لن ننتظر حلول الساعات الأخيرة من هذه السنة كي نتأكد بالملموس أن الموت هو الشيء الأكثر تردداً بيننا، ولسنا بحاجة إلى استطلاعات رأي تنظمها المجلات المعروفة والمواقع الإخبارية عن طريق برمجة تصويت المتتبعين لها قصد اختيار الكلمات والعبارات الأكثر تداولا في أحاديث نقاشات المواطنين اليومية رأوا أنها كانت حاضرة بشكل مخيف واستهدفت كل الأعمار، الأصحاء والمرضى، وكل المجالات كالاقتصاد والسياسة، الرياضة، الفن والإعلام. تم التطبيع مع الموت بشكل إجباري دون سبق إصرار بصيغته الفردية والجماعية، ورحيل صامت للإنسان في غياب تام لتلك الطقوس الجنائزية المعتادة التي يتم فيها إلقاء النظرات الأخيرة على جثمانه. حضور أناس محسوبين على رؤوس الأصابع وإلغاء مراسيم العزاء المعتادة التي تخفف على الأقل من حرقة فراق الأحباب حيث يُحْضن فيها المفجوعون بالمصيبة. "الموت" هذه السنة غيّب كذلك الطفل عدنان والطفلة نعيمة بتلك البشاعة والفظاعة تلتها فظاعة النسيان الذي وثقنه جميعا بعد كل استنكار افتراضي موسمي وتنديد لا يتجاوز الأسبوع ! كانت للموت أجندة مواعيد سوداء دُونت عليها أسماء شخصيات بارزة سقطت تباعا، رحيل المناضل عبد الرحمن اليوسفي، ثريا جبران، عبد الجبار لوزير، المبدع أنوار الجندي، عبد العظيم الشناوي، سعد الله، شاما الزاز، لكريمي، بادوج والتشكيلي المليحي، إدريس أوهاب، وآخرين. كانت للموت أيضا مواعيد مُبرمجة للقاء جنود يقفون في وجه الفيروس اللعين بالخط الأمامي للمعارك التي تدور بالمستشفيات والمصحات الخاصة، جنود يلبسون بذلاتهم البيضاء وأقنعتهم الواقية ويحاربون ليل نهار داخل غرف الإنعاش الباردة التي تُسمع فيها أصوات تلك الآلات المخيفة التي تكتبُ جنريك النهاية على شكل خط مستقيم عند كل استسلام روح لبارئها. اختفت عبارات التهاني للمواليد الجدد على صفحات فيسبوك وانستغرام التي ترمز إلى الحياة والاستمرارية، لتحل محلها عبارات الترحّم وتقديم العزاء مرفوقة بصور الراحلين تاركين وراءهم ابتسامات صادقة مرسومة على وجوههم. الجميع أصبح يُردد قبل الإجابة عن مكالمة واردة على هاتفه المحمول أو قراءة رسالة على واتساب عبارة "الله يسمّعنا خْبار الخير" وكأن هذه السنة أقسمت أن تكون للموت والسواد، للأخبار الحزينة، للإحصائيات المخيفة، للتباعد الاجتماعي الذي خلق بداخلنا الكثير من الكسور النفسية والاجتماعية نحتاج إلى الكثير من الوقت لإعادة ترميمها! *كاتب رأي