تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    بيت الشعر في المغرب والمقهى الثقافي لسينما النهضة    الزمامرة والوداد للانفراد بالمركز الثاني و"الكوديم" أمام الفتح للابتعاد عن المراكز الأخيرة    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول    اعتقال بزناز قام بدهس أربعة أشخاص    النقابة المستقلة للأطباء تمدد الاحتجاج        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الإيليزي يستعد لإعلان حكومة بايرو    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي        محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    حقي بالقانون.. شنو هي جريمة الاتجار بالبشر؟ أنواعها والعقوبات المترتبة عنها؟ (فيديو)    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمي محتاجة إلى اللحم والعصير
نشر في هسبريس يوم 09 - 10 - 2020

في آخر لقاء بيننا فهمتُ من أمي أنها محتاجة إلى اللحم والعصير. كان اللقاء في ظروف خاصة لذلك كنا جميعنا، مُشوّشين أمي وأنا وطلبها... لا أذكر بالضبط كيف قالت ذلك... لِنَقُلْ إنها عبّرت بطريقة ما... أو أنني استنتجت ُمن تلميحاتها.. لا أريد الخوض كثيرا في الشكل ما دام المطلوب واضحا: اللحم والعصير...
لكن مَن قال إن الطلب واضح ...
كان يصعب على الطلب أن يكون واضحا لأن لا شيء كان كذلك، المكان، المناسبة، بل حتى ملامحنا كانت معتَّمة إلى حدٍّ ما ...
اللحم والعصير...
أي نوع من اللحم، خروف، بقر، دجاج ... وعصير ماذا... وكم ... ولمن؟
أمي لم تأكل أكلنا منذ ما يقارب عشر سنوات، لست أدري هل نحن من تخلّى عنها، أم أنها ارتأت أن تعتزلنا لتعيش في أمان بعيدة عن صخبنا... كل ما أعرف أنني لم أودِّعها حين شيَّعوها... كنت مسافرا يوم جنازتها...
وبالأمس، خُيِّل إليَّ أني فهمتُ طلبها، فرأيتُني متوترا أبحث لها عن اللحم والعصير.
وحين استيقظت من النوم نفضتْ ذاكرتي جلَّ التفاصيل، بل و''الحبكة" بِمعظم أجزائها...
حَيْثية صغيرة، ربما تافهة ولا أخالها ستساهم في تأويل الحلم، لكنها ظلت صامدة تقاوم النسيان.
'' -أمي تريد العصير واللحم..'' صاح في وجهي أخي الصغير خليل ...
- "نعم، أمي تريد العصير واللحم'' أجبتُه بتشنج أكبر وصوتٍ أعلى ...
أظن ألاّ غروَ في هذا التّصارُخ، ولعله دليل إضافي على أننا من أسرة عربية عريقة... كلُّنا يسبُّ كلَّنا، وكلُّنا يُخوِّن كلَّنا... وكلنا يدعي ما يدعيه كلنا... ألا ترى أن حركة حماس تصرخ: "نريد دولة فلسطينية"، فتردُّ حركة فتح بصوت أعلى ''نعم، نريد دولة فلسطينية"، وغير بعيد كانت داعش ترفع عقيرتها: ''نريد دولة إسلامية'' فيطلق عليهم مقاتلو ''جبهة النصرة'' زخات من القذائف ويهتفون: ''نعم، نريد دولة إسلامية"... وفي الجانب القصّي من غرب المسرح كان عبد الإله بن كيران يواجه المعارضة بأنه يريد إسقاط التوجيهات الملكية على أرض الواقع، فترد المعارضة بأنها هي كذلك ترغب في نفس الشيء... ويبقى ''أطرف'' تبادل وجهات النظر هو قول قائلهم ''نحن أغلبية صاحب الجلالة''، فأجابه مجيبهم ''ونحن معارضة صاحب الجلالة".
لن أتوقف أكثر أمام هذا النوع من ''الحوار''، فما يهمني فِعلا هو تحقيق رغبة الوالدة، اللحم والعصير... لكن كيف ذلك؟
يقال إن من أكثر الكتب مبيعا في الوطن العربي هي كتب الطبخ وتفسير الأحلام. وقد سبق لي أن اقتنيتُ أحدها، تفسير الأحلام وليس الطبخ، لكني وجدته عديمة الفائدة. كما أني حاولت البحث مرارا عن تفسير بعض أحلامي في الأنترنيت فأجدُني أمام تأويلات متعددة وأحيانا متناقضة كأنها قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي...
أعرف أن عالم الأحلام يمٌّ عميق غامض، خاض عبابه الأنبياء والأتقياء، والجُهاّل والتجار والفُجّار...
يحكى أن رجلا في باكستان رأى في المنام أنه يذبح ابنه، الْتقط الشيخ الإشارة وأدرك أنها الكرامة، ولم يشأْ تفويت فرصة إحياء سنَّة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام. تلَّ الشيخ ابنَه على الجبين مؤمنا محتسبا، وضع السكين على رقبة ابنه، وما هي إلا ثواني حتى رأى عجبا... رأى الدماء تتدفق من شرايين ابنه ورأى فلذة كبده يموت بين يديه...
لكن أمي لم تطلب مني ذبح أحد، إنما هما اللحم والعصير، فماذا يضير إن تأوّلتُ الرؤيا، أو استفسرت عن تأويلها...؟
لم أرغبْ في تمطيط الموضوع أكثر من اللازم، قررتُ أن أستفتِ نفسي ... وكانت الفتوى أن أتصدّق بكمية من اللحم والعصير... رحم الله الوالدة، الأصل أن اللحم تصاحبه المشروبات الغازية وليس العصير... على أي...
قرّرتُ أن أشتري عجلا وأذبحه، لكني ارتأيت أن العجل غالي الثمن... فكرت بعدها في الخروف، فهو حتماً سيفي بالغرض.... ثم سرعان ما غيّرتُ الفكرة من أساسها، وقررتُ رصد مبلغا من المال لأشتري اللحم بالتقسيط.... المشكلة، وكما أخبرتك آنفا، أن الوالدة لم تحدد نوع اللحم وهل يمكن إطلاق اسم اللحم على السردين... لم أوَدّ العودة إلى التفسير والتأويل، حسمت الأمر في 1500 درهم من كل أنواع اللحوم و100 درهم من العصائر.
قد يبدو المبلغ زهيدا إلى حد ما... لكنك تعرف جيدا أني لا أملكه الآن، كما لا يمكنني اقتطاعه من مرتب الشهر القادم، ولا الشهر الذي بعده. خطر لي تعديل المبلغ، 600 درهم من اللحم و50 درهما من العصير... لكني خجلت من أمي... وقررتُ الثبات على مبلغ 1600 درهم ...
ربّاه، كيف أشرح لزوجتي أن علينا إجراء تقويم هيكلي في الميزانية حتى يتسنّى لي ''تنزيل'' حلم رأيته في منامي.. يجب أن أبعث لها رسالة خطية عبر الهاتف وأقطع الاتصال لمدة خمس ساعات حتى يهدأ بركانها. بدا الأمر يكاد يلامس حدود العبث... فكرت في الاستدانة من صديقي يوسف، أعرف أنه يحتقر ذكائي ويصفني من وراء ظهري بالغباء، لكني أساعده في بعض الأعمال التي تتطلب قوة بدنية، وهذه فرصتي لتكريس ما يسمى ''المصالح المتبادلة''. لكن ماذا لو سألني عن سبب الاستدانة؟ هل سيحترم حبي للوالدة، أم سيتيقن أني فعلا غبي وربما مجنون...
دعك من يوسف...
فجأة، تذكرتُ أخي خليل القاطن بإسبانيا. صحيح أننا ''تحاورنا'' في المنام بالطريقة العربية، لكن في الواقع علاقتي به جيدة للغاية، فَهو من القلائل الذين يضحكون حين أحكي بعض النكت، ولعلّه الوحيد الذي لا يُبْدي امتعاضه حين يؤدِّي عنِّي ثمن العصير في إحدى المقاهي المُطلَّة على الكورنيش. كما أنه يعرف جيدا مدى ارتباطي بالوالدة... لا أخاله سيقلق كثيرا من طلب كهذا.. 1500 درهم من اللحم زائد 100 درهم من العصائر زائد 1000 درهم جزاء حبي للوالدة، لِنقلْ 300 أورو. طبعا سأحكي له عن الحلم الذي رأيته وعن تأويلي له. في المقابل لن أخبره أني فكرت في الالتجاء إلى صديقي يوسف حتّى لا أجرح كبريائه. وطبعا لن أدخل معه في كيفية توزيع المبلغ الذي سيُرسلُه فهو يعرف أني أهل للثقة.
بقي تفصيل بسيط أظنّه لن يؤثر كثيرا، وهو أن المعمل الذي يشتغل فيه خليل قد أغلق بسبب أزمة كورونا. على العموم، فإسبانيا دولة غنية ولا يمكن أن تتخلّى عن مواطنيها في مثل هذه الظروف. كما أني متيقن من أن خليل لن يردّ طلبي في كل الأحوال، فأنا أخوه الأكبر، وأنا من أدّى ثمن ''الكونطرا'' التي بفضلها استطاع عبور المضيق مكرّماً في باخرة مراكش عِوض قوارب الموت التي كان يفكر فيها. وليست 300 أو حتّى 350 أورو بالمبلغ الذي سيؤثِّر على ميزانيته.
أمّا هذه فحُلَّتْ...
لننتقل إذن إلى الخطوة التالية، وهي حصر المستفيدين من اللحم والعصير... وجدتُ نفسي توسوس لي ساخرة "أعلى أفقر منك؟...
كان عليّ أن أكون حاسما في هذه المسألة، فآليتُ على نفسي ألاّ أمس من لحم الوالدة وعصيرها، وحسبي أنّي ثمّنْتُ حبي لها ب 100 أورو وهو طبعا ثمن رمزي... ألم تر أن الفتاة تدَّعي حبَّ الشاب فتطلب ثمنا لذلك حريته، مستقبله... ألا ترى إلى السياسي يجاهر بحبه للوطن فلا يرضى بأقل من مقعد في البرلمان، وتقاعد وعلاوات... ألم يأتكَ نبأُ أجدادي العرب الفاتحين، أو على الأقل بعضهم، حينما أخذوا ثمن حبهم لله وللإسلام أراض شاسعة خصبة، ودفعوا بأهل البلد إلى جبال الأطلس... من يظنُّ أن ثمن حبي للوالدة هو 100 أورو فهو واهم، إنما هي دُريهمات نستأنس بها ونستعين بها على نكبات الدهر...
المهم ...على من سأوزع اللحم والعصير؟
من الأفضل ألا تكون اللائحة طويلة... ثلاث عائلات فقط... أو أربع كأقصى حد...
فكرت في "بّا الحَمْدي'' حارس السيارات... لكني سرعان ما تراجعت، أظنه أغنى مني، كما أني لا أحبه. يقال أنّه يتعاون مع الشرطة وأنه هو من وشى بصديقنا الظريف ''سعيد اللاّبوي'' بائع المخدرات بالتقسيط... لا ضير فالمغرب مليء بالفقراء وسنجد عوض البديل ألفا. ماذا عن المؤذن سي الهاشمي، يقال إن أجرة المؤذنين لا تتجاوز 2000 درهم، ولا بد أنه لم يأكل اللحم منذ شهور. شخصيا لا مشكلة عندي مع سي الهاشمي، كما أني أُكبِرُ فيه تضحيته من أجل ابنه وحرصه الشديد على حسن تربيته. لكن ماذا لو علم أخي خليل بذلك، لا أخاله سيستمرِئ الفكرة. ذلك أنه وقع تلاسن ورفع للأصوات بين الاثنين في العام الماضي حين ركن خليل سيارته قرب باب المسجد، مما أثار حفيظة سي الهاشمي الذي طلب من خليل تغيير المكان ''فورا''. والذي تتبع تَطوّر الأحداث بين كندا والمملكة العربية السعودية سيعرف حجم الحساسية التي يعاني منها العربي تجاه مفردة "فوراً''، ألم أقل لك أننا عرب أقحاح.
لا بأس، سنتخطى سي الهاشمي...
ما ذا عن مّي فاطمة، حارسة ومُنظّفة العمارة التي كنا نسكنها. كنّا صغاراً، وكان حي مرشان، وكان الجمال... كنّا نطلق على مي فاطمة لقب "بورطيرة'' أي الحارسة بالإسبانية. أعتقد أن خليل يُكنُّ لها احتراما خاصاً. كما أنها كانت قريبة جدا إلى الوالدة، إنها فعلاً شخص مناسب. صحيح أن جارنا القديم وصديقنا العزيز ''محمد الدِّيواني'' كان يجد شيئاً في قلبه تجاهها، لأنه كان يعتقد أنها تسرب بعض أسرار العائلات. ربما كانت هذه ''التهمة'' تعني شيئاً قبل ظهور "فيسبوك" و"يوتوب". فما كانت تُسرِّبه مي فاطمة، إن كانت تسرب شيئاً، لا يكاد يقارن بما تنشره العائلات نفسها عن غدائها وعشائها وحلّها وتِرحالها... أمّا إن كان لا بد من الحديث عن سرٍّ ما، فهو كيفية جمع أكبر عدد من ''اللايكات..."
جميل... بقي علينا البحث عن عائلتين...
لكن مهلا... أليستْ مِّي فاطمة تعاني من السكر والضغط، والكوليسترول... أيمكنها فِعلاً أكل اللحم، ألم تخبرنا في آخر زيارتنا لها أن الطبيب نصحها بالابتعاد عن اللحوم؟ أستطيع أن أؤكد أن المنع يشمل لحم البقر والغنم، لكني لست متأكدا من الدجاج والسمك...
حسنا سنترك مِّي فاطمة في لائحة الانتظار...
أظنني قلت لك أن المغرب مليء بالفقراء، أتُراني فعلاً عجزت أن أجد ثلاث أو أربع أسر أوزع عليهم بعض قطع اللحم وقطرات من العصير وأُنهي هذا المشكل ...
لكن أَلستُ أنا من اصطنعت هذا المشكل؟
-إنها وصية الوالدة...
- من قال أن الوالدة تريد منك هذا العنت...؟
-قالت أنها محتاجة إلى اللحم والعصير...
- صلِّ ركعتين وادع لها باللحم والعصير...
- أترانا نلعب لعبة سيزيف... هل سنعود للتأويل والتفسير...
- افعل ما بدا لك ...
ماذا لو اتصلت بخليل وكلَّفته بهذا الأمر... ألم يقل إنهم مضربون عن العمل؟ يعني أن له الوقت الكافي للبحث عن الفقراء الذين يستحقون اللحم والعصير...؟
لكن ماذا عن 100 أورو ثمن حبي للوالدة...؟
وجدته...عمي ميمون، عزيز قوم ذلَّ... صديق قديم للوالد. كان ميسور الحال، لولا أن ابنه الوحيد تسبب له بالإفلاس قبل أن يدخل السجن بلائحة طويلة من التهم أوّلها إصدار شيك بلا رصيد، وآخرها تكوين شبكة للهجرة غير الشرعية... عمي ميموم كان كريما معنا ونحن صغار... كم سيفرح خليل حين أُخبره أني أهديت ل ''عمّو'' بضع كيلوغرامات من اللحم وقنينات من العصير...
لكن ماذا سيكون رد فعل الوالد... فعندما ابتدأت الأمور تتعقد عند عمي ميمون طالب هذا الأخير والدنا بإرجاع مبلغ من المال كان قد أقرضه إياه، لكن الوالد أكد له أنه أدّى ما عليه من دين منذ مدة. المشكلة أن لا أحد منهما يملك دليلا على صدق دعواه.
مبدئياً أستطيع القول إن معرفتي لأبي لا تختلف كثيرا عن معرفتي لعمي ميمون، كما يمكنني التأكيد على أن كلاهما لا يعرفان عني الكثير... لا أذكر أني جالستُ أبي أكثر من ساعة، ولا أذكر أنه سألني يوماً عن رأيي في موضوع ما... وحين أخبرته ذات يوم أني نجحت في البكالوريا، نظر إلي مليّاً ثم قال لي بنوع من الحسرة: بِالْكاد وصلتَ إلى البكالوريا...
لن أخوض كثيرا في هذا الموضوع، لن أتكلم عن ''أوديبية'' ولا ''أُوثعلبية''... كل ما سأقول هو أن بعض من عاشروني وعاشروا الوالد يؤكّدون أننا نتشابه في الخُلُق والخلقة. أما عن نفسي فأنا كثير النسيان، فوضوي إلى حد الكارثة، غالبا ما يختلط عليّ ما فعلته بما نويتُ فِعله. فإن صدق من شبَّهني بأبي فسأجزم مطمئناً بأن المُحقُّ في دعواه هو عمّي ميمون. ورغم كل ذلك، ولأنني كما قلت لك للمرة الألف عربي قح، لن أتردد في رفع شعار ''انصرا أباك دائناً أو مدينا ''...
لِننسَ عمي ميمون...
سحقا لك يا خليل... أنت معتصم أما المعمل محاط بالإسبانيات الشقراوات وأنا هنا أفكر في ''با الحمدي'' و''عمي ميمون ''...
ماذا لو كلّفتُ شخصا آخر يبحث لي عن فقراء يستحقون اللحم والعصير...
محسن أبو جمعة... صديق حميم، عضو في إحدى الجمعيات الخيرية... سبق له للمرة الأولى والأخيرة أن فاتحني في موضوع شراء الأضاحي للعائلات المعوزة. مددت له قطعة نقدية من فئة عشرة دراهم، وكانت تمثل نصف ما في جيبي. ما زلت أذكر تلك النظرة التي سددها إلي، كانت مزيجا من السخرية، والاشمئزاز مع حبّات من الغضب، ثم قال لي: نحتاج إلى مِئتيْ شخص مثلك كي نشترى شيئاً يشبه الكبش.
صنفان من الناس أحس بالضعف أمامهما، الفتيات الجميلات، والرجال الأكثر ثقافة مني... بالنسبة لحسن فليس هو بفتاة ولا بجميل... في المقابل يستحيل أن أجالسه دون أن يحدثني عن كتاب قرأه، أو مقال كتبه. لا شكّ أنه لا يطالع كثيرا الكتب التي تعالج موضوع الإتكيت، لكني أدين له ثقافيا بالكثير. لذلك ابتلعتُ الإهانة، وغيرت البوصلة نحو موضوع قديم لم نكن أتممناه ويتعلق بالهياكل العظمية المتراكمة أسفل مدينة باريس، و التي يطلق عليها اسم ''الكاتاكومب ''catacombes .
المهم، سأفاتحه بصيغة ما، وسأعطيه 1600 درهم وأطلب منه أن يشتري اللحم والعصير لمن يعتقد أنه يستحقها. سأطلب منه ألا يسألني عن التفاصيل لأنها تخص أغْياراً لا أودُّ الإفصاح عنهم... سأكون صادقا إلى حد ما، فالوالدة هي من أوْصَتْ، وخليل هو من سيرسل 300 أو 350 أورو... وكفى الله المؤمنين القتال.
لكن، من سيضمن لي أن محسن سيصرف المبلغ كله في اللحم والعصير... ألم تر أنه يُغيِّر سيارته كل سنتين أو ثلاث سنوات، أتُراه فعلا متطوعاً في تلكم الجمعية ''لله، في سبيل الله''... لا أظن ذلك...
حسنا سأطب من خليل أن يرسل المال، سأتصرف في نصيبي وسأنتظر ماذا ستفعل بنا الأقدار...
على العموم، ليس هذا هو الحلم الأول ولا أظنه الأخير الذي لم أستطع تحقيقه...
أما تزال بعد كل هذ تشكُ في عروبتي...؟
هل عليّ أن أبحث عن مِشجب آخر؟ أم أعود للنوم علّ الرؤيا القادمة تكون قابلة للتحقيق...؟
أو لعلّ أمي تعفيني من تحقيق رغبتها وتوصي بها قوما آخرين...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.