كما هو الأمر بالنسبة لكل الاستحقاقات الانتخابية التي جرت خلال العقد الأخير كانت قضية نسبة المشاركة الانتخابية التحدي الأكبر الذي يواجه الدولة خلال الانتخابات الأخيرة الخاصة بالجماعات الترابية. فرغم أن الأمر يتعلق بانتخابات محلية عادة لا تكون ذات رهانات وطنية كبيرة، ولا تمس بشكل مباشر شرعية الحكم، كما لا تحظى باهتمام كبير من طرف الملاحظين والمراقبين الدوليين، مع ذلك كان تسجيل نسبة مشاركة مرتفعة يبدو مهما بالنسبة للدولة من زاوية أنها ستسمح بإظهار "هامشية المقاطعين" وتقديمهم "كأقلية تعيش على حافة السياسة"، وفي نفس الوقت تسويق صورة خارجية عن المغرب باعتباره لا يزال مختلفا، ويشكل "استثناء" مقارنة بما يجري في البلدان التي تقع شرقه. لكن إذا كانت نسبة المشاركة المعلنة خلال هذا الاستحقاق الانتخابي قد ارتفعت بنقطة واحدة مقارنة بالانتخابات الجماعية لسنة 2009، حيث انتقلت من 52.4 إلى 53.67 في المائة، فإن ذلك لا يمنع من القول إن غير المشاركين لا يزالون يشكلون "الحزب الأقوى"، وأن العزوف الانتخابي ليس مجرد "حدث" عارض بل يعكس معطى بنيوي يخترق نسيجنا السياسي ويهدد بمزيد من زحف قارة اللاتسييس. ويصبح هذا المعطى أكثر وضوحا عندما نأخذ بعين الاعتبار بعض المعطيات التي تخفيها هذه النسبة، ويتجاهلها بعض المحللين والفاعلين السياسيين على حد سواء. أولا أن هذه النسبة هي في حد ذاتها تبدو ضعيفة في انتخابات محلية عادة ما تؤدي كثرة الدوائر الانتخابية وعدد المرشحين، وقربهم أكثر من الناخبين، وحضور ارتباطات وحوافز غير سياسية بين الناخبين والمنتخبين، إلى ارتفاع مستوى التعبئة مقارنة بالانتخابات التشريعية. لذلك، فإن تسجيل نسبة 63.55 في آخر انتخابات محلية فرنسية (2014) كان كافيا لحديث وسائل الإعلام في هذا البلد عن أزمة عزوف انتخابي. ثانيا أن هذه النسبة هي نفسها لم تحظ بالتسليم الكافي من طرف جميع الفاعلين السياسيين، حيث لم تتردد بعض القوى السياسية الرئيسية المقاطعة للعملية الانتخابية في التشكيك في مدى صحتها. وهي شكوك يغذيها الأساس الذي اعتمد في احتسابها، وتحديدا اعتماد وزارة الداخلية على قاعدة المسجلين في القوائم الانتخابية خلال فترة التسجيل العادية (14500000 ناخبا) دون الأخذ بعين الاعتبار المسجلين خلال المراجعة الاستثنائية، فضلا عن التأخر الذي عرفه الإعلان عنها (لم يتم الإعلان عن النسبة النهائية للمشاركة إلا خلال اليوم الموالي لإجراء الاقتراع)، واستمرار التكتم على العديد من التفاصيل والبيانات المرتبطة بها (توزيع هذه النسبة على مستويات: المجال، الجنس، بينة الأعمار، مغاربة الداخل ومغاربة العالم...). ثالثا عدد الأصوات الملغاة خلال هذا الاقتراع التي قاربت المليون صوتا، أخذا بعين الاعتبار أن عدد المصوتين المعلن عنهم وصل إلى 8.3 مليون وأن عدد الأصوات الصحيحة وصلت إلى 7.3 مليون. وهذا يعني أنها تمثل مجموع الأصوات التي حصلت عليها ثلاثة أحزاب سياسية مجتمعة من بين "الأحزاب الثمانية الكبار"، وتحديدا لاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية والاتحاد الدستوري. بالتأكيد أن جزء من هذه الأصوات الملغاة يعود إلى أخطاء مادية ناتجة عن انتشار الأمية في أوساط العديد من الناخبين، وتعقيدات ورقة التصويت، خاصة في ظل كثرة المرشحين ولوائح الترشيح، وازدواجية التصويت الذي فرضه إجراء الاقتراع الخاص بالجماعات والجهات في نفس اليوم. لكن بالتأكيد أيضا أن جزء منها يعود لناخبين يدركون جيدا أن التصويت واجب، وأن الانتخابات هي وسيلة أساسية للتغيير، ولكنهم لم يجدوا بعد العرض السياسي الذي يحمل هذا الهم، ويجسد هذا الاختيار، كما لم يطمئنوا بعد لتوفر الاقتراع على كل الشروط التي تضمن شفافيته وسلامته. رابعا وجود ما يقارب أربعين بالمائة من المغاربة البالغين "سن الرشد الانتخابي" خارج دائرة المسجلين في القوائم الانتخابية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عدد المغاربة الذين تتجاوز أعمارهم 18 سنة، ويتوفرون على البطاقة الوطنية التي تشكل القاعدة الأساسية للتسجيل في اللوائح الانتخابية وللتصويت (عدد الذين يتوفرون على البطاقة الوطنية يصل إلى 24 مليون، ضمنهم حاولي 400 ألف قاصر)، ولا ينتمون إلى بعض الفئات التي يحرمها القانون من ممارسة هذا الحق السياسي (حاملو السلاح، السجناء، القضاة..). خامسا التحول الذي طرأ في العقود الأخيرة على مضمون العزوف الانتخابي، بحيث لم يعد كما كان من قبل ذا بعد سوسيولوجي ويمثل جزء من الثقافة السياسية السائدة بل أضحى يعكس خيارا سياسيا واضحا. صحيح أن الذين لا يشاركون لا يبدون جميعهم متأثرين بالضرورة بمواقف التنظيمات السياسية الداعية للمقاطعة (حزب النهج الديمقراطي، جماعة العدل والإحسان، بعض نشطاء الحركة الأمازيغية)، بل وقد لا يعرفون أن هناك اتجاهات سياسية تتبنى هذا الموقف وتدافع عنه، وبالتالي فإن "عزوفهم" لا يعكس بالضرورة صراعا سياسيا، لكن عندما يسجل العزوف الانتخابي في المجال الحضري أكثر من العالم القروي (لم تتجاوز هذه النسبة في مدينة كبرى مثل الدارالبيضاء 29 في المائة)، ويمس المتعلمين أكثر من الأميين، كما يظهر في صفوف الشباب أكثر من الفئات الاجتماعية الأخرى (لا يتعدى عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و24 نسبة 10 في المائة من مجموع المسجلين بحسب إحصائيات وزارة الداخلية)، فإن ذلك يؤشر على ما يبدو على طابعه السياسي. سادسا بعض التردد الذي لا يزال يميز سلوك الدولة إزاء موضوع المشاركة الانتخابية. فهي تبدو موزعة بين تصرفين متناقضين: الأول، يتمثل في الخطاب المعلن حول توسيع دائرة المشاركين كما هو واضح من خلال الحملات التعبوية والدعائية التي تقودها من أجل حث المغاربة على التسجيل في اللوائح الانتخابية، وفي مرحلة لاحقة من أجل الذهاب إلى صناديق الاقتراع قصد الإدلاء بأصواتهم. فهي تدرك أن ارتفاع عدد المشاركين يحسب في خانة الثقة في العمليات الانتخابية وفي المؤسسات المنبثقة عنها، ويزيد بالتالي من تعزيز شرعية السلطة الحاكمة، الشيء الذي يفسر استمرار تشبثها بالتسجيل الشخصي ورفضها تبني التسجيل الأوتوماتيكي في اللوائح الانتخابية بناء على قاعدة البيانات التي توفرها بطاقة التعريف الوطنية، لأن ذلك من شأنه أن يبين الحجم الكبير للمقاطعين مقارنة بالمشاركين. الثاني، يتجلى في هاجس الخوف من أن يكون المستفيد الأكبر من كل ارتفاع محتمل للمشاركة قوى سياسية تضع مسافة إزاء اختيارات الدولة العميقة، وتتبنى اختيارات إيديولوجية وسياسية مختلفة (اليسار من قبل والإسلاميون اليوم)، إذ يبدو أن التقدير المسبق للميولات السياسية لكتلة هامة من الناخبين المغاربة القاطنين بالخارج (حوالي 2 مليون مغربي مهاجر مسجلين في اللوائح الانتخابية)، وإدراك حجم نفوذ "الإسلام السياسي" في أوساط العديد منهم هو الذي يفسر استمرار بعض العراقيل القانونية التي يواجهونها في ممارسة حقهم الدستوري في التصويت، وفرض الدولة لأسلوب معين في التصويت (التصويت عن طريق الوكالة) أثبت عدم نجاعته، ولم يبد المعنيون به أي حماس اتجاهه (خلال الانتخابات الأخيرة لم يتم تسجيل سوى 17 حالة تصويت عن طريق الوكالة). سابعا أن جزء من نسبة المشاركين تعكس، إلى حد كبير، تجميعا لأصوات استدرجت إلى صناديق الاقتراع بوسائل غير مشروعة، وصدرت عن ناخبين لا يتملكهم الإحساس، وهم يدلون بأصواتهم، بأنهم يؤدون واجبا وطنيا ومقتنعين بجدوى ما هم مقدمون عليه، وإنما عن ناخبين تقاضوا مقابلا ماليا عن تصويتهم. لذلك، فإن مشكل المشاركة المطروح في المغرب هو قبل كل شيء مشكل مضمون. فالشريحة الهامة من "الناخبين الملتزمين"، الذين كانت مشاركتهم تعطى للاستحقاق الانتخابي معنى، وتجعل نتائجه تعكس اختيارات وتوجهات لم تتم مصالحتها بعد مع صناديق الاقتراع، لأن الفاعلين السياسيين، أو على الأقل الأغلبية العظمى منهم، لم يقدموا لها "العرض" الذي من شأنه أن يفتح شهيتها على المشاركة، وفضلوا بدل ذلك الاهتمام بالأساليب التي تحفز "الناخبين الموسميين". وهذا يعني أن ربح رهان النسبة لا يعني، بالضرورة، ربح رهان المشاركة، طالما لم نستطع أن نعطي مضمونا لهذه المشاركة وأن نغير الصورة التي يتمثل بها الكثير من المواطنين العملية الانتخابية. ثامنا الدور الذي لعبته، وظلت تلعبه، المشاركة الانتخابية في الأقاليم الجنوبية في الرفع من نسبة المشاركة على المستوى الوطني، حيث تتحكم اعتبارات خاصة في صنع هذه المشاركة لا تتعلق، دائما، ب"طموح ساكنة تلك الأقاليم في الانخراط في النظام الديمقراطي التمثيلي"، أو بالتعبير عن "طلب واضح لممارسة حق التصويت كحق سياسي"، كما دأبت على قول ذلك التصريحات الرسمية. * أستاذ علم السياسة - كلية الحقوق السويسي