طرح الأستاذ أحمد عصيد أفكارا في مقالة نشرها موقع هسبرس تحت عنوان "عناصر لفهم المسلمين في السياق الغربي"، ليس للمساهمة في نقاشات النخبة المثقفة الباحثة عن مخرج سلمي وآمن للجالية المسلمة في الغرب في ظروف لا يمكن وصفها إلا بالصعبة والخطيرة؛ بل أراد بأفكاره هذه أن يلقي بالجالية في مجمع الحرائق الهوياتية، الذي يذكيها اليمين المتطرف ودعاة الإسلاموفوبيا؛ فهو بهذا يزيدنا من حيث يدري ويصر أحزانا إلى أحزان وضعيتنا المتأزمة. فبالرغم من حرص الجالية المسلمة على النأي بنفسها عن الإشارة إليها كمن يعيش أزمة الهويات، لم يتوقف الأستاذ من قصفها وجرها إلى صف من يعاديه ويعادي النقاش الهادئ حول قضايا الهوية وإشكالات المواطنة، مما يجعلنا نتساءل بمرارة المطعون من ذوي قرباه: هل استطاع الأستاذ أن يحلل وضعية الجالية المسلمة بعقلية المثقف المحايد مع تقديم إجابات عن إشكالاتها الحقيقية، أم حاول تفريغ مخزوناته النفسية المرتبطة شكلا بتدين المسلمين بديار الغرب وعمقا بالدين الإسلامي باعتباره مكونا من مكونات الهوية الأوروبية؟ هل بيّن الأستاذ عصيد للشباب المسلم في الغرب بمنهجيته طريقا يسلكونه في إطار التعريف بالهوية الأوروبية ومنهجا يسلكونه ضمن التحديد العلمي لمفهوم المواطنة المرتبطة بالممارسة الديمقراطية في إطار المشاركة الفعلية لأبناء الجالية في ظل محاولاتهم الهادئة للبروز في الفضاء العام الأوروبي ثقافيا وسياسيا واجتماعيا؟ أم أنه قد حاول تشريد ما تبقى من ذهنيتهم وبلبلة أفكارهم بمحاولته إذكاء الصراع المتأجج بين رؤية معينة للدين ورؤية معينة للعلمانية، وصب المزيد من الزيت على هذا الصراع الذي يؤدي إلى الانجراف نحو تعصب أكثر يفضي بنا جميعا إلى انفصال وصراع مجتمعي؟ إن الأستاذ بأفكاره هذه يفرش لأرضية ثقافية ملغومة ويعطي مصداقية معنوية للفكر المتشدد والمتطرف والذي بدأ بفقد بريقه عند كثير من شباب الجالية المسلمة في الغرب.. إن كل محاولات الأستاذ عصيد تنصب حول رسم معالم هوية جديدة يحاول جاهدا إلصاقها بالجالية المسلمة مع التركيز على التخويف والتشنيع لجلب انتباه الوسائل المؤثرة في دواليب الدولة إلى مخاطر وجودها في الفضاء الأوروبي. "الإسلام في السياق الغربي لم يعد هو الإسلام الشعبي أو الصوفي والطرقي الذي تعوّد عليه المسلمون في بلدانهم الأصلية. إنه نموذج تديّن مُعولم، ومصاغ من أجل متابعة مسلسل "الغزوات" القديمة ل"بلاد الكفار". أظن أن ما يقوم به الأستاذ عصيد هو التغطية عن فشل تاريخي هوياتي نذر له من عمره دم قلبه، فاستثمر فيه ما تبقى من جهده ليتراجع منطق المصالحة والتعايش وقبول الآخر بكل تجليات اختلافاته الدينية والإيديولوجية من أجل إثبات الحرائق الهوياتية المخيفة والتي اختار من ضحاياها المسلم المهاجر ضمن جغرافيا فسيحة على امتداد تخوم الغرب. إن "الجماعة بالمفهوم الديني الإسلامي هي التي تقدم نفسها عوضا عن الدولة واختياراتها، وتشكل لحاما "لا وطنيا" بين المسلمين وحاضنا حقيقيا لهم على هامش الدولة والمؤسسات، وهذا يجعلهم غير ملزمين بتبني "قيم الجمهورية"، ما دامت لهم قيمهم المخالفة. وعندما تسعى الدولة إلى أن تفرض عليهم قوانينها كغيرهم من مواطنيها عندئذ يقاومونها ويعتبرون ذلك "عنصرية" و"إسلاموفوبيا". لاحظوا استعمالاته المتكررة للإسلام كدين، وليس كتدين ولا كفهم وتطبيق. إن الأستاذ عصيد يكشف عن أزمة أخلاقية تتصل بأصول البحث العلمي والمنهجي في تعالقها مع الهوية والانتماء والدين؛ فكل انتقاداته لمظاهر التدين هي مقدمات للوصول إلى النبع والأصول لتمس تصورات عن الدين الإسلامي بما هو دين إقصائي ماضوي مغيب لثقافة التعارف والتشارك والتعايش بين جميع المكونات الثقافية والإثنية المؤسسة للمجتمع الغربي. ويكشف عن حقد مفرط مؤسس على نظرة دونية ناسفة لقيم التعدُّدية والاختلاف. إنها دعوة صريحة للعنف ضد الجالية المسلمة بكل أشكاله وتمظهراته من استعداء عنف الدولة والسلطة إلى استعداء عنف الفرد والمجتمع. هكذا، غدا البحث العلمي عند الأستاذ مجالا للتحريض على العنف باسم المحافظة على مؤسسات الدولة "وعندما تسعى الدولة إلى أن تفرض عليهم قوانينها كغيرهم من مواطنيها عندئذ يقاومونها ويعتبرون ذلك "عنصرية" و"إسلاموفوبيا"". يحاول الأستاذ عصيد في كل مشاريعه التنويرية أن تتحول رؤاه الاستعدائية من معرفة إلى ثقافة وتتشعب لتصبح كما الدين الإسلامي في الغرب من مجرد فكرة متداولة بين النخب إلى مستوى التداول بين العموم، فيطلق أحكاما مثيرة للشفقة أكثر مما هي مثيرة للتفكير وباعثة على تبادل وجهات النظر "يعتبر المسلم مواطنيه من غير المسلمين غرباء عنه، وينظر إليهم كما لو أنهم أعداء. ولهذا، يحرص على عدم اختلاط أبنائه بأبنائهم، كما يحرص على عدم ارتياد أماكنهم، فيجد ذاته داخل الحي المعزول للمسلمين". يدعو الأستاذ عصيد جاليتنا المسلمة في الغرب إلى القطيعة مع الدين وليس إلى قطيعة نوع من العلاقة مع الدين، ليحولنا من كائنات متدينة إلى كائنات هائمة لا تتمثل الدين ولا ترقى إلى مستويات التمثل النموذجي للعلمانية والحداثة؛ فهو يفترض أن الخلل في الدين الإسلامي، وليس في بنية الواقع السياسي والاجتماعي لبعض المنحرفين عن أصول الدين المتسامح. دورنا الأساسي، يا أستاذ، هو أن نطفئ فتيل الصراع الذي يؤججه تجار الموت من كل الجوانب ومحاولة بناء جسور الثقة التي ترأب ما كاد يتصدع من مجتمع متعدد. رفقا بجاليتنا أستاذ عصيد، ويكفينا زمورEric Zemmour واحد؛ فلا حاجة لنا بزمور ثان من بني جلدتنا.