"أغلب المستجوَبين لا يخفون تشاؤمهم فيما يتعلق بمستقبل السياسة والانتخابات في المغرب، على الرغم من أنهم يقدمون تصورات وحلولا، فهم يعترفون مع ذلك بأننا أمام وضعية صعبة لم يسبق أن عرفناها في تاريخ السياسة والانتخابات في المغرب، وأن أي تغيير إيجابي مفترض لا يمكن أن يتم إلا على المدى البعيد". بهذه الديباجة المفرطة في واقعيتها يختم الباحث د. غسان الأمراني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، مؤلفه "العزوف الانتخابي والأحزاب السياسية في المغرب"ABSTENTION ELECTORALE ET PARTIS POLITIQUES AU MAROC والصادر باللغة الفرنسية عن دار أبي رقراق بالرباط سنة 2015 أي منذ خمس سنوات وبدعم من المؤسسة الألمانية هانس سييدل HANNS SEIEDEL. إذن، فراهنية الكتاب ما زالت مستمرة وملحة، وهو في الأصل عبارة عن أطروحة لنيل الدكتوراه الوطنية في العلوم السياسية والتي حصل عليها صاحبها بميزة مشرف جدا مع توصية بالطبع، وتحت إشراف الأستاذ عبد الله الساعف، الباحث المعروف والوزير السابق في حكومة التناوب الأولى، ومدير تحرير مجلة "أبحاث". يتوزع الكتاب / البحث إلى ثلاثة أقسام: يشمل القسم الأول مسحا إحصائيا وتحليليا لمختلف الاستحقاقات التي عرفها المغرب منذ 1960 جماعية وبرلمانية وإلى حدود استحقاق 2009، مع إرهاصات 2011. أما القسم الثاني فيحلل ظاهرة العزوف الانتخابي وبعض عواملها المباشرة وغير المباشرة. وأخيرا يطرح في القسم الثالث أزمة الأحزاب السياسية المغربية على محك التقويم الموضوعي. الكتاب كما ذُكر هو عمل أكاديمي محض، يعتمد على أحدث مناهج البحث العلمي وأبرزها الاستمارة كوسيلة ناجعة نوعا ما في استقاء المعلومات الضرورية، وفي البحث الميداني ثم المقابلة (الحوار المباشر) فالمقاربة الإحصائية وأخيرا أسلوب تحليل المضمون، اعتمادا على مستندات ووثائق محددة، رسمية وغير رسمية. والإشكال الأساس الذي تناوله صاحب الكتاب يتمثل في ظاهرة العزوف الانتخابي، تاريخيتها بالطبع، تجلياتها التي تتمظهر عبر أشكال وسلوكات شتى، أبرزها مقاطعة التصويت، أو الامتناع عن كل العمليات التي لها علاقة به، كعدم التوجه أصلا إلى مكاتب الاقتراع، وفي كثير من الأحيان مقاطعة التسجيل نفسه أو إعادة التسجيل في اللوائح، أو إفساد التصويت بوضع جميع الأوراق في الغلاف، أو عدم وضع أي ورقة محددة، مما يدمج جميع هذه الأشكال في ما يسمى ب"البطائق الملغاة "، ونتيجة ذلك تتضخم أعداد المساهمين "سلبا" من مقاطعين وممتنعين ورافضين للعبة ككل، وتتقلص باستمرار الأصوات "الإيجابية" أي التي تذهب إلى حزب معين من الأحزاب المغربية المتعددة أو إلى الأحزاب مجتمعة. إن أبسط ملاحظة كما جاء في مقدمة الكتاب، تجاه نتائج الانتخابات (المقصود استحقاق 2011) ونسبة المشاركة والأصوات المعبر عنها ونسبة الأصوات الملغاة، قد تثير تساؤلات متعددة ومؤرقة أحيانا، أمر لا يبعث على الاعتقاد بأنه معطى طبيعي في الحياة السياسية، بل هو يعبر عن وضعية أزمة: أزمة تعبئة وتسييس، أزمة دولة، أزمة أحزاب وأزمة سياسة بشكل عام (ص 7). طبعا المقاربة هنا تتميز بصرامتها العلمية وبحدود التصور الموضوعي للباحث الأكاديمي أولا وقبل كل شيء، حيث نلمح ابتعادا شبه تام عن تبني أي موقف سياسي أو حزبي معين، ما يعطي للبحث قيمته المعرفية والإعلامية والثقافية السياسية (من الثقافة السياسية) هذا من باب التذكير فقط، وهو ما يقترب من مراكز الدراسات العربية أو العالمية التي تتغيا المصداقية والموضوعية من قبل ومن بعد، في بحوثها واستطلاعات الرأي لديها. خصص الباحث الأستاذ غسان الفصل الأول من الكتاب للعمليات الانتخابية التي عرفها المغرب منذ أول استحقاق جماعي في ماي 1960، ولاحظ المؤلف أن العملية الانتخابية في مختلف مراحلها الإجرائية والتنظيمية عرفت مظاهر من الحماس والتعبئة، باعتبار أن المغرب كان حديث عهد بمثل هذه الاستحقاقات التي تترجم نظريا وفعليا إرادة الشعب. وقد امتد الحماس والتعبئة المذكوران إلى حدود انتخابات 1984، حيث بدأ العد العكسي لذلك، وهو ما تبرزه بوضوح نسبة المشاركة التي شرعت في التدني بشكل تدريجي وصولا إلى استحقاق 2011؛ ففي استحقاق 1960 بلغت نسبة المشاركة 75 في المائة كنسبة عامة تجمع البوادي والمدن، لتنحدر إلى نسبة 72 في المائة في استحقاقي 1983 (الجماعي) و1984 (التشريعي ) ولتستمر في التدني إلى 45 في المائة المسجلة في آخر استحقاق بالنسبة لصاحب الكتاب (2011). يَعتبر الباحث أن هناك مفصلا أساسيا في نسبة المشاركة أو العزوف على حد سواء بين مرحلتي 1960 / 1984 والاستحقاقات التي جرت بالمغرب بعد 1984 حيث لاحظ هنا وبالأرقام التدني المتواصل لنسب المشاركة بين استحقاق وآخر في مرحلة ما بعد 1984. وكان الرقم الأدنى المسجل في هذا المجال هو 37 في المائة في الاستحقاق التشريعي لسنة 2007 مما شكل نكسة حقيقية على مستوى الحياة السياسية الوطنية، في حين لم تتجاوز 52 في المائة على صعيد الانتخابات الجماعية لسنة 2009 بعد أن انحدرت ب13 نقطة عن استحقاق سنة 1960 وبنقطتين عن آخر استحقاق سنة 2003. وإذا كانت مرحلة الاستحقاقات الأولى إلى حدود 1984 قد شهدت مظاهر من الحماس والتعبئة، اضطلعت بها أساسا الأحزاب السياسية، ومنظماتها الموازية، سواء منها الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية أو الأحزاب الإدارية معا، فإن المرحلة الثانية عرفت على العكس تراجعا ملموسا في ذلك الحماس وتلك التعبئة، إذ كانت التجمعات الجماهيرية – كمقياس على درجة حرارة الوضع السياسي عموما – عارمة جاذبة للجمهور وخاصة منها تجمعات أحزاب المعارضة والاتحاد الاشتراكي منها تحديدا في المرحلة الأولى أي إلى حدود سنة 1984، وظلت تستقطب الآلاف في الملاعب وميادين المدن الكبرى والمتوسطة؛ في حين تراجع كل هذا خلال المرحلة الثانية، وهنا يعرج الكاتب على دور الأحزاب السياسية المغربية باعتبارها مجالات تأطيرية وتعبوية، فضلا عن لعبها أدوار الوساطة بين المجتمع والدولة على وجه العموم، وهي الأدوار المفترضة لكل التنظيمات السياسية في جميع أنحاء العالم. ويخلص الباحث الأستاذ غسان إلى أن سيرورة هذه الاستحقاقات عبر مراحل ما بعد 1984 تميزت بتراجع رهيب في معدل المشاركة. كما ارتفعت نسبة الأصوات الملغاة إلى ما يزيد عن مليون صوت خلال استحقاق 2011، وعلل بعض عوامل ذلك بنوع من اللامبالاة أو بموقف سلبي من الحياة السياسية ككل، وهناك عوامل تفصيلية ظهرت من خلال الاستمارة التي وزعت على 400 مستجوب على صعيد العاصمة الاقتصادية، ولاحظ أن نسبة العزوف تتجلى بشكل ظاهر وملموس في المدن والمراكز الحضرية الكبرى والمتوسطة وعلى رأسها ولاية الدارالبيضاء الكبرى، وهذا له دلالات عميقة بالنسبة للباحث لأن هذه المدن والمراكز الحضرية ظلت دائما في تاريخ المغرب الحديث، تشكل مراكز الثقل السياسي والاجتماعي والمدني والثقافي على وجه العموم. وتظهر عوامل التراجع تلك في تزوير الإرادة الشعبية، فالحقل السياسي كان دائما محل تدخل لجهات معينة داخل نظام الحكم (كما جاء في الكتاب)، وتجلى ذلك في العديد من المحطات والمناسبات السياسية أو الانتخابية، فقد عرف المغرب إلى حدود سنة 2002 تسع استحقاقات جماعية وثمانية تشريعية، وباستثناء تلك التي عرفها في ماي 1960 و17 ماي 1963 والتي عكست إلى حد ما الخريطة السياسية الوطنية، فإن باقي الاستحقاقات نالت انتقادات واسعة وشرسة أحيانا من قبل أحزاب المعارضة وقتذاك، والمقصود هنا أحزاب الحركة الوطنية: حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي تحول سنة 1975 إلى الاتحاد الاشتراكي، ومن هذا الأخير انبثقت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، ثم تيارات يسارية أخرى محدودة التأثير الجماهيري والسياسي. لقد اعتبرت تلك الأحزاب أنها ضحية التزوير الانتخابي الذي حرمها في كل مرة من أغلبية المقاعد سواء على مستوى الجماعيات أو التشريعيات، وكان المستفيد في كل مرة، الأحزاب التي صنعتها الإدارة بداية بجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية Le FDIC ثم التجمع الوطني للأحرار RNI( أصبح الآن يمثل حزب رجال الأعمال وكبار المقاولين وبعض أصحاب المناصب العليا ) فالاتحاد الدستوري UC وأخيرا لا آخرا حزب الأصالة والمعاصرة PAM، الذي ضم خليطا من اليساريين السابقين وبعض كبار المقاولين وأصحاب الشركات ورجال الأعمال المدعومين من طرف جهات في الدولة. تميزت الاستحقاقات الأخيرة بتراجع بين لليسار وممثله الرسمي الاتحاد الاشتراكي، ب38 و39 مقعدا وكلها على قاعدة أكبر بقية أي أن نجاح مرشحي هذا الحزب تم بشق الأنفس وهذا له علاقة بالنظام الانتخابي اللائحي، في انتخابات 2011 خصوصا، بدل57 مقعدا في انتخابات 1997 ، وكان أكبر تراجع في عدد الأصوات سجله هذا الحزب سنة 2007 إذ لم يتجاوز 408945 صوتا مقابل 884061 حصل عليها في اقتراع 1997. وتجاه هذا التراجع إن لم نقل الانهيار، لاحظ الباحث تفوقا مطردا لحزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي، وهو ما يعكس تحولا كبيرا في الحياة السياسية المغربية المعاصرة، كما يمثل مفصلا من أزمتها معا، الشيء الذي تعكسه نسبة المشاركة ذاتها، والنتائج التي حصل عليها الأصوليون (125 مقعدا في البرلمان الحالي الشيء الذي يعد سابقة في الحياة السياسية المغربية)، لا بل إن المواقع التقليدية التي كانت وظلت تصوت لليسار كالدارالبيضاء والرباط وفاس ومكناس وطنجة ووجدة وخريبكة وآسفي وتازة والجديدة وبني ملال أصبحت أصواتها تذهب إلى "البيجيدي" في ظل نسبة المشاركة المتدنية وفشل اليسار نفسه، خاصة بعد تجربة التناوب التوافقي، كما ذهب إلى ذلك الأستاذ غسان. يعزز الباحث ما ورد في الكتاب/ الأطروحة بجرد تعريفي نوعا ما للأحزاب السياسية المغربية (الرئيسية) بما فيها أحزاب اليمين الإداري وبالأحرى التي كانت أو أصبحت كذلك، مستهلا بجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية التي ضمت أحزاب الحركة الشعبية (بقيادة المحجوبي أحرضان الضابط السابق في الجيش الفرنسي) MP والأحرار المستقلين L I ( محمد الرشيد ملين ) والديمقراطي الاشتراكي PCD لأحمد رضا اكديرة المقرب من الملك الراحل الحسن الثاني، وكان هدف تأسيس هذه الجبهة (التي كان البعض يطلق عليها جبهة الملك) يتمثل في السيطرة على البرلمان ومحاولة تقزيم المعارضة الوطنية بقيادة حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك. وقد حصلت الجبهة على أغلبية نسبية بشق الأنفس، إثر انضمام ستة نواب مستقلين إلى فريقها، بعد أن تعادلت مع أحزاب الحركة الوطنية ونقصد الاستقلال والاتحاد الوطني اللذين حصلا مجتمعين على 69 مقعدا من 144 كان يتألف منها البرلمان في ذلك الوقت، الشيء الذي صعَّب مهمة نواب الجبهة، ما أدى إلى انهيارها في الأخير ومعها نهاية التجربة الديمقراطية الأولى التي عرفها المغرب بإعلان حالة الاستثناء بعد أحداث الدارالبيضاء الدامية (مارس 1965). وكما سبق القول فإن هذه الجبهة كانت تدخل - في نظر أحزاب الصف الوطني الديمقراطي - ضمن مسلسل تمييع الحياة السياسية وتزييف إرادة الشعب، وهو مسلسل لم يكن جديدا في كل الأحوال؛ فقد ظهرت بوادره منذ أيام الحركة الوطنية – حسب إفادة الأستاذ امحمد بوستة رحمه الله - وخاصة عقب تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال مرورا بأحداث الريف وتمرد عدي وبيهي بتافيلالت مؤازرا بجحافل جيوش الاستعمار الفرنسي التي ظلت جاثمة لبعض الوقت بعد الاستقلال. وجاء تأسيس التجمع الوطني للأحرار بإيعاز من جهات معينة وبناء على مبادرات مئات من المستشارين الجماعيين، الذين اجتمعوا فيما بين 06 و08 أكتوبر 1978، وبخلفية واضحة تتمثل في الحفاظ على "التوازنات السياسية" الكفيلة بتهميش القوى الوطنية والديمقراطية، التي كانت تمثل خط المعارضة.. ومن ثمة، ضمان أغلبية مريحة في البرلمان وهي الانتخابات التي كان المغرب يستعد لها بعد استحقاق نونبر الجماعي لسنة 1976 وكل ذلك في أفق تمرير اختيارات الدولة المعروفة، والطريف هو أن هذا التجمع تأسس باسم المسيرة الخضراء، التي شاركت فيها مختلف الشرائح الاجتماعية المغربية والأحزاب الوطنية، في مناخ من الإجماع الوطني حول قضية استرجاع الأقاليم الصحراوية إلى أرض الوطن، ولم تكن في النهاية من صنع حزب معين أو تيار محدد. في سياق مختلف ولنفس الأهداف، تأسس حزب الاتحاد الدستوري ليلة الانتخابات الجماعية لسنة 1983، بقيادة المحامي (الاتحادي سابقا) المعطي بوعبيد، وقد تمكن مع حلفائه من إحراز أغلبية بالبرلمان لسنة 1984، بدعم مباشر من الإدارة واستغلال للوسائل والمرافق المعلومة، دون إغفال ما وجهته أحزاب المعارضة من انتقادات حادة حول أشكال التدخل الإداري وقلب إرادة الناخبين لصالح هذا الحزب الحديث النشأة، مع استمرار الاتحاد الاشتراكي في قبول اللعبة والانخراط ضمن مساراتها الملتوية. من العوامل الأساس التي ساهمت في تقليص نسبة المشاركة ضمن الاستحقاقات المختلفة، ما وصفه صاحب الكتاب ب"فشل الحركة الوطنية"، ويقصد خاصة الاتحاد الاشتراكي والاستقلال، فضلا عن باقي التوجهات "اليسارية" المنشقة عن الاتحاد؛ كمنظمة العمل، والمؤتمر الوطني الاتحادي ( فيما بعد)، وجمعية الوفاء للديمقراطية، وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي. وتجلى ذلك الفشل بوضوح في تجربة التناوب التوافقي التي وإن كانت واعدة في بداياتها، لكن سرعان ما توالت النتائج المحبطة لذات التجربة، حيث انتهت إلى ما انتهت إليه، وأصبح شعار الأغلبية تقريبا "اولاد عبد الواحد كلهم واحد"، علما بأن ذلك الفشل لا يخص التيارات التي انشقت عن الاتحاد الاشتراكي ورغم ذلك كان للتجربة وقعها المرير على اليسار ككل. يقدم المؤلف، في فقرات محدودة، ما يسميه إفلاس الاشتراكية سواء في نسختها الناصرية (سابقا) أو في تمظهراتها الستالينية أو حتى الماوية، أو ضمن ما يصفه بالاشتراكية العالم ثالثية، كعامل من بين عوامل الخفوت الأيديولوجي والفكري عامة داخل منظومة أحزاب اليسار سواء منه اليسار التقليدي (الوطني) أو ما يسميه البعض باليسار الجديد، الشيء الذي ساهم في فتور حماس المناضلين والمتعاطفين على حد سواء، وطغيان عوامل الزبونية والتسلق والوصولية والانتهازية والحلقية الضيقة أكثر من أي شيء آخر، فضلا عن الانفتاح دون ضوابط على الأعيان وتهميش الفاعلين والناشطين والمثقفين، وقد صاحب الضعف التنظيمي لتلك الأحزاب علاوة على العوامل السابقة في انحسارها الجماهيري، وفقدانها التدريجي لتعاطف فئات اجتماعية معينة معها وهي فئات حضرية بالأساس. أكثر من ذلك يعلن الكاتب في مؤلفه بوضوح "نهاية التعبئة القائمة على أساس أيديولوجي"، مقابل ظهور عوامل وأشكال أخرى "هجينة" ومشوِّهة للوعي والانتماء جميعا، وذلك تحت تأثير التحضر المكثف (من الحاضرة أي المدينة وليس الحضارة ) Une urbanisation massive نتيجة الهجرات القروية نحو المدن، ما أدى إلى تأثيرات بليغة على مستوى البنية السكانية والاجتماعية ومدى حضور السياسي Le politique والأشكال المعمارية والقيمية والثقافية أيضا، نجمت عن زحف الترييف على تلك المدن من جهة وسيادة " ثقافة مدن الصفيح "Culture des bidonvilles من جهة أخرى، بما يستتبعها من قيم هجينة كانحطاط اللغة وافتقاد أسس العيش الكريم، وأشكال الاعتداء والإجرام والسوق الانتخابية واحتراف المهن الهامشية والموسمية وغيرها. وبعد أن يلقي نظرة على مختلف الأحزاب المغربية وبعض أعطابها السياسية والتنظيمية والثقافية منذ انطلاق الحركة الوطنية بجناحيها (علال الفاسي – محمد بلحسن الوزاني ) وتمغرب الحزب الشيوعي الذي انتقل إلى حزب التحرر والاشتراكية ومن ثمة إلى حزب التقدم والاشتراكية وتنظيمات اليسار التي خرجت من معطف الاتحاد الاشتراكي منذ ستينيات القرن الماضي، بعد كل هذه التفاصيل المسهبة يحلل أعطاب الأحزاب السياسية المغربية كطبيعة المنخرطين ومشاكل الانشقاقات المتوالية مع استثناء حزب الاستقلال الذي حافظ بشكل غريب على تماسكه، عقودا عديدة تلت تجربة الانفصال سنة 1959، ويأتي بعده العدالة والتنمية وهناك أزمة النضال السياسي وتقديم الأعيان "تنظيميا " وانتخابيا، إلى درجة تأجير حشود الشباب في الحملات الانتخابية، يستثنى من ذلك "البيجيدي" الذي يعتمد أساسا على ناشطيه. صحيح أنه لما تأسست كتلة العمل الوطني سنة 1934، كان جل المغاربة حديثي عهد بالتجربة الحزبية التي بقيت مع ذلك تمثل قشرة الحداثة – حسب الأستاذ غسان – دون جوهرها فالافتقار إلى منظومة إيديولوجية واضحة في تلك الأزمنة، جعل من الكتلة وحتى الأحزاب التي انبثقت عنها مجرد تجمعات من هنا وهناك، متضاربة المصالح والتوجهات لا يجمعها سوى مطلب الاستقلال، أما بعد تحقيقه فظل الأمر عبارة عن شعارات فضفاضة عامة للتعبئة الانتخابية لا أقل ولا أكثر، بمعزل غالبا عن الجانبين السياسي والتنظيمي، بل حتى الانشقاقات كانت لها طابع "الشخصنة" وظلت أقرب إلى ما كان يحصل في الزوايا وعبر دهاليز المخزن والمغرب العتيق، لا بل لم تستطع مجمل الأحزاب خاصة اليسارية منها أن تحتفظ بجسد انتخابي قار، مثلما هو عليه الحال بالنسبة ل"البيجيدي" الذي نجح في ذلك. على الرغم من أن اقتراع 2011 عرف ارتفاعا طفيفا في نسبة المشاركة قياسا إلى 2007 ومعه اقتراع 2016، فإن نفس الملاحظات ما زالت تسري على طبيعة الانتخابات بالمغرب، مع كل الآمال التي تحملها في العادة، ويختم الباحث كتابه بمقابلات وحوارات مع عدد من الشخصيات الحزبية الفاعلة كمحمد الكحص وسعيد السعدي ومحمد العربي المساري وامحمد بوستة وعبد الهادي خيرات ومحمد الساسي والحريف ولحسن بوقنطار ومحمد منار، ومن نماذج أجوبة الاستمارات الموزعة على 400 مواطن / نة من الدارالبيضاء، تخص عوامل العزوف الانتخابي بشكل مخصوص، ذكَر 114 بأن المنتخبين لا يبحثون إلا عن تحقيق مصالحهم الخاصة و109 بأن الأحزاب السياسية فقدت كل مصداقية، و108 قالوا بأنه لا ثقة لهم في العملية الانتخابية و71 برروا الموقف السلبي بعمليات التزوير، و55 عبروا عن إحباطهم تجاه الاقتراع ككل، و48 أكدوا أن سبب عزوفهم هو سلوكات المنتخبين في المجالس الجماعية، و42 أكدوا أن السبب هو تشابه كل البرامج الانتخابية، فيما أقر 29 أن تلك البرامج لا تستجيب لآمالهم ونفس العدد أكد بأنه لا يصوت لفائدة أي لون سياسي معين، كما ذهب نفس العدد من المواطنين أي 29 إلى أنه لا يهتم بالسياسة و27 أرجعوا السبب إلى إحباطهم من تجربة التناوب التي قادها عبد الرحمان اليوسفي المحسوب على اليسار ونفس العدد اعترف بأن صوته لا يجدي نفعا، كما أن 21 شخصا أفادوا بأن الانتخابات لا تهمهم. أخيرا، لا غنى للمهتمين بالشأن السياسي في المغرب عن هذا البحث القيم. * رئيس مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث