لا يتعلق الأمر هنا بتشخيص أعطاب الجهاز الإداري، كوني أعتقد أن لا مصلحة أصبحت ترجى من إعادة اجتراره في كل مرة، خاصة وأنه يكاد يكون قد استنفذ من قبل المهتمين سواء كانوا فاعلين رسميين أو متخصصين، فنعوت من قبيل البطء والروتين والتبذير وكذا المركزية والهرمية المفرطتين... لا تكاد تخلو منها أي من الكتابات المتخصصة والتقارير والدراسات الرسمية ذات العلاقة بالإصلاح الإداري بشكل عام، بل وحاضرة في المخيلة الجماعية للمواطنين، حتى أضحت بمثابة علامات مسجلة باسم إدارتنا العمومية. كما لا يتناول الموضوع النقاش النظري حول صلاحية النموذج الفيبري البيروقراطي الذي ينهل منه جهازنا الإداري خصائصه، والدعوة بالتالي إلى اعتماد نماذج بديلة (على فرض وجودها) استنادا إلى تجارب مقارنة، متغافلا سياقاتها القانونية والسياسية والاجتماعية، ونحن الذين نحتفظ بذكريات سلبية عن تقليد واستيراد الإصلاحات والنماذج الجاهزة، فليس من العقل تبسيط الحقيقة عندما يتعلق الأمر بورش تتجاوز تعقيداته مجرد الاستجداء بنموذج ناجح في بيئات مغايرة. يرتبط التطرق لهذا الموضوع أساسا بالتفاعل مع سياق داخلي، عنوانه إصلاحات وأحداث تراكمت خلال الفترة الأخيرة، نعتقد أنه أصبح يطوق أكثر فأكثر منطق هيكلة وعمل إداراتنا المركزية، ويدفع في اتجاه إنضاج شروط التغيير بل وفرضه. وبصرف النظر عن كنه هذا القادم المأمول، فالفكرة الأساسية هنا هي التأكيد على أن الوقت قد حان للمضي في هذا الإصلاح الذي طال انتظاره، فقناعة الحاجة إلى عقلنة الإدارة المركزية أضحت تتأكد مع مرور الوقت، والكل يقر بكون بنيات وهياكل هذه الإدارة تتسم بالتضخم وغياب الاستقرار والتشتت، وأن وظائفها تغيرت بشكل كبير. عندما نتحدث عن الإدارة المركزية، فإننا في الحقيقة بصدد تناول قلب جهاز الدولة، حيث التوازنات التي تشكلت وترسخت على مدار سنوات طويلة يصعب المساس بها، بل إن مجرد الحديث عن ذلك لابد وأن يثير حفيظة جيوب المقاومة كما يحلوا للبعض تسميتها، ويدفعهم للخروج دفاعا عن مصالحهم، لذلك فمحاولات الإصلاح التي تستهدف الإدارة المركزية غالبا ما تتعثر تحت ثقل إكراهات سياسية وبيروقراطية واجتماعية... لا بد من التذكير بداية أن الانتقادات الموجهة لتنظيم وعمل الإدارة المركزية ليست جديدة، ويكفي التذكير هنا بتوصيات المناظرة الوطنية الأولى حول الإصلاح الإداري المنظمة بتاريخ 8 ماي 2002، والتي أكدت على ضرورة إعادة تنظيم الإدارة العمومية وتكييف مهامها مع الدور الجديد للدولة. كما أشارت إلى أن المنظومة الهيكلية للوزارات تتسم بالتضخم في عدد البنيات الإدارية على مختلف مستوياتها وبالتقريبية في الاختصاصات الموكولة إليها، وأنها لا تستجيب لمواصفات الترشيد والعقلنة... يضاف إلى هذا وجود بنيات إدارية في مستوى مديرية أو إدارة عامة غير مبرر من الناحية العملية لكون مهامها أسندت إلى وكالات أو مؤسسات عمومية أحدثت استجابة لظرفيات معينة، وأن بعض الوحدات الإدارية تعرف تداخلا في الاختصاصات أدى في بعض الحالات إلى ازدواجية وتنازع في المهام المسندة إليها، إضافة إلى صعوبة تحديد حمولة التسميات التي أطلقت على بعض البنيات والقطاعات. وفي ما يلي أستعرض أهم الاعتبارات والدوافع التي أرى أنها تدفع نحو ضرورة إصلاح الإدارة المركزية، وفق منظور يرتقي بهذا الإصلاح إلى منزلة الأوراش الحكومية الهيكلية والاستراتيجية، ويأخذ بعين الاعتبار التعقيدات التي ينطوي عليها والتضحيات التي يلزم بذلها: 1) اكتمال بناء الصرح القانوني للإدارة الترابية - اعتماد الجهوية المتقدمة لقد رسم الخطاب الملكي بتاريخ 3 يناير 2010 بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية البداية العملية للانتقال بمسألة اللامركزية الترابية إلى مرحلة جديدة، ووضع الإطار العام والنظري لهذا الإصلاح المؤسساتي والهيكلي الهام، والمتمثل أساسا في المرتكزات الأربع للنموذج المستقبلي للجهوية (الوحدة والتضامن والتوازن وانتهاج اللاتمركز الواسع). وقد جاء دستور فاتح يوليوز 2011 ليكرس هذا التصور، وليضع القواعد الدستورية العامة للجهوية المتقدمة، فبالإضافة إلى ما نصت الفقرة الرابعة من الفصل الأول من اعتبار التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي يقوم على الجهوية المتقدمة، نص الفصل 136 على أن "التنظيم الجهوي والترابي للمملكة يرتكز على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة". كما جرى تخصيص الباب التاسع من الدستور كاملا للحديث عن الجهات والجماعات الترابية الأخرى.... وقد توجت هذه الدينامية من تنزيل اللامركزية الترابية بصدور القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية ونشرها بالجريدة الرسمية بتاريخ 23 يوليوز 2015، وهي القوانين التي عززت صلاحيات واختصاصات الجماعات الترابية في مسلسل صناعة وتنفيذ التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية التي ترغب الساكنة المحلية في تحقيقها، على أن تضطلع الجهة بالصدارة في القيام بهذه الاختصاصات، ثم تلتها إجراء الانتخابات الجهوية والمحلية في شتنبر 2015. - صدور الميثاق الوطني للاتمركز الإداري بعد انتظار طال أمده صدر في نهاية سنة 2018 المرسوم رقم 2.17.618 بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري، وذلك بعد دعوات ملكية متتالية إلى ضرورة اعتماد منظور جديد لسياسة اللاتمركز، قادرة على مواكبة التنظيم الترابي اللامركزي القائم على الجهوية المتقدمة. ويعتبر صدور هذا المرسوم أهم دافع نحو إعادة النظر في المرسوم رقم 2.05.1369 الصادر بتاريخ 2 دجنبر 2005 بشأن تحديد قواعد تنظيم القطاعات الوزارية واللاتمركز الإداري، على اعتبار أن مقتضيات هذا المرسوم المتعلقة باللاتمركز الإداري قد نسخت بموجب الميثاق الجديد للاتمركز، في حين تم الإبقاء على مواده التي تتطرق لتنظيم الإدارة المركزية وتصنيفها. وفي انتظار الانتهاء من تفعيل توزيع الاختصاصات بين الادارات المركزية والمصالح اللاممركزة، والذي حدد له أجل ثلاث سنوات من تاريخ دخول المرسوم حيز التنفيذ، فإن التلازم الذي يطبع المستوى المركزي ومصالحه الخارجية يفرض التعجيل بمراجعة بقية مواد المرسوم رقم 2.05.1369. وبعيدا عن مناقشة مستجدات ميثاق اللاتركيز، فإن خشية أن تتكرر تجربة مرسوم 2 دجنبر 2005 السالف الذكر لها ما يبررها، ويكفي أن نورد هنا ما جاء في تقرير المجلس الأعلى للحسابات سنة 2017 حول تقييم نظام الوظيفة العمومية، حيث أشار إلى أنه بعد مرور أكثر من 12 سنة على تبني 2 دجنبر 2005 فإن التدابير التي جاء بها ظلت تنتظر إخراجها إلى حيز التنفيذ، كما خلص إلى أن أي من القطاعات الوزارية لم تتبن تصميمها المديري للاتركيز، على الرغم من كون الأمر كان مؤطرا بآجال قانونية. فالعبرة هنا تتمثل في التأكيد على أن تعطيل العمل بمقتضيات المرسوم يعزى لاعتبارات لا علاقة لها بجودة ما تضمنه من مقتضيات. 2) الإصلاح الميزانياتي في إطار مساعيها لتحديث إطار التدبير العمومي والانتقال من ثقافة الوسائل والمساطر إلى مقاربة تنبني على الأهداف والمسؤولية وقياس النتائج، أصدرت الحكومة القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية، وذلك تطبيقا للفصل 75 من الدستور، بهدف تقوية نجاعة أداء التدبير العمومي، وإرساء مبادئ وقواعد ترمي إلى تحسين شفافية المالية العمومية، وتعزيز دور البرلمان في مناقشة الميزانية ومراقبة المالية العمومية. الأكيد أن لهذا الإصلاح الميزانياتي آثار محتملة على البنيات الإدارية المركزية، فالأمر لا يتعلق بمجرد تعزيز دور البرلمان في مناقشة الميزانية ومراقبة المالية العمومية، ولكنه أيضا دافع لإصلاح عميق للدولة، حيث الهندسة الجديدة لنفقات الميزانية تتمحور حول السياسات العمومية التي يتم تنزيلها والأهداف المسطرة، والمترجمة إلى برامج توزع بدورها إلى مشاريع أو عمليات. حسب ما ورد في المادة 39 من القانون التنظيمي لقانون المالية، فإن البرنامج هو "عبارة عن مجموعة متناسقة من المشاريع أو العمليات التابعة لنفس القطاع الوزاري أو المؤسسة، تقرن به أهداف محددة وفق غايات ذات منفعة عامة، وكذا مؤشرات مرقمة لقياس النتائج المتوخاة، والتي ستخضع للتقييم قصد التحقق من شروط الفعالية والنجاعة والجودة المرتبطة بالإنجازات". أما المشروع أو العملية فهي عبارة مجموعة محددة من الأنشطة والأوراش التي يتم إنجازها بهدف الاستجابة لمجموعة من الاحتياجات المحددة (المادة 40). من المفترض أن يؤدي هذا الإصلاح الميزانياتي إلى ثورة إدارية حقيقية، وأن يفضي إلى إعادة تشكيل بنيات الإدارات المركزية، وأن يعاد تكوين المديريات حول البرامج بدل المنطق التقليدي الحالي الذي يتمحور حول المديريات والاختصاصات العمودية والأفقية. والأكيد أن هذا التعايش الملغوم بين المنطقين لن يدوم كثيرا. 3) التعديل الوزاري لحكومة سعد الدين العثماني بمناسبة هذا التعديل تم تقليص عدد أعضاء الحكومة في نسختها الثانية إلى 24 عضوا بعد أن كانت تتكون من 39 وزيرا وكاتب دولة في النسخة الأولى. وإن كان إدخال تعديلات على التركيبات الحكومية، مهما كان حجمها، ممارسة معمول بها في جميع دول العالم لأسباب سياسية واقتصادية أو غيرها، فإن الملاحظ أن هذا التعديل في حكومة سعد الدين العثماني أعقبه ارتباك واضح في التعامل مع القطاعات التي تم الحديث عن حذفها أو تجميعها، بل يمكننا القول بشأن بعضها أنها أحيلت على البطالة في انتظار ما سيقرر بخصوص وضعيتها. إذا كان رئيس الحكومة قد حرص على تسويق صورة إيجابية عن فريقه الحكومي الجديد تحت عناوين النجاعة والكفاءة والتشبيب...، فإن الجانب الآخر من الصورة يكشف أن تقليص الحقائب الوزارية هو تلك الشجرة التي تخفي غابة المشاكل التي يتخبط فيها الجهاز البيروقراطي. فاستفراد المركز بالاختصاصات حتى البسيطة منها يجعل قدرة وزير على الإشراف على أكثر من قطاع والتفرغ للمهام ذات الطابع الاستراتيجي محل تساؤل، لذلك لا غرابة أن نشهد أن بعض القطاعات قد تراجعت مردوديتها مباشرة بعد التعديل، ثم إن التضخم الذي تعرفه هياكل الإدارة المركزية يغيب الانسجام في توزيع الاختصاصات داخل القطاع الواحد، ويجعل مبرر عقلنة المشهد الحكومي غير مكتمل في ظل غيابه عن الإدارة المركزية. وإن كنت أجد مبررات قبيل التعقيدات والصعوبات التي تنطوي عليها إجراءات إعادة انتشار الموظفين والنتائج التي يمكن أن تترتب عنها، خاصة ما يتعلق بالعلاقة مع المركزيات النقابية، وكذا حاجة قرارات إعادة هيكلة الوزارات الجديدة إلى فترة زمنية طويلة لإعدادها، غير مقنعة للإبقاء على هذا المشهد الغامض الذي توجد عليه العديد من القطاعات، فإنها قد تجعل الحكومة الحالية تفضل ترك الأمور كما هي عليه وإرجاء إيجاد الحلول إلى الولاية الحكومية المقبلة. 4) مواجهة تداعيات أزمة كورونا لطالما اعتبر إصلاح القطاع العام أهم الأجوبة التي تقدمها مختلف الدول في مواجهة الأزمات التي تعصف بها خاصة الاقتصادية منها، زيادة على أن من أهم الانتقادات التي توجه للتنظيم البيروقراطي كونه لا يسمح بالتجديد إلا عندما تصبح الاختلالات كبيرة بشكل واضح، اعتبارا لأن هذا التجديد يتم فقط بواسطة أعلى الهرم. وبالتالي فإن أي تغيير لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الأزمة "changement par crise". بقدر ما سيترتب عن جائحة كورونا من آثار سلبية تمتد لكافة مناحي الحياة بفعل التراجع المرتقب تسجيله على مستوى كافة المؤشرات الاقتصادية، فإنها بالمقابل تشكل فرصة للدول من أجل اتخاذ قرارات حاسمة طالما كان التعاطي معها يتسم بالتردد والمماطلة خوفا من تداعياتها. لذلك نجد أن مؤشرات هذا التوجه في المغرب انطلقت مبكرا، ومن أعلى هرم السلطة، إذ دعا ملك البلاد في خطابه لعيد العرش الأخير الحكومة إلى الإسراع بإطلاق إصلاح عميق للقطاع العام، ومعالجة الاختلالات الهيكلية للمؤسسات والمقاولات العمومية، قصد تحقيق أكبر قدر من التكامل والانسجام في مهامها، والرفع من فعاليتها الاقتصادية والاجتماعية. 5) الشروع في إصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية في إطار تنزيل ما جاء في الخطاب الملكي الأخير بمناسبة عيد العرش، خاصة ما يتعلق بإطلاق إصلاح عميق للقطاع العام ومعالجة الاختلالات الهيكلية للمؤسسات والمقاولات العمومية، سطر منشور رئيس الحكومة بمثابة مذكرة توجيهية لإعداد مشروع قانون المالية 2021 ثلاث أولويات تؤطر إعداد هذا الأخير، وهكذا تضمن المنشور ضمن أولوية "التأسيس لمثالية الدولة وعقلنة تدبيرها" الدعوة إلى: - الرفع من نجاعة المؤسسات والمقاولات العمومية، وتركيز أنشطتها على المهام الرئيسية التي أحدثت من أجلها وتحسين حكامتها وعقلنة تدبيرها من أجل الرفع من فعاليتها الاقتصادية والاجتماعية، وربط تخصيص اعتمادات الدعم الموجه لها بنجاعة الأداء؛ - اقتراح حذف بعض المؤسسات والمقاولات العمومية أو بعض فروعها، التي لم يعد وجودها يحقق الغايات المرجوة؛ - اقتراح إنشاء أقطاب كبرى عبر تجميع عدد من المؤسسات والمقاولات العمومية التي تنشط في قطاعات متداخلة أو متقاربة، وذلك قصد الرفع من المردودية وضمان النجاعة في استغلال الموارد وعقلنة النفقات. الأكيد أن هذا الورش ستمتد إسقاطاته لتمس اختصاصات وهيكلة العديد من القطاعات الوزارية، خاصة تلك التي تقع تحت وصايتها المؤسسات العمومية موضوع التجميع أو الحذف، كما أنه لا يتصور الحديث عن حكامة القطاع العام دون أن يشمل الإدارات العمومية التي تشكل عموده الفقري. 6) بلورة نموذج تنموي جديد بتاريخ 12 دجنبر 2019 عين الملك اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، والتي أوكلت إليها مهمة رسم معالم نموذج تنموي متجدد ينطلق من تشخيص موضوعي للواقع بكافة أبعاده، ويوفر الإجابات الملائمة والقابلة التحقق. ويمكن القول بشكل عام أنه بغض النظر عن تفاصيل وطبيعة هذا النموذج، فإن نجاحه سيظل رهينا ببناء نموذج إداري حديث قادر على مواكبة وتنفيذ ما سيسطر من سياسات وبرامج للتنمية، وتتوفر فيه مقومات الحكامة والنجاعة في الأداء، مما يتطلب إرساء منظور مغاير يحكم تنظيم نظامنا الإداري المركزي. بالنظر لطبيعة المهمة المنوطة باللجنة، فالأكيد أن هذه الأخيرة ستكون أمام مسؤولية تناول المداخل الكبرى للنموذج التنموي الجديد، وبالتالي اقتراح إصلاحات وخيارات هيكلية تهم أولويات الدولة في السنوات المقبلة. من هذا المنطلق فإن النقاش حول أزمة القطاع العام والإدارة العمومية بشكل خاص في ضوء الاعتبارات التي ذكرناها سابقا، وكذا سياقات أشمل تتعلق بإعادة تعريف وظائف وأدوار الدولة ومطلب فعالية الفعل العمومي، وكذا بروز مفهوم الحكامة الذي يقوم على تعدد الشركاء في الفعل العمومي، لا بد وأن يستحضر في صياغة اللجنة لتوصياتها. على سبيل الختم إن تتبع مسار إحداث وتنظيم الإدارة المركزية يبين أننا منذ البداية لم نحسن اقتناص فرصة نقطة الانطلاقة، وأن الخلل استمر وتعاظم على مدار السنوات اللاحقة ولم يتم تصحيحه، حيث تزايد عدد وحجم القطاعات الوزارية وتعقدت وتشابكت وظائفها، دون أن يفضي الأمر لوضع خارطة طريق واضحة. كما يتبين أن هذا الورش كان أكبر من السلطة الحكومية التي أسندت لها مهمة الإشراف على إعادة تنظيم وهيكلة النظام الإداري لاعتبارات لا تتحمل بالضرورة مسؤوليتها، كما أن إحداث لجنة تنظيم الهياكل الإدارية واللاتمركز الإداري بمقتضى المرسوم رقم 2.05.1369 بتاريخ 02 دجنبر 2005 لم يسهم في تحقيق الأهداف التي حددت لها. إن السياق الحالي المطبوع بالإجراءات التقشفية والحلول المؤلمة في مواجهة تداعيات وباء كورونا المستجد هو أيضا فرصة سانحة لتغيير منطق تنظيم وعمل المستوى المركزي، بما لا يجعل منه ضحية لسياسة "المحاصصة" التي يتم وفقها تشكيل الحكومات، ويقود نحو تقوية التماسك الإداري وعقلنة البنيات الداخلية للوزارات وتقوية فعاليتها وتبسيط المشهد الإداري. بقي أن أشير في الأخير، وتلمسا مني لبعض خيارات الإصلاح الممكنة، إلى أنني أعتقد أن الدعوة إلى إحداث رجة كبيرة بمنطق البينغ بانغ (bing bang) في تدبير عملية الإصلاح، بما يؤسس لتغيير البراديغم الذي يحكم هيكلة وعمل الإدارة العمومية (كما هو الشأن بالنسبة لإحداث هيئات تنفيذية منفصلة (l'agenicification)، حيث الفصل الواضح بين مستوى إعداد السياسات ومستوى تنفيذ وتدبير هذه السياسات....) تعوزها الكثير من الواقعية. *باحث في مجال الإصلاح الإداري، وحاصل على الدكتوراه في القانون العام