الحلقة الأولى: تقديم: سيتحرك هذا العمل الروائي، عبر حلقات متعددة، لتصحيح العودة إلى الماضي، من أجل توظيفه، سليما غير مشوه، في بناء المستقبل المغربي الفرنسي – في الواجهة- والإسلامي الفرنسي، في عمق الصورة. بمعنى تصحيح العودة إلى الماضي، من أجل تصحيح الرهان على المستقبل. العمل لا يقف على الصفيح الساخن للأحداث، اليوم، بل انطلق منذ سنوات؛ منذ أن بدا أن فرنسا تتعثر كثيرا في محاربتها لإرهاب إسلامي حنبلي بالخصوص، غدا مواطنا فرنسيا، بكل أوراقه الرسمية. أسباب التعثر متعددة؛ ومنها كون المقاربة الأمنية القوية للدولة، لا توازيها مقاربة تاريخية صادقة، عميقة وفعالة. الإرهاب عموما، من إنتاج أجيال متعاقبة؛ ميراث عابر للقارات؛ وقد ساهمت فيه كل الدول والشعوب. فشل فرنسا يعود إلى نظرة تسطيحية مغرضة؛ تسكت عن عشرات السنين من تفريخها لأجيال من الإرهاب الكولونيالي، وعرقها دساس، لكي لا ترى غير الجيل الحالي منه؛ وهي لا تتصوره إلا إسلاميا ولا تواجهه بغير برامج "حذر" المدججة بالسلاح فقط. هل سيتمكن الحب الذي برعم في قلبي الطالبين "فرونسواز" وطارق المغربي، من تصحيح الماضي لتصحيح المستقبل؟ قراءة ممتعة.. ثم لا شيء غير حفيف البامبو: فرونسواز فرونسواز، أين أنت؟ لا لا لا، الوقت يضيع، ها قد عدت الى عبثك المعهود.. الامتحان على الأبواب؛ هل تضجرك دروس التاريخ إلى هذا الحد؟ كم هي كثيفة هذه الخمائل، كيف لي أن أعرف أين تختبئين؟ يسمع قهقهتها العذبة تلعلع خلف قصب البامبو، لكنه لا يراها. أنا هنا يا طارق، في هذا الحاضر الأخضر؛ دعك من صداع التاريخ وأقبل قبل أن أنطلق كغزالة؛ ألا تغريك بالعدو هذه الممرات بين الخمائل؟ ألا تدغدغك كل هذه الحركة المجنحة بين الأغصان؟ آه ها أنتِ إذن تبحثين عن سيقان مغربية تعدوا خلفك، طيب يا فرونسواز. ثم انطلق كالسهم صوب مصدر الصوت، ملقيا جانبا محاضرات السيدة "كلودين أوليارد " أستاذة التاريخ بجامعة بواتيي POITIERS. لم تمهله حتى يعرف وجهتها، بين كل هذه الممرات المتعانقة بحديقة "بلوساك"؛ أشهر حدائق بواتيي. تسعفه قهقهة رجل عجوز يستظل بشجرة عملاقة، جذورها ضاربة في الماضي البعيد؛ لعله كان يستمع إلى بعض قصائد الزمن، قبل أن يحيط به ويستعيده كل هذا الشغب الشبابي. يشير بعصاه إلى طارق: من هنا، من هنا، ألحقها، وإلا نهضت لأجرب ركبتي. يضحك طارق شاكرا وينقذف بكل طاقته، كصخرة أطلسية حطها السيل، مقتفيا شذى عطر يعرفه جيدا. ها هي أخيرا، قاب خطوات أمامه.. صرخت جذلى، إذ كاد يقبض على رشاقتها. لن تفلتي مني يا فرونسواز، وإن غطاك كل تاريخ بواتيي. بديا في عدوهما الملتف يمنة ويسرة، وكأنهما يرسمان حلقات سلسلة؛ ما أن تلتئم إحداها حتى تنفصم؛ تماما كحلقات التاريخ. ويتواصل اللحاق صاخبا أحيانا، حينما يتقارب الجسدان، أو توشك أن تقع؛ وصامتا أحيانا لا يسمعان فيه غير تقطع أنفاسهما. أخيرا لم يعد بوسع الغزالة إلا أن تقع على العشب الأخضر البارد والندي. هَوَيا معاً، جنبا إلى جنب، تسبقهما ضحكات الاستسلام العذب والفوز المتواضع. آه لقد اخترت أن أتوقف وإلا ما كان لك أن تلحقني. وبعد برهة صمت كافية ليستجمعا أنفاسهما؛ يؤكد لها أنه عدا خلفها بنصف سرعة فقط. آه أنت هكذا دائما، بطبيعة جبلية لا تستسلم أبدا. سنجرب مرة أخرى؛ أما الآن فهيا بنا؛ أراكَ ألقيت بأوراقنا كيفما اتفق. لا تقلقي فالعجوز هناك، ولا أحد يهتم لأوراق بلون التاريخ فقط. وهما يدنوان من مكانهما الأول تحت الأشجار، أشارت إلى العجوز: انظر يا طارق، ها هو حيث كنا، يتصفح أوراقنا؛ هل اقتنعت أن هناك من يهتم بالتاريخ غيرنا. يلتفت العجوز ضاحكا: آه لقد أمسكتَ بها، حسنا فعلت، وإلا كنت أنا من سيفعل.. آه ما أبهج الشباب حينما يتذكره عجوز مثلي. ثم يواصل: لقد سمحت لنفسي بتصفح ما كنتما تتناقشان فيه قبل أن تقررا ممارسة الحياة الطبيعية بدل التاريخ. لا عليك يا سيدي يرد طارق، يسعدنا أن تهتم بمحاضراتنا. لم يكن يا ولدي اهتماما عابرا فقط، لقد مسحت للتو دموعي حينما رأيتكما تقتربان. وحينما رأى الحيرة في عيونهما، واصل: لا يظهر علي الآن، وأنا بكل هذا الضعف التسعيني أنني كنت عقيدا في الجيش الفرنسي. لقد كنته بفيلق مشاة البحرية، هنا في بواتيي، وقد قضيت سنين من الخدمة في المغرب. ما أن سمع طارق هذا الكلام حتى عدل من وقفته، وبدت عليه صرامة لم تعهدها فرونسواز العابثة. يقول وهو يلتفت نحوها: هل تذكرين يوم قلتِ لي في بداية تعارفنا الطلابي: كل شيء في "بواتيي" يا طارق يتنفس التاريخ. ها نحن حتى حينما تمردنا على محاضرات التاريخ وألقيناها جانبا، وتسابقنا، لم نصل إلا إلى التاريخ إياه. ترد هي بعذوبة شغب لا يفارقها: نعم نعم، ومرحبا بتاريخ يسمح لشباب مثلنا بالتمرد على صرامته. يكمل الكولونيل المتقاعد: يبنى التاريخ بصرامة ثقيلة ومؤلمة، لكنه يستعاد خفيف الظل؛ حينما يتخلص من كراهية حاضره الذي أنتجه. وهل كان لنا ونحن في جبال الأطلس، زمن حروب التطويع –وليس التهدئة كما تسمى- أن نتمرد على صرامة الانضباط والأوامر، وننطلق في عدو طفولي، بين الخلجان والسهول المفروشة ورودا؟ أنتما اليوم بوسعكما ذلك، سواء هنا في "بلوساك" أو في القمم على مشارف خنيفرة المغربية. آه ما أجملها من قمم، وما أقذر الحرب. طاب يومكما، وإن شئتما تفاصيل ما جرى هناك، فأنا أتردد على بلوساك كثيرا؛ وبوسعي دائما توضيح محاضرات أستاذتكما كلودين؛ إن رغبتما في ذلك. هل تعرفها، تتساءل فرونسواز؟ نعم نعم، يجيب الكولونيل؛ ومن لا يعرف كلودين في بواتيي؛ خصوصا فيلق مشاة البحرية التاريخي. لقد احتفينا بها جميعا، وهي تتسلم جائزة الأكاديمية الفرنسية، عن أطروحتها حول الدبلوماسية الرومانية القديمة. قالها ثم انصرف بكل عفوية، وكأنه لم يخلف حيرة كبرى وراءه. حيرة طارق المغربي نعم؛ لكن حيرة فرونسواز كانت أقوى. لقد تذكرت حكايات والدها عن جدها. وقبل أن يختفي العجوز وراء خمائل البامبو، صاح طارق: أكيد يا حضرة الكولونيل، متعنا بلقاء تاريخ يوثق بصدق ما جرى. هو ذاك ويسعدني أن أقدم لكما هذه الخدمة، ولو كان بوسعي أن أحضر إليكما هنا على رأس فيلق المشاة لفعلت. قهقهة ضعيفة ضعف سنوات العمر الأخيرة، ثم لا شيء غير حفيف البامبو. خرجا من الحديقة وهما يفكران في هذه الصدفة السعيدة التي ستنير لهما بعض الدروب الكولونيالية المظلمة. استعادا أطروحات الأستاذة كلودين الداعية إلى إعادة كتابة التاريخ الكولونيالي، دون لذة الانتصار والاستعمار، ودون مرارة الهزيمة والتبعية. وتؤكد: بهذا فقط سنعود إلى المستقبل، وليس الماضي. يتبع