "القمعية" ما فيها غير جلد الظهور وقطع الأيدي ولا يتحدثون عن شبهات الفساد والاستبداد والفقر والعوز التي توجب درء الحدود،بينما الأمر يتوقف على اقتناع عقلي واطمئنان قلبي،لا تنفع في إيجادهما لا نعوت التكفير،ولا سوء التعبير الموجب للتنفير،ولا أدوات الدولة. واتخذت الحركة الإسلامية لنفسها منهجا تربويا سعت من خلاله – ما وسعها الجهد- إلى أن يقيم أعضاؤها أحكام الدين في أنفسهم قبل أن يدعوا غيرهم إليها،فهم مدعوون إلى أن يحافظوا على صلواتهم،وسلامة صدورهم من الحقد والبغضاء والكراهية لعامة الناس وخاصتهم،وإلى أن يصبروا على مخالطتهم،وأن لا ينسوا ربهم في غمرة الانشغال بالماهيات السياسية والتنظيمية والاجتماعية والاقتصادية،مما يقتضي في الداخل عقد مجالس دورية يتشرب فيها الأعضاء كل هذه المعاني،وفي الخارج يمثل الواقع محكا للتدين يتبين به المغشوش منه من غيره. إذا من الطبيعي جدا في بيئة حضارية إسلامية أن يكون الأصل هو سيادة القيم الأخلاقية الإسلامية مع الانفتاح على الحكمة البشرية المبثوثة في تراث العالمين،بجميع اللغات،والصادرة عن جميع الأعراق والأجناس والأديان (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها).3 نحن الآن في هذا الزمان وهذا المكان أمام واقع لا يرتفع،أسهمت في تشكيله عدة عوامل: - الاستبداد القروني الذي انحدرت إلينا تقاليده عبر الأجيال منذ الانقلاب التاريخي على الحكم الرشيد الذي جسده الصحابة الأربعة الكبار رضي الله عنهم - الاستعمار الذي أضعف ارتباط الأمة بدينها وقيمها،وأوجد بعد انسحابه نخبة صنعها على عينه وتغذت بلبانه. - تغول الدولة القطرية بعد خروج المستعمر - واقع عالمي تتحكم فيه دول كبرى على أساس القوة لا على أساس الحق والعدل،ولإحكام السيطرة والهيمنة أنشأت جملة من أجهزة الرصد والتتبع الدقيق لما يجري ويعتمل داخل المجتمعات الإسلامية التي رأى فيها الغرب العدو الجديد القديم بعد انهيار المعسكر الشرقي،لكن (فوق كل ذي علم عليم)4 فات تلك الأجهزة أن تضع في الحسبان قيام حراك ثوري عربي يروم القضاء على الفساد والاستبداد. وبإمكاننا القول أن مجتمعاتنا أصبح فيها شركاء متشاكسون: حركة إسلامية دعوية وسياسة،ونخب علمانية ويسارية ولبرالية منها من يعادي الدين ومنها من يتملقه (لأنه يمثل المخزون النفسي للجماهير) ولكن لا أحد له الحق في تكفير لا المعادي ولا المهادن ولا المتملق،وإنما المستحب هو التماس طريق إلى حوار هادئ من غير تعالم ولا أستاذية،في ظل جو تسود فيه حرية التعبير ليقول من شاء ما شاء ما لم يرفع سلاحا،وهكذا إن قالت الحركة الإسلامية بضرورة الرجوع إلى الدين والالتزام بتعاليمه وقيمه الأخلاقية،وتطبيق شريعته- بعد توفر الشروط – من حق الآخرين أن يعترضوا بشرط ألا يستعملوا أدوات الدولة ولغة التحريض والاستعداء.من هنا نلج إلى مسألة الحريات الفردية والشخصية،وكأن بعض النخب تعيد إنتاج نمط التفكير الجامد والمتحجر الذي كان يحتفل بالأشكال والجزئيات على حساب الجواهر والكليات:إن حكمتم ماذا ستفعلون مع "الحانات" و"الخمور" و"دور الدعارة" و"القمار" و..و..،والجواب يأتي في مقامين:في مقام تبيان حكم الدين،وفي مقام تبيان طرق تنزيل الحكم هنا يحضر فقه المآلات وفقه الأولويات ومراتب الأعمال. أما إذا انتقلنا إلى المجال السياسي فإن مظاهر الخصومة بين الإسلاميين ومخالفيهم تكثر،وتكثر معها الاتهامات من قبيل احتكار الدين، واستغلال الدين لأهداف سياسية،وعدم إقامة فواصل بين الدعوي والسياسي في ممارسة المعارضة، والأمر هين بالنسبة للتهمة الأولى إذ يكفي ارتياد إخواننا العلمانيين للمساجد ومخالطتهم للناس ومخاطبتهم بما يفهمون والعكوف على كتاب الله تعالى تلاوة وحفظا وتدبرا،والحرص على سلامة الصدر ونظافة اليد حتى يزول تلقائيا احتكار الإسلاميين للدين،وبالنسبة للتهمة الثانية فباطنها هو دعوة الإسلاميين كي لا يمارسوا السياسة حتى يتخلوا عن خطابهم وسلوكهم لإسلامي وهذا محال لأنه سيفقدهم مبرر وجودهم أصلا،هذا بالإضافة إلى ما يستشف من هذه التهمة من وجود تصور كنسي للدين عند المتهم،وإسقاط لتاريخ العلاقة بين الدين والسياسية والعلم عند الغرب على واقع العرب والمسلمين. مخاطر ومزالق لقد أصبحت الحركة الإسلامية تولي اهتماما كبيرا لمسألة علاقة الدعوي بالسياسي،ويمكن ذكر عدة أسباب حملتها على ذلك الاهتمام: - منها اتساع قاعدة الأعضاء المنتمين إليها - ومنها تنوع مجالات العمل والحركة - ومنها الإجابة على أسئلة علاقة الدين بالسياسة - ومنها الرد على النخب العلمانية وتنامى الاهتمام في سياق الثورات التي تشهدها المنطقة العربية وحملت إلى الحكم فصائل من الإسلاميين،إلا أن الإحاطة بجوانب الموضوع تقتضي استحضار التجارب التاريخية،وتقتضي قراءة فاحصة في مآل الدول التي قامت على أسس فلسفية ولم تضع تصورا واضحا لحدود العلاقة بين النظري والعملي. فالمتأمل لمآل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب مثلا سيلاحظ بأن جل الدول تقوم على أساس دعوة دينية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر،ويتزعمها علماء سرعان ما يتحول تلامذتهم إلى رؤساء فعليين للجيش الذي سيثور على الدولة السابقة،وتعمل الحماسة عملها،ويحسب الجميع أنهم سيبدلون الأرض غير الأرض إلى أن تفجأهم حقائق الواقع بعد بناء الدولة،فيستدعى تراث "الأحكام السلطانية" و"ظل الله في الأرض" و"هيبة الدولة" ورد معارضة "الخوارج" وحماية الدين من "الزنادقة"،فتأكل الدولة الدعوة،وتضمها تحت جناحيها بعد أن دجنتها،وتستصدر الدولة الفتاوى لوقت الحاجة،حدث هذا مع الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين والوطاسيين والعلويين حيث تستقوي الدولة بتصور كنسي للدين،يتحول فيع علماء المؤسسات الرسمية - وما أكثر الأفاضل فيهم- إلى إكليروس يحتكر النطق باسم الله،ويحتكر الاجتهاد والفتوى. ولم تكن أحوال"الدعوة" مع الدولة المهيمنة تخرج عن خيارات ثلاث: - مضغوطة من قبل الدولة - أو محاربة مضطهدة - أومروضة مدجنة مؤنسة لست مهتما بتدبير الحركة الإسلامية لعلاقة الدعوي والسياسي في سياق الموقف من الدولة أو في سياق الموقف من النخب العلمانية أو اللبرالية أو اليسارية بقدر ما أهتم بنوع تدبيرها لتلك العلاقة على صعيد تنظيماتها الداخلية،وهنا يمكننا ذكر ثلاثة أخطار أو مزالق يجب الحذر منها: - خطر أن تستهلك المهام التنظيمية والسياسية أبناء الحركة الإسلامية وهم في خضم خدمة مجتمعاتهم،حتى إذا التفتوا إلى قلوبهم وجدوها قاعا صفصفا من الإيمان فيسهل عند ذلك إفساد ذممهم المالية،وتشويه سمعتهم الأخلاقية،وشراء ضمائرهم،وتجنيد البعض منهم لاختراق الصفوف الداخلية، - خطر أن ينتصب الدعوي وصيا مطلقا على السياسي،وقد يمارس تلك الوصاية من غير أهلية كنقص الخبرة والتجربة والمعرفة بالواقع لأن معالجة النصوص ربما أيسر من معالجة واقع منفلت من الضوابط الأخلاقية،وفيه مكوانت أخرى لا تشاطر الحركة الإسلامية قناعاتها،يجب الإنصات إليها جيدا. - خطر أن ينطوي الدعوي تحت جناح السياسي،فتضيع القاعدة وتتشتت على سطح الاهتمامات السياسوية اليومية. الخطر الأول يحمل معنى ارتخاء التنظيم الدعوي،والثاني يحمل معنى استقلال كل من الدعوي والسياسي عن الآخر،والثالث يحمل معنى اندراج الدعوي في السياسي. والأمثل هو أن يتخرج رجال السياسة من صفوف الدعوة بعد الاطمئنان إلى كفاءتهم،ويمارسون أعمالهم والأعين رقيبة عليهم لا فيما يتصل بدقائق تخصصاتهم(فأهل مكة أدرى بشعابها) ولكن فيما يتصل بمدى احترام القيم الأخلاقية التي تربوا عليها:قيم الزهد والعفة والخدمة والتواضع وأداء الشعائر وفق ما هو مطلوب شرعا،ومعروف صنيع الحاكم الراشد عمر بن عبد العزيز عندما وكل بمرافقته في كل حين رجلا جعل مهمته الوحيدة أن يقول له إذا رأى منه انحرافا:"يا ابن عبد العزيز اتق الله فإنك ستموت"،والمفروض في الرقابة المذكورة أن يتولاها جهاز محكم،وقد انتبهت الكثير من الأحزاب بمختلف مرجعياتها إلى أهمية هذه المسألة فأسس البعض منها لجانا أخلاقية. على الصعيد المغربي يمكن القول:إن"العدل والإحسان" من أوائل التنظيمات التي اعتمدت التقسيم الوظيفي بين الدعوة والسياسة عبر إنشاء "الدائرة السياسية" التي تضم مجموعة من مكاتب الخبرة تنجز ملفات دقيقة في مختلف القطاعات والمجالات والتخصصات،وتشتغل - من خلال مكاتب الفروع - إلى جانب "الجماعة:التنظيم الدعوي" في أُسره وشُعبه وجهاته وأقاليمه،وتبعتها بعد ذلك حركة "التوحيد والإصلاح" التي تشتغل إلى جانب حزب"العدالة والتنمية" الذي يضطلع بمهام تسيير الحكومة إلى جانب الملك الذي يمارس الحكم،والحركة إن لم تتدارك الأمر يخشى أن تنصرف قاعدتها كليا إلى الحزب،وتنصرف النخبة إلى "المجالس العلمية" و"الرابطة" لتأثيث المشهد الديني الرسمي،يدخل الواحد وهو يقول:فرصة أتاحها الله لتبليغ الدعوة عبر الدروس والمواعظ والمحاضرات والندوات وشيئا فشيئا تتعاظم دائرة التنازلات،ويصبح الكلام بمقدار،وتتضخم الرقابة الذاتية،فتبحث الحركة عن نفسها يوما فلا تجد شيئا،مثلما أن"الدائرة السياسية" للعدل والإحسان مطلوب إليها ألا تكتفي بالموقف العام الذي ينتقد الحكومات – وهو موقف صحيح- وأن تتعدى ذلك إلى الوقوف على التفاصيل لاكتساب التجربة وتحرير المبادرة،وأن تراعي المنطق الداخلي للمخالفين والمتشككين والمتوجسين لا أن تسجنهم في منطقها الداخلي هي. إن انعدام التصور الواضح لعلاقة الدعوي والسياسي قد أوشك على خلق فتنة عظيمة في تنظيمات إسلامية كبيرة،والكل يتذكر أزمة"النظام الخاص" عند تنظيم"الإخوان المسلمين" المصري عندما تسربت إلى التنظيم عناصر الاستعجال التي تمنطقت بالعنف،رأسمالها الحماس المتأجج،تسربت لأنه كان ثمة تجميع تكثيري غير ممحص،بالإضافة إلى غياب التنظير قبل الممارسة لأن العمل" إذا لم يؤسس على فكر ناضج سابق للعمل يتعلم من الممارسة، فإنما يكون الأمر تجريبية تحمل معها عناصر ضياعها إذ تنفتح لكل هوى وتحسب أنها تتعلم من الأخطاء بمجرد أن هنالك أخطاء عولجت في وقتها"5،وتتالت التقسيمات الوظيفية لضبط علاقة الدعوي بالسياسي بعد الثورات: حزب"الحرية والعدالة" في مصر،وحزب "العدالة والبناء " في ليبيا،وكان على حزب"النهضة" التونسي أن يعجل بإجراء التقسيم الوظيفي وهو الذي يشكو من تضخم الخطاب السياسي على حساب التكوين التربوي الإيماني،وقد علمت أنه بصدد الاطلاع على خبرات مجموعة من التنظيمات التي استطاعت المزاوجة بين الدعوي والسياسي. إنه بدون ضبط العلاقة بين الدعوي والسياسي لن يتأتى ضبط العلاقة في الدائرة الأكبر - حين التمكن- بين الدعوة والدولة،وستتصرف الحركة الإسلامية كما يتصرف الحزب الوحيد،وحدث مثل هذا عندما لم تضبط الثورة الروسية العلاقة بين الثورة والدولة مما دفع البعض إلى القول:الثورة تأكل أبناءها،لأن الثورة تماهت تماما مع الدولة،وتمت أدلجة الاستبداد في الحكم الستاليني،وكذلك الثورة الإيرانية التي "دسترت" الهوية الطائفية للدولة عبر النص على نوع المذهب المتبع،مما أوجد سياسة طائفية تكشفت معالمها في الملف الأفغاني والملف العراقي عندما منحت إيران التسهيلات الكاملة للغرب لكي يتخلص من نظامي طالبان وصدام،والآن في الملف السوري بغض الطرف عن الجرائم الفظيعة التي يرتكبها النظام في حق شعبه ولو بعث الحسين هذه الأيام لما تردد في مواجهة يزيد سوريا،وقبل ذلك ظهر أثر عدم ضبط علاقة الدعوة بالدولة في تاريخ الدولة السعودية التي قامت على أساس تحالف بين آل سعود والحركة الوهابية،فبعد أن اتسمت البداية بنوع من التوازن في العلاقة بين الطرفين بحيث كان كل طرف يشترط على الآخر،وبعدما أفاء الله على البلاد من ثمرات الحج والنفط بدأت الدولة تتغول فعزلت الدعوة وحولتها إلى منظومة للتبرير لاسيما تسويغ الطاعة المطلقة للحاكم. نقاط على الحروف ويبقى أهم إجراء مؤسساتي هو الحيلولة دون تولي الكوادر الدعوية والتربوية للمناصب السياسية حتى لا يتركوا فراغا يمكن أن يحرف مسار التنظيم الدعوي،"فلا تدخل الدعوة حلبة الصراع على السلطة الحكومية فتتلبس لبوس السياسيين،بل تتفرغ من هم الدولة،وتتفرغ لتتويب المسلمين وتعليمهم مبادئ الدين،والمحافظة على إيمان الفرد وصلاحه الشخصي"6.ولقد احتلت إشكالية علاقة الدعوي بالسياسي جزءا كبيرا من اهتمامات مرشد"العدل والإحسان" الفكرية فنبه على جملة أمور سائلا ومجيبا:"هل تمسك الدعوة بزمام الحكم وتدير عجلته وتَبقى مستقلةَ الوجود ماضية الإرادة في وِجهَة التغيير الشامل الجذري للمجتمع، أم تجذِبها الدولة ويستقطبها الحكمُ فيستولي على النفوس، ويستغرق الجهودَ، ويغلب على الوجهة حتى تذوبَ الدعوة في الدولة؟ التحدي أساسا هو: هل يحيَى الدعاةُ بعدَ الوصولِ إلى الحُكم بحياة الإيمان والإحسان، أم "تدنسهم الدنيا" وتهلكهم كما أهلكت من كان قبلَهم؟إن الأحزابَ السياسيةَ في أمم الأرض تتلَخَّص أهدافُها في "برنامج" للحكم تعرضُه أو تفرضُه. لا أفُقَ لها غيرُ الهدف التنموي وغيرُ التوزيع للناتج في صالح هذه الفئة أو تلك. ومن الأحزاب ما يبتدِئ ثورتَه أو إصلاحيتَه بإديولوجية تقترح على الناس أو تفرض مشروعا تغييريا يروم قلب الأوضاع، ثم لا يتعدى الأمر،بعد طول معاناة، برنامجا تنمويا أخفق أو قَصَّر عنِ الأهداف الكمية الموعودة... وإنّ الإسلاميين في حركتهم الموفقة بإذن الله لا مناص لهم من الدخول في المعمعة إلى جانب طلاب الحكم للحكم،وطلاب الحكم للمال،وطلاب الحكم لنزع المبادرة من الإسلاميين، ومنتقدي الحكم المعارضين... ولا بد للإسلاميين من برنامج يُعْرَض، ولا بد من تصدي بعض أكابرهم للإشراف على تطبيق البرنامج.إذا أضفْت إلى هذا بقاء الإسلاميين في الظل زمانا، مَمْنُوعين من السياسة، قليلي الخبرة بدخائلها، مُنعدمي التجربة بانعطافاتها وتعريجاتها،كان دافعُ اهتمام أكابر الدعوة بالسياسة أقوى.وإذَنْ تنصرفُ الدعوة بكليتها لتسيير دفة الحكم. وإذن فهو فَناءُ الدعوة من حيثُ هيَ دعوة، لا تلبث الدعوة أن تتحول هيكلية سياسية محضة، تتكلم كما يتكلم السياسيون، وتسلُك مسالكهم. وعُدْ بعدَ حين لزيارة الساحة فلن تجِد إلا فارقَ اللِّحي -إن وُجِدَتْ- وإلا أثاراتٍ من خطابٍ إسلامي. لا قدر الله... ما الحيلةُ ونجاحُ الدعوة في الحكم لن يقيسَه أحدٌ بحسن النوايا التي نطقت، ولا بمنطقية البرنامج الذي عُرضَ،ولا يمكن في زمانِ الأرقام والإنجازات العينية، ملموسةٌ هي أمْ وهميّةٌ، أن يُغذِّيَ الإسلاميون الناس بالوعود والهتاف؟إن تسيير شؤون الدولة الحديثة في أزمات مثلِ الأزمات الممسكة بخناق المسلمين أشبه شيء بالإمساك بمقادة زورق يتحرك بسرعة الجنون في بحر هائج... وإنَّ استظهار الإسلاميين بذوي الكفاآت والتخصصات من كل نوع وفي كل ميدان لضرورة بديهية. فيوشك في ظروف الأزمة وضرورة الاستعانة بالغير أن تُسَيِّرَنا إرادة غيرُ إرادتنا أو تستبد بنا الضرورَة فننصرفَ عن الدعوة وننهتك في الإدارة ويخطَفنا دَوْلابُها اليوميُّ. ماذا يظل يفعَل رجل الإدارة الجاد المسؤول، وماذا يبيت يخطط؟ زمانه وجُهدُه تستغرقهما الهموم الدنيوية المعاشية للناس. وهي مهمة حيوية لا بد أن يتفرغ لها الأكفاء. لكن إن رصدنا لهذه المهمة خِيرةَ أهل القرآن أطباءَ القلوب عرضناهم وعرضنا الدعوة للزيغ عن وظيفتها الأساسية: ألا وهي إفشاء الرحمة الإحيائية الإيمانية الإحسانية في الناس... إن الحركة الإسلامية تتلاشى ويَضمحل معناها إن صبغها الوسط السياسي الذي لا بد أن تخوضه بصبغته، وإن جرها "منطق الساحة" بحباله. المرجوُّ لها أن تكون قوة اقتحامية تحتل معاقل الحكم وتوطد أقدامها فيه مع تعزيز وظيفتها الإحيائية التغييرية التاريخية،المرجوُّ لها أن يكون تماسكها التنظيمي وسلوكها الأخلاقي النموذجي وإشعاعها الروحي وخدمتها للأمة نقدا حيا عمليا للمجتمع. المرجوُّ لها أن تكسب ثقة الأمة وتحتفظ بها مهما كان إنجازُ الدولة أو قصورُها. ولا يصح شيء من ذلك إن كانت مجرد هيكل سياسي بين الهياكل... من الدروب المهدِّدةِ للدعوة أن يسْرِق الخبراءُ من خارج الدعوة المفاتيحَ فيصبح الأمر دولة بلا دعوة. وذلك حين يكون إشراف الدعوة على الدولة رخوا، من بعيد. وهو تطرف إلى الجهة الأخرى،إنهما حافتان مخيفتان كان الفاروق رضي الله عنه يستعيذ بالله من غائلتهما بقول (اللهم إني أعوذ بك من جَلَدِ الفاجر وعجز التقيّ)"7. الهوامش 1 الجمعة/2 2 البقرة/ 255 3 رواه 4 يوسف/76 5 الإسلام غدا،عبد السلام ياسين،ص 456 6 العدل :الإسلاميون والحكم،عبد السلام ياسين. 7 نفسه